شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من أمين معلوف إلى أليف شافاك ومحمد حسن علوان: تحدّيات كتابة عمل روائي عن الصوفية 

من أمين معلوف إلى أليف شافاك ومحمد حسن علوان: تحدّيات كتابة عمل روائي عن الصوفية 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 15 نوفمبر 201706:19 م
لا يكاد يوجد نادي كتاب على امتداد العالم العربي وفي المهجر إلّا ناقش الرواية في واحد من لقاءاته. منذ أن صدرت ترجمتها العربية (المُعتمِدة على الترجمة الإنكليزية للنص الأصلي باللغة التركية) لم يفتأ الكتاب يعصف بالأسواق. وحتى بعد مرور خمس سنوات على نشره، فهو لا يزال متصدّراً قوائم أفضل الأعمال مبيعاً، ناهيك بكثير من النسخ الرقمية المُقرصنة المتوفّرة مجاناً على الإنترنت… موسيقيون عرب وممثلون ورياضيون ورجال سياسة، بالإضافة الى آلاف من الأشخاص العاديين، يقومون على نحو يومي تقريباً باقتباس الحكم المأثورة عن الشيخ ورفيقه الأثير (كما وردت في الكتاب) في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي. نعم، أتحدّث عن جلال الدين الرومي ورواية أليف شافاك المقاربة لسيرته تحت عنوان "قواعد العشق الأربعون". ليس صعباً أن نفهم جاذبية الحكاية في أوساط الشباب المسلم المتعلّم الذي يعاني أغلبه من التنميط الثقافي ويبحث عن مفردات هوية خاصة به في عصر العولمة المضطرب. 40+rules+of+love40+rules+of+loveفتحت رواية شافاك أمامه باباً يفضي إلى حديقة سرية بدا الدين فيها غير متطلّب أو عدواني، بل مختلفاً عما يروّج له الشيوخ والأئمة العابسون وهم يتوعّدون العصاة بالويل والثبور ويصبّون لعناتهم من على منابر المساجد وشاشات التلفزة. ظهر جلال الدين الرومي كرجل ودود يهوى الشعر والموسيقى والرقص، ويدعو إلى المحبة المطلقة. الرواية التي تُرجمت لأكثر من أربعين لغة وباعت ملايين النسخ حول العالم، توّجت مؤلفتها أكثر الروائيات التركيات قراءة ومبيعاً، كما خطف نجاحها الأضواء من كتابها السابق (والأفضل برأيي) "لقيطة اسطنبول"، الذي كاد يزج بها في السجن بتهمة "إهانة الشعور القومي التركي". وفق معيار الحرفة الروائية، قد يبدو "قواعد العشق الأربعون" لقارئيه عملاً متناهياً في البساطة، يميل إلى الميلودرامية وترديد الكليشيهات، خصوصاً في الخط المعاصر من الحكاية، لكن الجانب النثري التأملي للنص، والمشبع بالروحانية، أبعد ما يكون عن السذاجة. الرواج الهائل للكتاب نتج عنه طلب لمزيد من المؤلفات عن الرومي وسواه من أعلام التصوّف. فاجتاحت رفوف المكتبات العالمية عشرات من الإصدارات الجديدة عن الموضوع نفسه عبر شتى الأجناس الأدبية. لكن تلك لم تكن الحال بالنسبة لرفوف الكتب العربية التي تخضع لمعايير مختلفة ترسم مسارات السياسات التحريرية لمعظم الناشرين. لا يخفى على أحد أن أهم دور النشر في العالم العربي اليوم، مع استثناءات قليلة، مملوكة لمستثمرين من دول الخليج، أو مجبرة (بسبب الضغوط المالية التي تعاني منها) على مراعاة الضوابط الاجتماعية والثقافية لآخر ما تبقى من أسواق الكتب المزدهرة بعد هبوب عواصف "الربيع العربي" وما تلاها من عنف وفوضى شاملة.
فتحت الرواية أمام الشباب المسلم باباً يفضي إلى حديقة سرية بدا الدين فيها غير متطلّب أو عدواني، بل مختلفاً عما يروّج له الشيوخ والأئمة العابسون وهم يتوعّدون العصاة بالويل والثبور
هل تتحرّر الرواية العربية في مقاربتها للتصوّف وحياة المتصوّفين؟
لهذه الأسباب أيضاً، فإن كثيراً من الناشرين والروائيين، سعياً وراء الفوز بإحدى الجوائز التي تمنحها الهيئات الثقافية في بلاد الوفرة، يحاذرون القيام بكل ما من شأنه أن يستفز مؤسساتها الدينية. عند مراجعة فصول التأريخ، سنجد بأن الصوفيين قد تعرّضوا مراراً للاضطهاد والتنكيل، فالمنصور بن الحلاّج، على سبيل المثال، تم تعذيبه وتقطيعه إرباً في القرن العاشر الميلادي في بغداد بتهمة طرح أسئلة عن فريضة الحج إلى مكة، وزعمه التوحّد مع الذات الإلهية من خلال إطلاق صرخته الشهيرة: "أنا الحق!”. المسلمون المتزمّتون يعتبرون الصوفيين طائفة مارقة تستخدم الدين عباءة تخفي تحتها ضلالتها، علماً أن السبل غير المعتادة التي سلكها المتصوفون في تدريس وممارسة طقوسهم جعلتهم صيداً سهلاً لمهاجميهم. القارئ المعاصر قد يعجز عن فك شيفرة الكثير من الشعر والنثر الصوفي، فالسرية التي أحاط الصوفيون أنفسهم بها كوسيلة حماية من بطش رجال الدين والسلطة تجعل مهمة فهم فلسفتهم أمراً شديد الصعوبة. لكن من المفترض بالغموض والتورية أن يفسحا المجال أمام بحر من الترجمات المعاصرة، ما يشكّل بدوره تربة مثالية لتشييد بناء روائي متميّز، خصوصاً بعد أن مهّدت شعبية كتاب أليف شافاك الطريق وهيّأت السوق لاستقبال مزيد من الأعمال عن التصوّف. Mout-sageerMout-sageerلا شك أن تلك العوامل (والمخاطر) قد جالت بذهن الروائي السعودي محمد حسن علوان وهو يكتب روايته "موت صغير" عن حياة المتصوّف محي الدين بن عربي الذي عاش في القرن الثالث عشر وعُرِف بمقولته "أُدينُ بدينِ الحب"، وهي الرواية التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها العاشرة. كما في "قواعد العشق الأربعون"، اعتمدت رواية علوان على مسارين، أحدهما معاصر والآخر تأريخي. هذا النمط كان قد ظهر قبل عقود (1988 تحديداً) في رواية "سمرقند" للأديب اللبناني الفرنكوفوني أمين معلوف عن سيرة الشاعر والفيلسوف الفارسي عمر الخيّام، الذي عاش في القرن الثاني عشر. نص معلوف الذي كتبه بالفرنسية تطرّق إلى التناقض بين نمط حياة الخيّام الحسّي ظاهراً والروحانية التي غلّفت رباعياته الشهيرة ودفعت بعدد من الباحثين إلى الزعم بأنه ربما كان صوفياً متوارياً. على الجانب الآخر، اعتمد علوان في "موت صغير" على بحث رصين، وقدّم نصه بأسلوب بليغ، استطاع أن يتحرّر فيه من الرومانسية المفرطة التي وسمت أعماله الأولى، وانطلق نحو آفاق أكثر تنوعاً ورحابة، فجاءت الرواية عملاً ممتعاً، وإن بدا واضحاً حرص مؤلفها على الامتثال لشروط الرقيبين (الداخلي والحكومي) بذكره فضائل الإسلام والتأكيد أن الصوفية لا تتعارض مع الدين. على الرغم من التشابه الجليّ بين هيكلية "سمرقند" و"موت صغير"، نرى أن الأخيرة قد خطت بحذر على تربة الأسئلة الوجودية التي قلبتها الأولى وحرثتها بإقدام وجرأة. يجب أن لا ننسى هنا أن شخصية ونهج ابن عربي أقل صدامية من شخصية ونهج الخيّام، الأمر الذي جعل التعرّض لسيرته خياراً أكثر أمناً حتى من الحديث عن جلال الدين الرومي وغرامه المثير للجدل. الآن وقد ظفر محمد حسن علوان بالجائزة المرموقة التي تُقدّم سنوياً تحت إشراف مؤسسة جائزة البوكر في لندن وتمويل هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، فكيف سيؤثر ذلك على عمله المقبل؟ هل يسعى إلى توظيف الشهرة الواسعة التي حصل عليها في تحدّي العوائق الكثيرة المفروضة على الروائي العربي المعاصر؟ هل يشجّع نجاحه، بالإضافة إلى التغيرات الاجتماعية المتسارعة التي تشهدها السعودية، كُتاباً عرباً آخرين على تأليف روايات أكثر جرأة عن الصوفية والمتصوفين؟ وكيف سيكون وقع ذلك كله على أسواق الكتب في الخليج والعالم العربي؟ هناك كم كبير من التساؤلات وكم قليل جداً من الإجابات، فمستقبل الأدب (والسياسة) في الدول العربية لم يكن أكثر التباساً مما هو عليه اليوم. كل ما نستطيع فعله في الوقت الراهن أن ننتظر ونرى. المدونة ترجمة عن النص الإنكليزي المنشور في موقع ArabLit.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image