شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
النخب المصرية والحرية الانتقائية

النخب المصرية والحرية الانتقائية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 7 أكتوبر 201702:51 م
في نوفمبر 2014 صدرت رواية "استخدام الحياة" للصحافي المصري أحمد ناجي. تتحدث الرواية عن المدينة، القاهرة تحديداً، والقبح الذي غزاها. لم يقترب الكاتب من الدين أو حتى من السياسة، بل ركز على المدينة. ومع ذلك تمت إحالته للمحاكمة وحكم عليه بالسجن عامين في فبراير 2016. لماذا؟ لأن ناجي قرر أن يستخدم مفردات "غير معتادة"  لوصف مشهد جنسي بدلاً من استخدام الفصحى. استبدال ناجي لكلمات مثل (قضيب - جماع - قذف) بمثيلاتها من اللغة العربية المحكية كانت سبباً كافياً لأن توجّه له النيابة اتهامات بدت فضفاضة، وأن يقف وكيل النائب العام في قاعة المحكمة ليرافع بلغة إنشائية قائلاً إن ناجي: "نشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء".
ما حدث لناجي يمكن فهمه إذا وضع في سياقه. فنحن أمام سلطة محافظة بطبيعة تكوينها، تواجه خصماً يرفع شعار الإسلام، فيصبح من المنطقي أن تستخدم قضايا مشابهة لتبدو أمام الجماهير (المحافظة هي الأخرى) أنها ليست أقل غيرة على الأخلاق والدين من خصمها الإخواني. هو سلوك مفهوم، بائس لكنه مفهوم. لكن المدهش هنا كان رد فعل الكثيرين ممن يطلق عليهم تسمية النُخب. فالدوائر التي يفترض بأهلها أن يكونوا أكثر انفتاحاً ودعوة لكسر التابوهات، أتت مواقفهم صادمة إلى حد بعيد، فمنهم من اعتبر أن ما كتبه ناجي يدخل في إطار "قلة الأدب"، بينما لو استخدم الفصحى المعتادة، لكان مبدعاً في نظرهم. ومنهم من وقف على الحياد قائلاً إنه لم يقرأ الرواية حتى يحسم موقفه، لكنهم لم يشرحوا لنا ماذا سيكون موقفهم إذا قرأوها ولم تعجبهم؟ هل يدعمون حبس الروائي حينها؟ من قال إن الأمر يتعلق بتقييم إبداع أحمد ناجي. نحن نتحدث هنا عن حرية الأديب في انتقاء مفرداته، وهي بالتالي قضية حريات لا جلسة لتقييم الرواية فنياً. قضية أحمد ناجي كانت كاشفة لموقف نسبة محترمه من النخب المصرية من سؤال الحريات، فنحن هنا (وربما لأول مرة بعد الثورة) أمام قضية حريات محضة. فأحمد ناجي ليس مناضلاً سياسياً ولا قضيته أزمة نقابية أو عمالية، والتضامن معه هنا على فكرة "الحرية"، والحرية فقط. تبين أن الكثير من المنادين بالحريات لا يتقبلونها بل لا يتفهمونها، وربما لذلك لجأ بعض أصدقاء ناجي إلى لي ذراع القصة لتصبح قصة سياسية، فبدأوا يبحثون في أرشيف الكاتب عن مقال هنا أو هناك يصلح حجة للقول إنه محبوس لأسباب سياسية وليس لحرية الإبداع. والحقيقة أن ما فعله هؤلاء الأصدقاء (بحسن نية ربما) يشكل إدانة اكبر للنُخب، فذلك إقرار واضح وصريح بأن "الحرية" بشكل عام وحرية الإبداع بشكل خاص لا تعدان سبباً كافياً للتضامن بين أولئك الذين تشدقوا طويلاً بالحديث عن الحرية في مصر.
قضايا تكشف موقف نسبة محترمه من النخب المصرية من سؤال الحريات.. الكثير من المنادين بالحريات لا يتقبلونها
قصة أحمد ناجي لم تكن الأخيرة في مسار علاقة النخب المصرية بالحريات، فمؤخراً ظهرت قضية خلافية أخرى في ساحات النقاش… قضية حقوق المثليين. في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي نُظّمت حفلة لفريق "مشروع ليلى" اللبناني في القاهرة، وهو الفريق الذي عرف عنه إثارته للجدل منذ أن أعلن مؤسسه حامد سنو هويته الجنسية المثلية بأحد البرامج الفضائية.
نظمت الحفلة وقرر اثنان أو ثلاثة من الحضور رفع علم "قوس قزح" تضامناً مع حق سنو والمثليين في التعبير عن هويتهم. وسرعان ما انتشر الخبر على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تضخيمه وتصوير الحفلة حفلة "شذوذ جنسي جماعي". الفضائيات اشتبكت مع القصة، وبالطبع تماهت مع مشاعر الغضب أو “الاحتقار” تجاه المثليين، وقد توجت القصة بالقبض على مجموعة من الشباب الذين حضروا الحفل، بتهمة التحريض على الفجور. ظهرت بعض الأصوات على صفحات وسائل التواصل تدافع عن حق المثليين في التعبير عن ذواتهم. لكن ردود الفعل الغاضبة كانت هادرة، وعند رصد تلك الردود يمكن تقسيم المعترضين إلى فريقين. فريق أول كان عدائياً جداً تجاه طرح فكرة الحق في التعبير، واعتبر أن من يتعاطف مع حق المثليين في التعبير عن أنفسهم هو شاذ لعين يستحق السب هو ومن أنجبوه. وفريق آخر، وهو النسبة الغالبة، أحال الملف برمته للدين معتبراً أن المثلية محرمة شرعاً، مستدلين بحديث القرآن عن قوم لوط. واتفق الفريقان على أن المثلية وباء معدٍ ينشر الأمراض في المجتمع. ورغم أن الغالبية العظمى رفعت المصاحف، فإن الدين ليس وحده مربط الفرس هنا. قطعاً هناك نسبة من السلفيين يُعد الدين مرجعيتهم الأولى، لكن النسبة الأعم من المنتقدين يبدو أن محركها الأساسي هو الثقافة الشعبية التي تربّوا عليها وترسخ لقناعة احتقار المثلي. فلو كان النص القرآني هو فقط محرك تلك القطاعات، إذاً لماذا لا تذكر آيات القرآن ويتم الاحتكام إليها إلا في قضية المثلية؟ لماذا لم تذكر في مناقشات الحرية قبل هذا آيات واضحة وصريحة تحرم الخمر والزنا؟ والهجوم كله دار حول مثليه الذكور، لم يتحدث أحدهم أو يلعن السحاقيات مثلاً، رغم أن الحكم الشرعي واحد. ولكن ربما لأن المخيلة الشعبية والموروث الثقافي يحتقران هذا ويغضان الطرف عن ذاك. لكن إذا كان هذا الموقف متوقعاً من سُلطة حاكمة، وجماهير محافظة، فإنه غير مفهوم أو مبرر من دوائر يتوقع أن تكون أكثر ميلاً للدفاع عن الحريات. لماذا إذاً يتبنون خطاباً شعبوياً تجاه كاتب اختار أن يستخدم مفردات غير معتادة لوصف الجنس، أو جماعة من المصريين قرروا التعاطف مع حق المثليين في التعبير عن أنفسهم؟ قضية أحمد ناجي وحفلة مشروع ليلى تشيران بوضوح لا يمكن تجاهله إلى أن نسبة معتبرة من الدوائر الليبرالية (نظرياً) في مصر، هي في حقيقة الأمر ما زالت بعيدة عن الحريات، أو على الأقل انتقائية حيالها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image