مما لا شك فيه، أن للنبوءة دوراً مركزياً في تكوين وتأليف الملاحم وسير الأبطال والعظماء، أولئك الذين أثروا وغيروا في تاريخ الحضارة الإنسانية عبر عصورها.
فالنبوءة بكل ما حملته من ثقل روحي وغموض غيبي، كانت بمثابة الأداة الرمزية لاسقاط شرعية على مسيرة أحداث التاريخ، فكانت تقدم كأنها الدليل والمرشد الذي يسير عليه البطل ويتبعه، ليصل في النهاية إلى مصيره الموعود وقدره المقدور.
الباحث في التاريخ الإسلامي، سوف يجد أن النبوءة كان لها دور فعال ومؤثر في سير الكثير من الأبطال والخلفاء والولاة، حيث تم استخدامها بكثافة كمقدمة وتمهيد للأحداث التاريخية التي اشترك فيها هؤلاء بعد ذلك، كما جرى التعامل معها على كونها سنداً غيبياً يبرر لأصحابه ما وصلوا إليه من نفوذ وسلطة، ويشرعن لهم أوضاعهم السياسية التي حامت حولها الشبهات والشكوك في الكثير من الأحيان.
سنضرب هنا، خمسة أمثلة بارزة، استخدمت فيها النبوءة لتبرير وتفسير عدد من المواقف السياسية الشائكة التي ارتبطت بانتقال السلطة من دولة لآخرى، أو امتدادها إلى أرض جديدة، وسنحاول أن نبين الأسباب التي أدت لشيوعها وانتشارها.
عمرو بن العاص: امتداد الإسلام إلى مصر
المثال الأول، نجده في القصة التي يذكرها ابن يوسف الكندي المتوفى في القرن الرابع الهجري، في كتابه الولاة والقضاة، عند حديثه عن والي مصر الأول عمرو بن العاص. يقول الكندي: "كان عمرو بن العاص تاجراً في الجاهلية... فأتى الإسكندرية، فوافق عيداً لهم يجتمعون فيه ويلعبون، فإذا هموا بالانصراف، اجتمع أبناء الملوك وأحضروا كرة لهم مما عملها حكماؤهم، فتراموا بها بينهم وكان من شأنها المتعارف عندهم من وقعت في حجره ملك الإسكندرية، أو قالوا: ملك مصر، فجعلوا يترامون بها، وعمرو في النظارة، فسقطت الكرة في حجره، فعجبوا لذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة وأنى لهذا الأعرابي يملك الإسكندرية هذا والله لا يكون". يكاد الكندي، أن يكون المؤرخ الوحيد الذي يذكر تلك القصة، وهو يحاول عن طريقها أن يقدم تمهيداً تاريخياً لمسألة قيادة عمرو للجيش الإسلامي لفتح مصر بعد عشرات السنين من تلك الحادثة المزعومة. والحقيقة، أن الشك يحيط بتلك القصة من جميع جوانبها، فكيف استطاع عمرو أن يجتمع بأمراء مصر ورؤسائها، وهو مجرد تاجر عربي بسيط الحال؟ وكيف يكون سقوط الكرة في حجر أحد هؤلاء الأمراء، علامة على ملكه لمصر في المستقبل، إذا كانت مصر وقتها مجرد ولاية بيزنطية، يتم تعيين واليها من قبل الإمبراطور البيزنطي المقيم في القسطنطينية؟معاوية: انتقال الخلافة إلى الأمويين وإلى دمشق
أما المثال الثاني، فقد ورد في الكتاب الشهير البداية والنهاية لابن كثير المتوفى في عام 774هـ، حيث يذكر أن هند بنت عتبة كانت قد تزوجت من الفاكه بن المغيرة المخزومي، وأنه في يوم ما، شاهد الفاكه رجلاً يخرج من داره، فشك في زوجته واتهمها بالفسق والزنا، وتحاكم الطرفان إلى أحد كهنة اليمن، فقام هذا الكاهن بتبرئة هند مما نُسب إليها، وقال لها (انهضي غير زانية، ولتلدن ملكاً يقال له معاوية). وتُستكمل القصة، بأن الفاكه قد اعتذر إليها، فقالت له: "إليك عني، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك"، فتزوجت من أبي سفيان بن حرب بعد فترة، وكان لهما معاوية. ويختتم ابن كثير القصة بقوله (والله أعلم) وهو ما يوضح شكه في القصة برمتها. والحقيقة، إنّ القصة تتعارض مع عدد من الأخبار، مثل ما ورد في كتاب المحبر لابن حبيب البغدادي المتوفى 245هـ، من قوله بأن زواج هند من الفاكه، لم ينتهي بالطلاق أو الانفصال، ولكنه انتهى بوفاة الفاكه. ولكن لماذا يذكر ابن كثير الرواية مع شكه فيها؟ الحقيقة، أن ابن كثير وهو المؤرخ السني، تلميذ ابن تيمية، لم يكن بقادر على أن يمنع نفسه من ذكر هذه القصة، خصوصاً أنها تصب في مصلحة مناقب معاوية ومحاسنه، وتمهد لوصوله إلى السلطة والملك. ويحق لنا أن نتساءل، إذا كانت تلك القصة حقيقية وثابتة، فلماذا لم يستشهد بها معاوية نفسه في وقت الحرب الأهلية؟ ولماذا لم ينشرها بين أصحابه وأتباعه من أهل الشام؟صقر قريش: الإمارة الأموية في الأندلس
المثال الثالث، وثيق الصلة بالدولة الأموية كذلك، فإذا كانت النبوءة السابقة قد مهدت لبداية تلك الدولة على يد معاوية بن أبي سفيان، فإن النبوءة التي سنتعرض لها في السطور المقبلة، قد عملت على التمهيد لانتقال حكم الأمويين من المشرق إلى المغرب. ففي كتابه المعروف المعنون بالبيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب، يذكر المؤرخ المعروف ابن عذاري المراكشي المتوفى في نهاية القرن السابع الهجري، أن مسلمة بن عبد الملك عندما شاهد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، قد توسم فيه "إمارات النجابة والمُلك"، وقال إن ذلك الفتى هو الذي سيعيد إحياء دولة بني أمية في المغرب بعد زوالها من المشرق. ويستمر ابن عذاري، بعد ذلك في الحديث عن تحقق تلك النبوءة بعد سقوط الدولة الأموية على يد العباسيين في عام 132هـ، وهروب عبد الرحمن إلى الأندلس، حيث استطاع أن يقيم فيها إمارة أموية قوية. والأسئلة التي تحيط بتلك النبوءة كثيرة ومتداخلة، فما هو العلم الذي استأثر به مسلمة ليعرف به المستقبل والطالع؟ خصوصاً أن مسلمة هذا قد قضى عمره في ساحات القتال وميادين المعارك، وكان أعظم فرسان بني مروان؟ ولماذا ترك الأمويين الحركة العباسية تنمو وتزدهر ويشتد ساعدها، وتفرغوا لإطلاق النبوءات والتوقعات؟ ألم يكن في وسعهم أن يقضوا على العباسيين ويستأصلوا شأفتهم إذا كانوا متأكدين من خطرهم؟ وإذا كان المثالان السابقان، قد قُصد بهما دعم الأمويين وسطوتهم السياسية، فإن هذا المثال، يقف مع الفصيل العباسي.بدلاً من كونها أداة لكشف المستقبل، قدمت البنوءة في كتابات التاريخ شرعية لأحداث الماضي
أهم النبوءات التي ارتبطت بأحداث سياسية شائكة وكانت وسيلة لتبرير انتقال السلطة وتوسعها
الإمام جعفر الصادق ومباركة الخلافة العباسية
ففي كتابه المعنون بمقاتل الطالبيين، يذكر أبو الفرج الأصفهاني المتوفى في عام 356هـ، أن رؤساء بني هاشم قد اجتمعوا مع بعضهم البعض، في السنين الأخيرة من حكم الدولة الأموية، وأنهم قد بحثوا أمر ضرورة اجتماعهم على زعيم هاشمي واحد، ليقود كفاحهم المسلح ضد الدولة الأموية المتهالكة. يذكر الأصفهاني، أن معظم الهاشميين قد اتفقوا على اختيار محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى، المعروف باسم النفس الزكية، ولكن الإمام جعفر الصادق أبلغ بعض الحضور، أن حركة النفس الزكية سوف تنتهي بالفشل، وأن كلاً من أبي العباس السفاح وأخيه أبي جعفر المنصور سوف يصلان إلى منصب الخلافة. وإذا حاولنا مناقشة تلك القصة، فسنجد أنها تحتوي على نبوءة صريحة بوصول العباسيين إلى السلطة، وأنهم سينجحون فيما سيفشل بني عمومتهم من العلويين في تحقيقه من قبل. ومن المؤكد أن مروجي تلك القصة، قد حرصوا على أن ينسبوها إلى الإمام جعفر الصادق تحديداً لعدد من الأسباب المهمة، أولها أن الصادق قد حظي بمكانة متميزة ورفيعة عند معظم الفرق والجماعات الإسلامية، مما جعل لكلامه شكل من أشكال القدسية والاحترام والتبجيل. أما السبب الثاني، فهو أن الصادق كان زعيم البيت العلوي في عصره، مما يُحمل تنبؤه بوصول العباسيين للسلطة، نوعاً من أنواع الإقرار والإذعان للحكم العباسي، وهو الأمر الذي استخدمه العباسيون فيما بعد لتأكيد شرعيتهم السياسية في معرض تنافسهم مع أبناء عمومتهم من العلويين.نبوءة الغزالي تبارك ظهور الدولة الموحدية
المثال الخامس، الذي سننهي به الحديث، يتمثل في قصة لقاء محمد ابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية في المغرب بأبي حامد الغزالي، الذي كان يلقب بـ"حجة الإسلام". فبحسب ما يذكره مؤلف مجهول في كتاب الحلل الموشية، أن ابن تومرت حينما سافر من المغرب إلى المشرق، درس العلم على يد عدد من كبار المشايخ والعلماء، وكان منهم الغزالي. ويذكر صاحب الحلل الموشية، أنه وأثناء اللقاء ما بين الرجلين، سأل الغزالي ابن تومرت، عن انتشار كتابه المشهور إحياء علوم الدين في المغرب، فأخبره عندها ابن تومرت بأن المرابطين –الذين كانوا يحكموا المغرب والأندلس في تلك الفترة- قد حرقوا كتاب الإحياء ومنعوا تداوله ودراسته، عندها تغير وجه الغزالي، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يؤمنون، فقال (اللهم مزق ملكهم كما مزقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه)، ويذكر الكتاب أن ابن تومرت، قد رجا الإمام الغزالي عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك. وبعد أن عاد ابن تومرت إلى المغرب بدأت تجتمع حوله حركة عرفت بالموحدين، الذين نحجوا بعد وفاة ابن تومرت بمحاربة المرابطين وتسيد البلاد. والواقع، أن هذه القصة، رغم انتشارها وذيوعها في الكتب والمصادر التاريخية المغربية، تصطدم بعدد من الحقائق التاريخية الثابتة التي تؤكد على زيف تلك النبوءة واختلاقها. من تلك الحقائق، أن لقاء ابن تومرت بالغزالي غير ثابت، وتعتريه الشكوك والظنون، ولا يوجد دليل قوي يؤكد على أن رحلة ابن تومرت في المشرق قد وصلت إلى العراق حيث كان الغزالي يُقيم في تلك الفترة. أيضاً، أن واقعة حرق كتاب إحياء علوم الدين في الأندلس، وإن كانت ثابتة تاريخياً، إلا أنها قد تمت في الوقت الذي كان فيه ابن تومرت في المشرق، ولم يكن شاهداً عليها كما حاولت الرواية أن تبين. فما السبب في اختلاق تلك القصة إذن؟ ومن الذي اختلقها؟ الحقيقة، أن الباحث في أحداث تاريخ القرن السادس الهجري في بلاد المغرب الإسلامي، سيكتشف أن الإمام الغزالي كان صاحب حضور معنوي قوي ومؤثر على الساحة السياسية هناك، رغم أنه لم يزر تلك المنطقة قط. فالغزالي كان قد أعلن تأييده المطلق لدولة المرابطين، وكذلك صدرت فتواه لعاهلهم يوسف بن تاشفين، يبيح له فيها أن يتحرك بجيوشه إلى الأندلس ليزيح ملوك الطوائف عن عروشهم، ويستولي على أملاكهم وإماراتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن حركة ابن تومرت كانت تسير على نهج الغزالي في الكثير من المسائل والأفكار، مما يجعل من حجة الإسلام أباً روحياً لابن تومرت وحركته الوليدة. كل ذلك، جعل بعض أتباع الدولة الموحدية، يحاولون أن يوجدوا قصة يجتمع فيها الشيخ وتلميذه، ليس ذلك فحسب، بل أن تُصاغ القصة بحيث يظهر التلميذ وكأنه يسير على الخُطى التي اختطها له شيخه العظيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...