قد يكون الرئيس الحريري اكتشف فجأة أن "لإيران رغبة جامحة في تدمير العالم العربي"، ولكن من غير الممكن أن يكون قد اكتشف مؤخراً الأمور الأخرى التي برّر بها استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، من فرض حزب الله أمراً واقعاً في لبنان بقوة السلاح إلى نشاطه الإقليمي وتوجيهه السلاح ضد السوريين.
فكل هذه الأمور هي جزء من المعادلة التي دفعته إلى قبول وصول الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا راضياً لنفسه ببيت الوسط، في لحظة شعر فيها بأن أبواب السعودية أمامه مغلقة ويكاد يأفل "نجمه" السياسي في "منفاه" الباريسي، وهو يعيش أزمة اقتصادية سببها تضييق القيادة السعودية التي أتت بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، على استثماراته في المملكة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أكثر من أي سؤال آخر، والذي يتأسس على مكان إعلانه استقالته، السعودية، هو: ما هي الخطوة التالية؟ استقال من أجل ماذا بالضبط؟ وهل هناك أساساً خطوة تالية؟
[caption id="attachment_126740" align="alignnone" width="1024"] الصحف اللبنانية في 6 نوفمبر 2017[/caption]فشل الشراكة
ضمنت السنة التي قضاها الحريري في منصبه الاستقرار للبنان، وسحبت الكثير من الاحتقان الموجود في الشارع اللبناني عامة والسنّي خاصةً على خلفية إمعان حزب الله في مشاركته في الحرب السورية وتعنّته في رفض إيصال مرشح لا يرضى عنه إلى سدّة رئاسة الجمهورية اللبنانية، وهما الموقفان اللذان يلخّصان مجمل هيمنته على السياسة في لبنان.
استطاع الحريري أن يُعيد، ولو شكلاً، التوازن بين الطوائف والتيارات السياسية في لبنان، بناءً على فرضية أنه جزء من تسوية معيّنة سيقدّم فيها حزب الله تنازلات من أجل الحفاظ على الاستقرار.
نجحت العملية في الظاهر إلى حد بعيد، مع أن التنازلات التي سوّق فريقه لفكرة أن حزب الله قدّمها كانت أشبه باختراعات. الأكيد أنه ساعد في تمرير سنة من عمر بلده بدون هزّات أمنية. ولكن الأكيد أيضاً أنه لم ينجح في كبح جماح فرس حزب الله التي تعدو بين لبنان وسوريا والعراق، على أقل تقدر.
في التشابك اللبناني السوري، غطّى الحريري عملية طرد الجماعات المسلّحة من جرود عرسال وبعلبك والقاع، ولولا ذلك لما كان يمكن أن تمرّ بهذه السلاسة لبنانياً. وبذلك، ساعد في تمتين معادلة الاستقرار اللبنانية القائمة ولكنه ساهم في إراحة حزب الله في ساحات عملياته في العمق السوري.
وآخر ما قام به كان توقيعه على مرسوم تعيين سفير لبناني في سوريا، في خطوة لا يمكن القول إنه خطاها مضطراً لأن كل العوامل التي تساعده على رفضها قائمة في لبنان، بل يمكن القول إنها تندرج في إطار رؤية سياسية خاصة لفريقة تعكس شعورهم لبرهة بأنهم يستطيعون نسج استراتيجيات سياسية بمعزل عن الغطاء السعودي.
وكان قد سبق ذلك زيارة وزير الصناعة حسين الحاج حسن، أحد وزراء حزب الله، إلى سوريا والتي أثبتت أن وزراء تشكيلته الحكومية لا يراعون ضرورة تمكينه من صناعة صورته كموازن لهم في القرارات الاستراتيجية.
باختصار، كانت حسابات الحريري خاطئة وأفضت إلى إلقائه بيان استقالته من السعودية. باستقالته، عادت المملكة إلى لبنان، بعد أن فشلت في ذلك من خلال وجوده في الحكومة.
بعد استقالة الحريري من الرياض، ما الخطوة التالية؟ استقال من أجل ماذا بالضبط؟ وهل هناك أساسا خطوة تالية؟
استقالة الحريري أعادت السعودية إلى لبنان بعد أن فشلت في ذلك من خلال وجوده في الحكومة. ما الخطوة التالية؟
قشة ولايتي
ولعلّ تصريحات مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي من السراي الحكومي هي القشة التي قصمت ظهر البعير.
فاض كيل السعوديين بسماعه يتفاخر بكون "الانتصار السوري والعراقي يشكلان انتصار محور المقاومة على مستوى المنطقة"، من منبر يُفترض أن يكون ممثلاً لسياساتهم في لبنان، على الأقل بحسب حساباتهم، وفي وقت كان وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان يغرّد داعياً إلى "لجم" حزب الله و"معاقبة مَن يعمل ويتعاون معه سياسياً واقتصادياً وإعلامياً"، لا بل "العمل الجاد على تقليمه داخلياً وخارجياً ومواجهته بالقوة"، مع ما في الخطوة الأخيرة من تناغم مع دعوة إسرائيل إلى تشكيل تحالف دولي ضده.
بين التصريحين التقى الحريري بالسبهان. وصلتنا من لقائهما صورتهما وهما مبتسمين والتي غرّدها الأول وأعاد تغريدها الثاني، ولكن لم يصلنا ما دار بينهما بالفعل، ولعلّه لم يدر أي نقاش حول أمور أساسية، لعدم توكيل السبهان بملف العلاقة بالحريري أو ربما لأن القرار السعودي برفع الغطاء عن حزب الله من خلال دفع الحريري إلى الاستقالة اتُّخذ بعد أيام، وهذا غير مستغرب في السياسة السعودية.
بالنتيجة، لم تحمل السعودية بقاء الحريري في حكومة تشرّع تحركات حزب الله، وهي تحركات تضعها المملكة ضمن مخطط إيران الذي ترفع الصوت ضده منذ فترة طويلة.
وبالتأكيد لم يساعد حزب الله الحريري على تجنّب هذه الخاتمة لأنه يصرّ منذ سنوات على الظهور بمظهر المهيمن المطلق على لبنان، ضارباً بعرض الحائط معادلة دولة-مقاومة التي كان يحقق من خلالها الأمور الضرورية استراتيجياً له مقابل تسجيل خصومه بعض النقاط عليه من خلال مؤسسات الدولة، ما يضمن فصلاً نسبياً بين الدولة وبين الدويلة.
كان لا بد، من منظار سعودي، أن يُرفع الغطاء المؤسساتي عن تصرفات حزب الله، ما يفسح المجال أمام القول إنها لا تحظى بإجماع لبناني، وهو ما كانت تصعّبه عملية مشاركته في حكومة يرأسها سعد الحريري.
قطعة في بازل
يمكن وضع استقالة الحريري في سياق الإعداد لتصعيد إقليمي يُعيد تحجيم دور حزب الله ودور إيران بشكل عام في الشرق الأوسط، بعد إثارة المكاسب التي حققتها على الأرض في العراق وسوريا، وثبات الحوثيين في اليمن لأكثر من سنتين، التقاء مشاعر الامتعاض بين السعودية وإسرائيل، وهو ما عبّرت عنه تصريحات لرئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ولمسؤولين إسرائيليين آخرين.
وبموجب هذه الفرضية تُعيد استقالة الحريري تعريف حزب الله كجماعة مسلحة "مارقة" منفصلة عن الدولة اللبنانية، ما يوسّع مروحة الخيارات التي يمكن اتخاذها ضدّه، وعلى رأسها ضربة إسرائيلية للحزب الذي تتنامى قوته.
فرضية ضربة إسرائيلية لحزب الله الذي تتنامى قوته تتضمن عوامل كثيرة تمنع حصولها.. فما المتوقع؟
ولكن هذه الفرضية تتضمن عوامل كثيرة تمنع حصولها، على رأسها أن تمدد عمليات حزب الله في السنوات الأربع الماضية وما أفضت إليه مجريات الحرب السورية ومجريات الحرب ضد داعش في العراق، غيّرت المعطى الإقليمي بشكل لم يعد ممكناً معه القياس على المعطيات التي أطلقت حرب تموز 2006.
عام 2006، كان يمكن لحرب إسرائيلية ضد حزب لله أن تحجّم هذا الحزب وتوصل رسالة قوة للنظام السوري الجار تدفعه إلى تغيير سياساته وفصل تحالفه مع الحزب اللبناني فيختنق حزب الله داخل لبنان بعد كسر المسار الذي يربطه بحاضنته الإقليمية إيران.
الآن، تحجيم حزب الله يقتضي عملية مثلثة الأضلع تتضمن ضربه في لبنان، واستعادة المكاسب التي حققها النظام السوري في الآونة الأخيرة وتغيير المعادلة السياسية التي أفضت إليها حرب العراقيين ضد داعش.
حالياً، ولأول مرة في التاريخ، تربط بين حلقات ما سمّاه الملك الأردني عبد الله الثاني بالهلال الشيعي طريق تصل إيران بالعراق بسوريا بلبنان ولا تسيطر عليها أنظمة بل توازنات تمزج بين أنظمة وبين جماعات مسلّحة مدعومة من إيران.
تعي إسرائيل والسعودية ذلك وتشتهيان تغيير هذه المعادلة، ولكنهما تعيان أيضاً أن تغييرها يتطلب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة فتح الحرب الشاملة على الأرض السورية، بما يقضي على كل منجزات إيران وروسيا فيها، وبما يتطلب هدم كل ما بنته الأخيرة من خلال مسار أستانا، ما يعني تحدّي روسيا بشكل مباشر.
باختصار، تغيير المعادلة صار يتطلب انخراط الولايات المتحدة في الحرب، وبدونه لا يمكن مجابهة محور يضم روسيا وإيران وربما تجد تركيا أن مصلحتها تتحقق فيه، خاصة في ظل الأزمة الخليجية وما أفضت إليه من تباعد سعودي تركي، آخذين بالاعتبار أن تركيا تتطلع إلى تحقق كلام علي أكبر ولايتي عن توجه قوات النظام السوري وحلفائه من دير الزور إلى الرقة لتصطدم بعدو أنقرة الأول، وحدات حماية الشعب الكردي وظهيرها حزب العمال الكردستاني.
على الأرجح، تشكل استقالة الحريري رداً سعودياً على غضبها من تصريحات ولايتي وقبله تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي قال إنه "لا يمكن في الوقت الحاضر اتخاذ إجراء حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال إفريقيا ومنطقة الخليج الفارسي من دون إيران"، فأرادت أن تعيد التناسق إلى مقولة أن إيران لا تستطيع مدّ نفوذها إلى دول مستقرة وشرط نفوذها هو خلق الفوضى واللااستقرار، وهو ما يتطلب تفكيك الحكومة اللبنانية.
على الأرجح، لم يفكّر السعوديون في ما بعد الخطوة، ويتركون التخطيط لاستثمارها إلى فترة لاحقة لأن تعقيدات المعطيات في سوريا والعراق تحول دون العثور على خيار سهل للتصعيد ولتحقيق المكاسب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...