شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كانت الأسطورة تقول إن السرفيس اختراع سوري...

كانت الأسطورة تقول إن السرفيس اختراع سوري...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 4 نوفمبر 201710:47 ص

في دمشق، كان الصاعد إلى السرفيس يلقي السلام على الجميع إن دخل خلال أوقات غير مزدحمة. أما حين يهجم الزحام على المدينة في ساعات الذروة، فعلى المرء القتال للحصول على مقعد، خاصة في الساعة التي تسبق موعد الإفطار الرمضاني. وإذا أردتَ التحديد أكثر فعليك بشارع الثورة، أكثر الشوارع ازدحاماً في المدينة. السرفيس هو سيّارة بيضاء غالباً، أحياناً ملوّنة بدهان آخر كالكحلي الأدكن مثلاً. سيّارة صغيرة تتسع لعشرة ركّاب من الخلف وراكبين بجانب السائق، وقد يكون هناك مقعدان زائدان في الخلف، خاصة في العربات المتجهة نحو البلدات الريفيّة، ليصبح مجموع الركاب خمسة عشر. لهذه العربة المتنقلة بالبشر أسماء تختلف باختلاف المناطق، لكن أكثر الأسماء انتشاراً في سوريا هو: سرفيس أو ميكروباص، واختصاراً ميكرو. كان هذا الميكرو يطوف بنا أرجاء المدينة وبين المدن والبلدات القريبة. كانت الأسطورة تقول، حين كنّا صغاراً، إنّ السرفيس اختراع سوري، وهو موجود في سوريا فقط. حين كبرنا عرفنا أنّ السيارة من إنتاج ألماني ومنتشرة في كلّ البلاد، وهي وسيلة نقل رئيسيّة في البلدان المجاورة. في تركيا مثلاً، وتحديدًا في إسطنبول كان الدولمش، كما يسمى هناك، في عداد وسائل تنقلي الرئيسيّة، خاصة في منطقة كادي كوي.

في لبنان، كان للفان الرقم أربعة فضلٌ على تنقلي بين عين الرمانة والداونتاون وصولاً للحمرا. في مصر، كانت غالبية تحركاتي بالميكرو باص، خاصة تلك التي تنتظر في بداية شارع جمال أو عند ميدان رمسيس. السرفيس كان رفيق دربي اليومي حين كنت أعيش في الشرق الأوسط. عن طريق هذه الآلة المتحركة، أصل إلى جامعتي وعملي ومواعيد غرامي وسهرات أصدقائي، وإلى كلّ مكان أريد مقابل مبلغ زهيد من المال. وأعجب في كلّ مرة كيف كان يستطيع السائق العيش مقابل مبلغ كهذا.

حكايات السرفيس لا تنتهي... عراك، أحاديث ثقافيّة، تحرش جنسي بنساء أو بأطفال صغار
رغم حبي للسرافيس وحكايته التي لا تنتهي لكنني أحبّ أن تنتهي هذه الحقبة
تخيلوا رحلة طولها حوالي 20 كيلومتراً من كاراج العباسيين في أقصى شرق دمشق إلى كاراج السومرية في أقصى غربها يقطعها خط "الدوار الشمالي"، مقابل 15 ليرة سورية للراكب الواحد - أي حوالي 30 سنتاً أمريكياً - (هذه كانت التسعيرة حتى وقت خروجي من البلاد في العام 2011). حكايات السرفيس لا تنتهي، فمن حوارات اجتماعية إلى أخرى دينيّة، فمشكلات بين الركاب والسائق، أو بين سائقين، أو مشكلة ما مع شرطي مرور. خلال رحلتكم، التي قد تطول أو تقصر، تصحبكم أغنيات الراديو بصوت عالٍ، من هيفاء وهبي إلى أم كلثوم مروراً بكل ما لا يخطر على بال. أحياناً تكون الدروس الدينيّة رفيقة دربكم، وخاصة دروس راتب النابلسي أو خطب حسن نصر الله. وقد يرافقكم صوت عبد الباسط عبد الصمد مجوّداً القرآن. حكايات السرفيس لا تنتهي، عراك، أحاديث ثقافيّة، تحرش جنسي بنساء أو بأطفال، أدعية السفر، كتابة رسالة حب أو رقم هاتف ما على المقاعد، مراجعة الدروس قبل الوصول إلى قاعة الامتحان، تعب الحياة بكلمات قليلة على لسان عامل أو عاملة عائدين إلى البيت بعد يوم عمل شاق، لذة الحياة مرسومة على وجوه السكارى الراجعين إلى منازلهم في وقت متأخر من الليل، سائقون تعبون من كلّ شيء يعتقدون أنّهم عرفوا جميع أنواع البشر في سياراتهم التي تشق شوارع المدن الحزينة، عبارات تختصر فلسفة الحياة مكتوبة على جدران السرفيس، زينة يجمّل بها السائق عربته.

كانت الأسطورة تقول، حين كنّا صغاراً، إنّ السرفيس اختراع سوري، وهو موجود في سوريا فقط

حكايات السرفيس لا تنتهي، سائقون يجتمعون في الموقف، يتبادلون أحاديث كلّ يوم عن الرُكَاب وعن عائلاتهم وعن شرطة المرور التي لا ترحم. ركاب متجهون إلى بلداتهم البعيدة منتظرين بتأفف اكتمال عدد الركاب كي ينطلق بهم السائق إلى بيوتهم بعد يوم طويل، شتم زحمة الشوارع في وسط المدينة ودرجة الحرارة المرتفعة فترة الظهيرة. حكايات السرفيس غنيّة لا تنتهي. لا أعرف لماذا لا يحضر السرفيس في رواياتنا وأفلامنا ومسلسلاتنا بكثافة حضور المترو في الثقافة الأوروبيّة والأمريكيّة برغم أهمية هذه السيارة في تنقلاتنا وبرغم دورها الفاعل والمؤثر في حياتنا، وهو يوازي، بل يفوق دور المترو في البلاد الأخرى. لا أعرف لماذا لا ننتبه لتفاصيل بلادنا. رغم حبي للسرافيس وحكاياتها التي لا تنتهي، أحبّ أن تُتَوّج هذه الحقبة بتطوير البنى التحتيّة في بلادنا الحزينة - برغم يقيني أنّ ذلك لن يحصل ونحن نعيش في زمن الديكتاتوريات التي لا يهمها إلا مصالحها الشخصيّة ومصالح الفئة الصغيرة الملتفة حولها - وإنشاء شبكات للمواصلات العامة تحترم المواطنين وتحفظ كرامتهم، التي من المفترض أن تكون مصونة في بلادنا، بلاد الخراب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image