شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
استغلّوا علاقاتهم برأس السلطة... سفراء دول أوروبية نهبوا آثار مصر

استغلّوا علاقاتهم برأس السلطة... سفراء دول أوروبية نهبوا آثار مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 27 نوفمبر 201705:44 م




لم يكن برناردينو دروفيني ممثلاً لفرنسا في مصر فحسب، بل أيضاً موضع ثقة محمد علي باشا وأمين سره، وهذا ما منحه وضعية استثنائية أفادته كثيراً في مجال التنقيب عن الآثار المصرية والاتجار بها. وبحسب ما ذكره محسن محمد في كتابه "سرقة مُلك مصر"، فإن دروفيني إيطالي الأصل ولد سنة 1776، وحاز الجنسية الفرنسية وشارك في حملة نابليون على مصر سنة 1798، وعمل قنصلاً عاماً لفرنسا في مصر خلال فترتين: الأولى بين عامي 1804 و1814، والثانية لتسع سنوات بدءاً من عام 1820، إذ فصلته الحكومة ثم أعادته إلى العمل لأنه كان صديقاً لوالي مصر. وبدأت سرقة الآثار المصرية عبر القناصل بعد أن صدر كتاب "وصف مصر" وتضمّن رسومات لشخصيات ولآثار مصرية بريشة العالم والرسام الفرنسي دومينيك فيفان، ما جذب إليها اللصوص في عصر محمد علي، بحسب محسن محمد. 

دروفيني... ثلاث مجموعات أثرية



استغل القنصل الفرنسي صداقته مع الباشا في تكوين ثروات هائلة من تجارة الآثار. يذكر الدكتور أشرف محمد حسن علي في كتابه "الآثار المصرية المستباحة... الإدارة المصرية والآثار في القرن التاسع عشر" أن دروفيني حصل على فرمانات تنقيب تشمل مساحات شاسعة، واستخدم عدداً كبيراً من العمال، ووفّر الحماية الكافية لهم، إلى درجة أنه كان يحصل لهم على استثناءات من القيام بأعمال السخرة والتجنيد الإجباري. وبحسب ما ذكره المدير السابق لإدارة المضبوطات الأثرية بوزارة الآثار المصرية الدكتور يوسف خليفة لرصيف22، لم تكن الآثار تمثل أهمية لوالي مصر في ذلك الوقت، وبالتالي لم يمانع في حصول القناصل عليها مقابل مساعدتهم في تنفيذ إصلاحات اقتصادية كان يسعى إليها بمساعدة الدول الأوروبية، خاصةً فرنسا.


 جمع دروفيني مجموعة كبيرة من أوراق البردى، وعرضها على فرنسا فرفضت شراءها، فعرضها على ملك سردينيا (جزيرة إيطالية)الذي دفع ثمنها 400 ألف ليرة إيطالية وقدمها إلى متحف تورينو، ذكر محمد. ووقف رجال الدين الكاثوليك وراء الرفض الفرنسي لمجموعة دروفيني. وشرح علي أن تلك الآثار "تثبت أن مصر كانت موجودة قبل عام 4004 قبل الميلاد، وهي السنة التي بدأ فيها الخلق تبعاً لحسابات أجراها في القرن السابع عشر جيمس أسشار كبير الأساقفة واستخرجها من نصوص الكتاب المقدس، وأصبحت هذه المسألة عقيدة لاهوتية ثابتة، ما جعل السلطات الفرنسية تحجم عن شراء آثار قد تثير جدلاً نتيجة تعارضها مع تعاليم الكنيسة". تمكن دروفيني من تكوين مجموعة أثرية ثانية كانت أقل ثراءً من الأولى، ضمت خمسة آلاف قطعة تحتوي على مجوهرات وتماثيل وخمسين بردية وخمسمئة جعران (حشرة تشبه الخنفساء) وثماني لوحات جنائزية. اشتراها الفرنسيون بمبلغ 250 ألف فرنك فرنسي، وعرضت جميعها في متحف اللوفر.

 بعد ذلك، نجح دروفيني في تكوين مجموعة ثالثة وأخيرة كانت أقل ثراءً من المجموعتين الأوليين، وذكر حسن أنها بيعت إلى متحف برلين عام 1836 بمبلغ 30 ألف فرنك فرنسي.  


هنري سولت... مهمة أثرية في ثوب دبلوماسي


لم يكن يداني دروفيني أحد سوى الإنكليزي هنري سولت الذي عُيّن قنصلاً لبريطانيا في مصر عام 1815. وبحسب ما ذكره الدكتور حسام شلبي أستاذ الآثار المصرية لرصيف22 كُلّف الرجل بجمع أكبر عدد ممكن من الآثار للمتحف البريطاني، لذا دخل في حرب ضد نظيره الفرنسي شهدت تقديم رشوة لموظفي الحكومة، وعلاوة للعمال، وتحريض الأهالي للاستيلاء على الآثار التي عثر عليها المنافسون وشرائها بأثمان كبيرة. في عام 1818، أرسل سولت مجموعة ضخمة إلى المتحف البريطاني ولكن الأوصياء أبخسوه الثمن واشتروها بمبلغ 2000 جنيه استرليني، وهو يقل عن تكاليف الحفر والنقل، ورفضوا تابوت سيتي الأول فاشتراه السير جون سلون الذي دفع 2000 جنيه ثمناً له ووضعه في متحفه المعروف باسمه في لندن، حسبما روى محمد.
نشاط محموم للقناصل في الاستحواذ على الآثار... حين تسابقت الدول الغربية للحصول على الآثار المصرية
منذ حملة نابليون على مصر وفك شيفرة حجر رشيد، شاع الولع بالآثار المصرية وتسابق قناصل الدول الغربية إلى الاستحواذ على عشرات آلاف القطع الأثرية
واشترى مجموعة سولت الثانية التي حصل عليها بين عامي 1819 و1824 ملك فرنسا لويس الثامن عشر بمبلغ 10 آلاف جنيه، ووضعت في متحف اللوفر. 


 وحين توفي سولت بمرض معوي في أكتوبر عام 1827، لم يكن قد استوفى بعد ثمن مجموعته الأثرية التي باعها للفرنسيين، وإن كان قد نجح قبل وفاته بثلاثة أسابيع فقط في تكوين مجموعة أثرية ثالثة كانت أكبر من الأولى، ودون الثانية حجماً. شُحنت هذه المجموعة إلى لندن، وبيعت في مزاد علني كبير عام 1835. ضم المزاد 1270 قطعة شملت عملات وميداليات وتماثيل خشبية وحجرية وبرونزية ولفائف من مخطوطات البردى والجعارين والحلي الذهبية والمومياوات، وحققت نحو 7168 جنيهاً. هذا التنافس الشديد على آثار مصر أرجعه أستاذ الآثار المصرية الدكتور لؤي محمود سعيد إلى معايير ارتبطت بتلك الفترة الزمنية. وذكر لرصيف22 أن أولها أخلاقية إذ كانت الدولتان تريان أن هذه الآثار مهملة في وطنها، وأن الحصول عليها ووضعها في متاحفهما يحقق لها الرعاية المفتقدة باعتبارها إرثاً للإنسانية كلها. والمعيار الثاني هو السباق الحضاري في إطار استعماري، إذ أصبح الحصول على الآثار المصرية أحد مجالات التسابق بين الدول الغربية منذ فك شيفرة حجر رشيد وبداية الولع بالآثار المصرية. وتمثل الثالث في عدم وجود قوانين في تلك الفترة تجرّم البحث عن الآثار والاتجار بها، ما ساعد على التنقيب عنها بحرية تامة. ورغم أن هؤلاء القناصل كانوا يبحثون في البداية عن الآثار لخدمة متاحف بلدانهم، فإهم تحولوا إلى تجار يبيعون ما يعثرون عليه لمتاحف بلدان أخرى منافسة لبلدانهم رغبةً في الثراء السريع، ذكر سعيد.

قناصل فرنسيون وبريطانيون آخرون

لم يكن دروفيني وسولت القنصلين الوحيدين الممثلين لبلديهما ممّن عملوا بتجارة الآثار. بيافوان ودوران تعاقبا على رأس القنصلية الفرنسية خلال فترة عزل دروفيني عن هذا المنصب بين عامي 1814 و1820 وانخرطا في الطريق نفسها حتى أن دوران كوّن مجموعة أثرية ضخمة بيعت إلى متحف اللوفر، ذكر حسن.

شاركهما بعد ذلك سباتييه الذي كان يطلب بعضاً من الآثار التي تمتلكها الإدارة المصرية. كذلك أمدّ القنصل الفرنسي ديلابورت متحف اللوفر عام 1867 بعدد من التماثيل الفرعونية. ولم يفتأ جان فرانسوا ميمو، منذ توليه منصبه سنة 1829، أن يعلن في كل مناسبة عن رغبته في نقل ما يمكن جمعه من الآثار المصرية لفرنسا. وذكر سعيد أن جشع هذا القنصل كان أحد أسباب إصدار محمد علي قانوناً مصرياً لحماية الآثار عام 1835 نكاية به. الأمر نفسه انطبق على القناصل الإنكليز. جون باركر خلف سولت وحصل عام 1830 على تصريح من محمد علي للبحث عن الآثار أسفل المحال القديمة حتى منطقة الشلالات، وكذلك باتريك كامبل من 1833 حتى 1839.

أنستازي... التعاون مع وزير الوالي

لم يقتصر الأمر على قناصل بريطانيا وفرنسا. التاجر الأرميني جيوفاني أنستازي جاء من سوريا واستقر في الإسكندرية وعمل قنصلاً للسويد والنرويج طوال 29 عاماً، وحظي بثقة محمد علي ووزيره بوغوص بك يوسفيان، ناظر الخارجية والتجارة، ما شجعه على الانغماس في تجارة الآثار.



 جمع أنستازي كمية كبيرة من آثار سقارة والأقصر، وباع صفقة ضخمة للحكومة الهولندية عام 1828 ومجموعتين للمتحف البريطاني عام 1839 ومجموعة ثالثة لفرنسا سنة 1857.



] ولم ينسَ التاجر الأرميني أن يردّ بعض الجميل للبلد الذي يمثله، فأهدى تابوتاً ضخماً من الغرانيت لمتحف ستوكهولم. والغريب أنه أوصى بالثروة التي جمعها من التجارة في آثار مصر للأعمال الخيرية في السويد، بينما أوصى بدفنه في مدينة الإسكندرية، روى علي.

توسكانيا وسردينيا وبلجيكا

كذلك عُرف عن روزيتي قنصل توسكانا (إقليم في إيطاليا) اهتمامه بالتنقيب عن الآثار وتهريبها إلى الخارج. ذكر حسن أنه أهدى تابوتاً حجرياً إلى المتحف الإمبراطوري في فيينا، وآخر لفرانسوا شامبليون أثناء رحلته إلى مصر بين عامي 1828 و1830، ولكن العالم الفرنسي صرف النظر عن المسألة برمتها، بعد أن اكتشف أن تكاليف النقل باهظة فيما لم يكن التابوت ذا قيمة أثرية كبيرة. ولم يخرج قنصل سردينيا كارل بيدمونتي عن القائمة. عام 1829، منحه محمد علي تصاريح بالتنقيب في أماكن عديدة مع إمداده بالعمال، على أن يدفع هو أجورهم. وظل مصطفى آغا عياط المصري خمسين عاماً قنصلاً فخرياً في الأقصر لبريطانيا وبلجيكا وروسيا. وروى محمد أنه استغل الحصانة الدبلوماسية في تهريب الآثار، حتى أن حكومة بلجيكا استنكرت عمليات تهريبه المستمرة لأوراق البردى، فعزلته عن تمثيلها.

ألمانيا وأمريكا

ويكاد يكون الاهتمام بالآثار جامعاً مشتركاً بين القناصل الألمان العاملين في مصر خلال القرن التاسع عشر. ذكر علي أن القنصل العام البروسي فون بنز أهدى إلى متحف برلين عام 1855 تمثالاً للملك أمنحوتب الثالث، وأهدى البارون لبتروث إلى المتحف نفسه عام 1862 تابوتاً مرمرياً من عهد الأسرة الثامنة عشر، وأضاف ترافيرس كمية ضخمة من أوراق البردي المستخرجة من تلال منطقة الفيوم عام 1877. وكان لقناصل الولايات المتحدة نصيب من الكعكة. جورج غليدون عُين قنصلاً لأمريكا عام 1832 وقدم للمعهد الوطني في واشنطن بعضاً من قطع الآثار المصرية رغم أنه كان إنكليزي الجنسية، وانتزع القنصل الأمريكي ألبرت فارمان (1876 – 1881) موافقة الخديوي إسماعيل على نقل مسلة تحتمس الثالث إلى نيويورك. حسبما ذكر علي.

قوانين وتشريعات

دفعت هجمات القناصلة على الآثار عدداً من علماء المصريات، وعلى رأسهم شامبليون، إلى الضغط على محمد علي لوضع حد لهذه الفوضى، فأصدر في 15 أغسطس 1835 أول تشريع خاص بالآثار منع تصديرها إلى الخارج، وتضمن إنشاء دار تودع فيها القطع التي عثر وسيعثر عليها، إضافة إلى منع هدم وتخريب الأبنية القديمة بالصعيد، ذكر علي. وعام 1845، صدر تشريع جديد يعاقب مَن يتلف ويهدم الأبنية القديمة والتماثيل بالحبس من شهر إلى سنتين وتغريمه من أربعمئة قرش إلى ألفي قرش. وبحسب علي، شهد عصر عباس حلمي الأول ظهور تشريعين في عامي 1848 و1849 يشددان العقوبة على المخالفين. كما استهل سعيد باشا حكمه في 13 يوليو 1854 بسن قانون جديد يصب في المسار نفسه، وبدأ الخديوي إسماعيل حكمه سنة 1863 بمراجعة القرارات الخاصة بالتراخيص. ورغم أن هذه القوانين كبّلت القناصل فإنهم لم يوفروا جهداً في ابتكار حيل جعلتهم لا يقعون تحت طائلتها، مستغلين ضعف ذمم الموظفين في المنافذ الجمركية، كما أن محمد علي وأبناءه كانوا يسمحون بخروج آثار إلى بعض الدول التى ارتبطوا بعلاقات معها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image