في العالم العربي اليوم تنتشر أخطاء لغوية كارثية ويعمّ جهل بقواعد اللغة الأساسية، وهي حالة نعيشها بدءاً من لافتات الشوارع والمؤسسات الحكومية والجهات الرسمية حتى نوافذ الفضائيات والصحف، وطبعاً، مواقع التواصل الاجتماعي.
يتحدث نحو نصف مليار نسمة باللغة العربية، أي بنسبة 6.6% من التعداد العالمي، وتحتل اللغة العربية بذلك المرتبة الرابعة ضمن تصنيف أكثر اللغات انتشاراً، قبل الروسية والفرنسية وحتى الإسبانية.
وبما يزيد عن 100 مليون نسمة، تتربع مصر على قائمة أكثر الدول تعداداً للناطقين بالعربية، فضلاً عن تاريخ مؤسسة الأزهر في نشر اللغة ودراسة مختلف العلوم بها حتى للوافدين الأجانب، وجهود المجمع اللغوي في مختلف القضايا.
ولكن اللغة العربية في مصر لم تعد كما كانت عليه، فالأخطاء الشائعة توغلت وأضحت بمثابة الاستخدامات الرسمية، والنطق الخاطئ للكلمات أصبح رائجاً في كل المجالات، تتلقاه الأعين والآذان ويُكتب كأنه صحيح حتى أنه تثبّت في الأذهان.
استمرار الخطأ وانتشاره دفع مجموعة من المعلمين والمصححين اللغويين إلى تدشين مبادرات لإحياء اللغة العربية والتعريف بقواعدها الأساسية، حيث قاموا بتكريس وقتهم ومجهودهم للتفكير خارج النطاق التقليدي لتعليمها، بهدف تحرير اللغة من مأزقها الحالي، ولكن هل تكفي نيّة هذه المبادرات؟ وأليست كغيرها من مجالات استخدام اللغة، بحاجة لشبكة واسعة تدعمها وتدققها وتضبطها؟
مبادرة اكتب صح: علوم اللغة في ثوب جديد
أولى تلك المبادرات كانت اكتب صح، وهي مشروع أطلقه الصحافي والمدقق اللغوي حسام مصطفى إبراهيم، في أواخر 2013 بهدف مساعدة محبي اللغة العربية على تلافي الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية الشائعة، ورغبة منه أن تنتشر الرغبة للكتابة بلغة سليمة خالية من العيوب. وجد حسام، خلال عمله في مختلف المؤسسات الصحفية، العديد من الأخطاء المتكررة، وأن الجهات التي تُخاطب العامة والمثقفين والأدباء ينقصها ضبط أهم شيء –اللغة– لذا كانت بداية مبادرته نحو الصحفيين ومنها إلى الجميع. يقول حسام لرصيف22 إنه عمل على إعادة تقديم علوم اللغة في ثوب جديد وبسيط، وشرح القواعد التي يحتاجها المستخدم العادي في حياته اليومية، مع البعد عن الأمثلة العتيقة الصعبة واستخدام الأمثلة المعاصرة في الشرح، فضلاً عن التدريبات التفاعلية للتأكد من ثبات المعلومة، وتنظيم ورش عمل. ومع زيادة الإقبال على الصفحة والرغبة في توسيع قاعدة الانتشار، أطلق حسام موقعاً، بنفس اسم المبادرة، يضم فيديوهات ومقالات وموضوعات لغوية طويلة. تدهورت مكانة اللغة بفعل المناهج الدراسية الجامدة وعدم الاهتمام بتطويرها، سواء من الدولة أو المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى غياب المواد الناطقة بالفصحى في الإذاعة والتليفزيون، وضرورة تعلم اللغات الأجنبية لتأمين الوظائف المرموقة، وترافق ذلك مع التركيز على مدارس اللغات الأجنبية. كل هذا استدعى مجهوداً واعياً لتغيير تعامل الدارسين مع اللغة العربية.ذاكر لي عربي: اللغة والموسيقى
قبل نحو عامين كان كريم شندي معلماً للغة العربية، ووجد أنّ الطرق التقليدية في التدريس لا تكفي ولا تحقق المرتجى منها، فحاول ابتكار طرق جديدة تدخل الموسيقى والمتعة في الدراسة، وتغيّر تعامل الطلاب مع فكرة تعلّم اللغة، ولكن مبادرته لم تلق ترحيباً في السلك التدريسي، حيث اعتبر ما يقوم به "خارجاً" عن المألوف.هل يحدث الفنّ فارقاً في إتقان اللغة العربية وفهمها، إن استخدم اللغة الفصحى؟
غرامة تصل إلى عشرة آلاف جنيه، وحبس لـ6 أشهر: بند عقوبات اقترحه مجمع اللغة العربية في القاهرةوفي أحد الأيام، وجد أن ابنة شقيقته تواجه صعوبة في حفظ أحد النصوص المقررة، فاقترح طريقته الموسيقية، وصوَّر معها مقطعاً نشره على "يوتيوب" لتعود له كلما شاءت، وبعد نحو شهر اكتشف أن الفيديو قد حصد آلاف المشاهدات، وعندها قرّر أن يعود لفكرته الأساسية وأن يستكمل عرض المناهج الدراسية بهذه الطريقة. جمع شندي بين وظيفته كمعلم وبين حبّه للموسيقى، وتبنّى فكرة تلحين النصوص والموضوعات الدراسية في مناهج اللغة العربية لمختلف المراحل التعليمية، بشكل يُسهِّل حفظها وفهمها، وأطلق قناة ذاكر لي عربي عبر "يوتيوب" لتضم عشرات الفيديوهات عن مناهج اللغة العربية من المرحلة الابتدائية بمختلف صفوفها وحتى الصف الأول الإعدادي مع العمل على استكمال باقي المراحل. أضاف شندي في حديثه مع رصيف22 أنّ اللغة العربية هي من أغنى لغات العالم وأصعبها، فهي غنية بالمفردات مقارنة مع اللغات الأخرى، وتدريسها يحتاج لمجهود كبير وابتكار من المعلم لتبسيط المعلومة. ويرى كريم أن مدارس اللغات أثَّرت بشكل كبير على اللغة، مع ظهور اتجاه يقلل من أهمية دراسة العربية مقابل اللغات الأخرى، فضلاً عن الانصراف لتعلم واحتراف لغات أجنبية أخرى منذ الصغر.
نحو وصرف: قواعد اللغة في متناول الجميع
بدأت مبادرة نحو وصرف، في 2015 على يد المصحح اللغوي، محمود عبد الرازق، لتقريب اللغة لكل مستخدميها، وشرح ما قد يبدو في قواعدها من تعقيد. تركز المبادرة على مناقشة عدة قضايا، أهمها طرح القواعد اللغوية، من نحو وصرف وإملاء، وعرض للأخطاء الشائعة مع توضيح صوابها في كثير من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. يقول عبد الرازق إن استخدام المعاجم والبحث عن جذور الكلمات كان صعباً في الماضي، فكان على الطالب البحث في جذر الكلمة، لأن معظم المعاجم اتبعت ذلك الترتيب، والمرور على صفحات عديدة حتى يصل للكلمة التي يبحث عنها، أما حالياً فأصبح استخدام المعاجم أكثر سهولة لتوافرها على الإنترنت بصيغ مختلفة. ينوي عبد الرازق إطلاق مجموعة فيديوهات تخدم مبادرته، فبحسب رأيه، سيكون من المفيد للمتابعين أن يسمعوا النطق الصحيح وأن يشاهدوا المعلومة المرئية، مما سيساعد في تثبيتها في الذهن أكثر من مجرد قراءتها. كما ينوي عبد الرزاق إطلاق الطبعة الرابعة من كتاب "الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الثقافية".كبسولات لغوية: الفكاهة في خدمة تعلم اللغة
رغم إيمانه بأهمية الأدب بكل أشكاله، لمس الشاعر محمود موسى أن واقع الشعر الفصيح بات بعيداً عن واقع الجمهور أنفسهم، لوجود حاجز كبير بينهم وبين اللغة العربية. وهذا ما شجعه على إطلاق مبادرة كبسولات لغوية، لمناقشة القضايا اللغوية وكسر الحواجز بينها وبين الجمهور من خلال الـ«كوميكس» والفيديوهات الكوميدية، مستفيداً من رواج تلك الطريقة في مواقع التواصل الاجتماعي للتعليق على معظم الأحداث. هنا مثال عنها من تعليقه على أغاني الفنان العراقي كاظم الساهر: يقول موسى، إن التراث الأدبي –شعراً ونثراً– قادرٌ على التأثير بتعلم العربية، إذا عُرض بطريقة غير معقدة، مؤكداً على قدرة الشعراء والأدباء المعاصرين في المساهمة في ذلك بشرط أن يوظفوا أدوات تجذب القراء من مختلف الأعمار والخلفيات، خاصة في ظلّ الشعبية المتراجعة للقراءة.صحح لغتك: لشوارع سليمة قواعدياً
في عام 2014 أطلق المصحح اللغوي، محمود سلام، مبادرة صحح لغتك لتنقية البيئة من الأخطاء اللغوية. يقول سلام، إن مبادرته تهدف لتبسيط اللغة العربية وتقديمها بشكل يجذب المتخصصين وغير المختصين، ويعتبر مهمته الأولى تصحيح الأخطاء الشائعة والمرئية في أغلفة الكتب وإعلانات الشوارع واللافتات. الجديد الذي يميز مبادرته عن غيرها من المشاريع، هو حرصه على أن يشترك القراء في الرصد والتصحيح من خلال عدة أوسمة. يؤكد محمود لرصيف22 أن طبيعة اللغة "سماعية" في المقام الأول، وهذا لا يتوفر في اللغة العربية كما هي مستخدمة اليوم لقلة المتحدثين بالفصحى، وهو برأيه سبب أساسي في انفصال الأجيال عنها بالتدريج حتى انحصرت في امتحان النحو الذي يستصعبه الطلاب. يضيف سلام، أنّ الأجيال السابقة كانت تستمع لقصائد مغناة على لسان أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وغيرهم، وكانوا يحفظون كلماتها عن ظهر قلب، فإذا قُدِّم الفن باللغة الفصحى الآن سيصنع فارقاً كبيراً في جودة اللغة عند كثيرين.الغرامة والحبس في انتظارك
اقترح مجمع اللغة العربية في القاهرة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قانوناً لحماية اللغة ووضع 20 مادة لا تزال بانتظار التطبيق. مشروع القانون قدم عدة مواد، أبرزها المادة (12) التي تنص على إلزام المؤسسات الصحفية والإعلامية بتعيين مصححين لغويين لتحري صحة ما يُنشر أو يُذاع من الناحية اللغوية، والمادة (13) التي اشترطت اجتياز المرشحين للعمل في عدة وظائف لامتحان كفاية في اللغة العربية. ووضع المجمع عقوبات تُطبق على مخالفي تلك المواد، تبدأ بغرامة مالية لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ويصل الأمر للحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر. يقول حسام مصطفى إبراهيم، إن في القانون جوانب جيدة وأخرى تحتاج لإعادة النظر، مثل بند العقوبات، مضيفاً أنه لا يعتقد أن مجلس النواب المصري سيقوم بمناقشته، لعدم توفر اهتمام جديّ باللغة العربية، يدفع المجلس بوضع قانون لحمايتها. هناك قوانين في بعض الدول العربية لحماية اللغة، مثلما هو الحال في الأردن، ويتولى تطبيقها مجمع اللغة هناك، وتفرض العقوبات على المخالفين. ولكن حسام يؤكد أن الأمر يحتاج أولاً بأن يكون هناك إيمان مجتمعي بأهمية اللغة وعلاقتها بالهوية، ووعي لخطورة ما تتعرض له، ومن ثَم التحرك لحمايتها، أما والحال كما هو فلن يفعل أحد شيئاً.من أين تكون البداية؟
يجمع أصحاب المبادرات أن الحل لا بدّ أن يأتي من البدايات الأولى، أي من فترة التعليم في الروضة والمدارس. كما أنّ هناك اجماع على ضرورة إصلاح المناهج التي تُقدَّم للطلاب في المدارس وربطها بالواقع الذي يعيشونه، ولابدّ أن يترافق ذلك مع دور أبرز للمتخصصين الذين يفهمون طبيعة اللغة جيداً ويمكن أن يقدموا مجالات لكيفية تقديمها ولفت الانتباه إليها. قد يكون تجريم الخطأ اللغوي في لافتات الشوارع والأوراق الرسمية حافزاً إضافياً للاهتمام باللغة، إلا أنّ وضع شرط الإلمام بحد أدنى من اللغة لجميع المشتغلين بوظائف تتطلب لغة عربية سليمة من شأنه التخفيف من حدة الفوضى في التعامل مع اللغة. وتبقى أهم نقطة في هذا المجال، إصلاح لغة الوسط الإعلامي لأنه أكثر فئة مؤثرة في الناس وفي علاقتهم مع لغتهم وكتابتهم وثقافتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...