كانت التظاهرات التي انطلقت في شباط 2011 ضمن ما سمّي يومذاك "حراك إسقاط النظام الطائفي اللبناني" هي المرّة الأولى التي يظهر فيها بلبنان خطاب سياسي خارج الاستقطابات الحزبية، وخارج استقطاب 8 و14 آذار المهيمن في ذلك الحين.
كانت التظاهرات التي خرجت مدفوعة بتظاهرات الربيع العربي مفاجئة بعض الشيء للمنظومة الحاكمة في لبنان، غير أنّ هذه المنظومة سرعان ما نجحت في احتواء الحراك الشعبي من خلال منعه من أن يبلور خطاباً سياسياً جذرياً نقيضاً لها. لم يكن الحراك وناشطوه على استعداد لمواجهة الخبث السياسي الذي يتمتّع به أهل السّلطة.
قد يميل البعض إلى اعتبار حراك 2011 فاشلاً من حيث أنّه لم يحقّق شيئاً من أهدافه المعلنة. غير أنّ الواقع يقول غير ذلك تماماً. فهو أسس مجتمعاً من الناشطين حيّاً بذاته ومتفاعلاً بمكوناته. وهو كوّن خطاباً سياسياً بعيداً ومناقضاً لاستقطابات وتحالفات منظومة قوى السلطة التي تجهد في أن تجعل الشعب منقسماً حولها, عوض أن يتّحد حول مطالبه الاجتماعية الاقتصادية وحول مصالحه الفعلية.
وهو تجربة أسّست لقناعة راسخة بأن الوصفة السّحرية لأي عمل ناجح في وجه منظومة قوى السّلطة يكمن في اعتبار السلطة كلّاً واحداً، جسماً واحداً لا يُواجه بالتجزئة.
وانطلاقاً من هذه الفكرة، من هذه القناعة، نجح حراك العام 2015 في تكوين خطاب سياسي هو النقيض الفعلي لخطاب منظومة قوى السّلطة، إذ تعامل معها ككلّ واحد تحت شعار "كلّن يعني كلّن". لأوّل مرّة كنا نرى مشهدية الناس بمواجهة منظومة قوى السّلطة.
إنّ من ينظر إلى التاريخ بشكل مجزأ، ومن يقيّم الأمور بالأرقام والامتحانات والنتائج سوف يرى أن حراك 2015 هو أيضاً فاشل من حيث أنّه لم ينجح في الوصول إلى الأهداف التي وضعها وتحرّك من أجلها.
غير أنّ هذا الطرح بدوره غير واقعي وغير تاريخي بالمعنى العلمي للكلمة. فإن حراك 2015 الشعبي الذي دفع بعشرات الآلاف إلى النزول للشارع بمواجهة قوى السلطة نجح في نقل "الوصفة السّحرية" التي ذكرناها أعلاه من حيّز الإمكانية إلى حيّز الفعل، بمعنى أنّها تجسّدت واقعاً على الأرض.
جموع من المتضرّرين بوجه سلطة مربكة تتقاذف التهم ومتردّدة بكيفية التعاطي بالعنف حيناً وبالوعود أحياناً. تلك الوعود التي أطلقتها قوى السلطة في النهاية، والتي أحرجت الحراك الشعبي وجعلته ينكفئ كي لا يظهر بمظهر المخرّب المعرقل للحل، على الرغم من قناعته بأن قوى السلطة لا يمكن تصديقها ولا يمكن أن يؤمَن لها جانب.
ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح في هذه المرحلة حول إمكانية تحقيق خروق مهمّة من قبل المعارضة في الانتخابات النيابية المقبلة. لا يختلف اثنان على أن الحظوظ الجدّية موجودة، إنّما التحدّي يكمن في نقلها من حيّز الإمكان إلى حيّز الفعل. التحدّي يكمن في جعل هذه الإمكانية تتحقّق، ودون ذلك محاذير ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار.في حراك شعبي ثمة مجال للتجربة، أما في الانتخابات فإن هذا يعدّ رفاهية غير موجودة... #لبنان
نقاط ضرورية إذا ما أرادت أي قوى معارضة تحقيق خروق مهمّة في الانتخابات اللبنانية المقبلة
أولاً: معارضة واحدة بوجه سلطة واحدة
إن ما سبق ذكره يقودنا إلى فرضية تقول بأن وجود معارضة واحدة في كلّ لبنان ببرنامج واحد سوف يجرّد منظومة قوى السلطة من سلاحها الأقوى الذي هو سلاح اتهام لائحة معارضة في دائرة ما بأنها صنيعة طرف خصم، أو تعمل لصالح طرف خصم في السلطة.ثانياً: غياب القوة التجييرية مقارنة بالأحزاب
لا يملك الجسم السياسي المعارض قوة تجييرية كالأحزاب، وهذا يحتّم على هذا الجسم دقّة وانتباهاً في طريقة نسج التحالفات. فالأحزاب السياسية لديها جمهورها وقوّتها الانتخابية التجييرية التي تتبعها أنّى نسجت من تحالفات وخصومات. أما المعارضة فإن استقلاليتها هي أساس رصيدها الشعبي الذي ستفقده حالما تفقد تلك الاستقلالية. وإذا كانت هناك إمكانية لنسج بعض التحالفات، فإنّ الحساب يرتكز ليس إلى كمّية الأصوات التي ستكسبها المعارضة من التحالف، بل إلى الكمّية التي ستخسرها بالمقابل.ثالثاً: الصعوبة النفسية في المواجهة
دعونا لا نستخف بصعوبة مواجهة الشعب لجلاديه المخفيين من الناحية النفسية. صعوبة مواجهة الأطراف المهيمنة، وأحياناً الحاضنة الشعبية لتلك الأطراف. إنّ هذه الصعوبة سوف تجعل الجمهور الذي لديه الحافز والنية للتغيير يفتّش عن حجة يتمسّك بها من أجل عدم التصويت للمعارضة. قد تكون هذه الحجة تقاطعاً انتخابياً، أو إسماً لمرشّح ما، أو حتى نقطة ما في البرنامج الانتخابي. إنّ هذا الأمر يحتّم جهداً مضاعفاً في كيفية تقديم المعارضة اللبنانية لنفسها في الانتخابات.رابعاً: مرشحون مشابهون لأهل السّلطة
لعلّ هذا أحد أهم وأصعب التحدّيات. إنّ تقديم مرشحين يشبهون من هم في السلطة، لمجرّد حيازتهم كاريزما معيّنة أو رصيداً ما معيّناً، مالياً أو سياسياً، أو قادرين على تجيير كمّ من الأصوات، قد يفيد وقتياً، وربما... لكن الأهم هو ما سيأتي من تأثير على المسار التغييري. فالناس قد تُحبط جراء انتخابها لشخصيات سرعان ما انجرفت في لعبة السلطة وتناقضاتها وفسادها، وبالتالي إذا كنا نأخذ الانتخابات النيابية كمرحلة ضمن سيرورة التغيير، فإن تلك السيرورة سوف تصاب بضربة قوية. ثمة فارق أساسي بين العمل في حراك شعبي وبين العمل الانتخابي هو فارق الوقت المحدّد، الـ"Deadline". ففي الانتخابات ما من مكان للخطأ، وما من مجال لترك مماسك ما. وإن بعض التنازلات يجب أن يقوم بها جميع الأفرقاء في المعارضة، لكن ليس إلى الحدّ الذي يجعل الخطاب السياسي رمادياً غير قادر على اجتذاب الأصوات. في الحراك الشعبي ثمة مجال للتجربة، أما في الانتخابات فإن هذا يعدّ رفاهية غير موجودة. أخيراً، يبقى التحدّي الأكبر الذي هو قوى السلطة نفسها، هذه المنظومة التي تشكّلت على أنقاض حرب داخلية طاحنة، وتشكّلت من أمراء حرب قد لا يتردّدون في أن يشعلوها مجدّداً في حال تهدّدت عروشهم. فهل تحصل الانتخابات أم تؤجل مجدّداً تحت حجج أمنية؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...