شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بين فنادق ودورات المياه... أين ذهبت مكة القديمة؟

بين فنادق ودورات المياه... أين ذهبت مكة القديمة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 14 سبتمبر 201711:32 ص

  طاف مصطفى موسوي ليلة كاملة في أرجاء الحرم المكي الشريف. قدم من مصر ليؤدي مناسك الحج، ولم يتوقف عن التنقل بين ساحات الحرم المغطاة بالرخام الأبيض التركي النادر، والذي يظل بارداً مهما كانت درجة الحرارة مرتفعة. أينما نظر وجد من حوله المباني العملاقة وفنادق الخمس نجوم تحيط بالكعبة من كل صوب، الشيء الوحيد الذي لم يره موسوي هو التاريخ، وآثار مكة القديمة التي عاشتها المدينة المقدسة لأكثر من ألفي عام. يقول موسوي لرصيف22 مستغرباً: "عدا أجزاء من الرواق [العثماني] التاريخي، كل شيء حديث وفاخر، كأنها منطقة تجارية فاخرة، لا منطقة شهدت بدايات ظهور الإسلام".

سؤال موسوي، وهو واحد من أكثر من مليون شخص أدوا فريضة الحج هذا العام، هو السؤال الذي يطرحه كل من يزور مكة المكرمة للمرة الأولى: أين آثار مكة الموغلة في القدم؟ على مقربة منه، يزور محمد الرشيدي، الكويتي الذي يأتي إلى الحرم الشريف لأول مرة. يسير في الشوارع كأنه يبحث عن شيء مفقود، قبل أن يقول لرصيف22: "ما كل هذا؟ أين بيوت الصحابة، وأين آثار قريش التي نسمع عنها، كأنني في منهاتن أو طوكيو، أو دبي، كل شيء هنا حديث وفخم".

لم يبقَ شيء

على رغم أهمية مشاريع توسعة الحرم المكي الشريف، والذي بات يتسع لأكثر من 2.5 مليون مصلٍ بدلاً من 1.7 مليون قبل خمس سنوات، إلا أن مشاريع التوسعة تعرضت لانتقادات كبيرة من المهتمين بالتراث الإسلامي، لأنها شوهت - حسب رأيهم - تاريخ المدينة الموغل في القدم. وحتى وإن حاول المصممون تطعيمها بأنماط معمارية إسلامية غير حقيقة، فبحسب المختصين لم تراع أهمية بعض الأماكن المهمة التي كانت تعج بها مكة المكرمة، كالبيت الذي وُلد فيه الرسول، أو الذي ترعرع فيه، أو حتى دار الندوة الشهيرة. كلها هُدت لأخذ الأرض التي كانت عليها، أو خوفاً من أن تتحول مزارات، وتحولت لأماكن لا علاقة لها بالتاريخ الإسلامي.

محاولات متأخرة

تحاول هيئة الآثار والسياحة الحفاظ على ما تبقى من آثار في مكة، من خلال مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية والعناية بالآثار والمعالم التاريخية، ولكن لم يبقَ كثير منها حالياً، بخاصة بعد أن قضى برج الساعة على أكثر من 400 موقع تاريخي وثقافِي، بينها مبان يعُود عمرها لأزيد من ألف سنة.

يكشف عالم الآثار السعودي المؤرخ الدكتور أحمد الزيلعي أنه لم يتبقَّ من الآثار إلا ما كان خارج حدود الحرم، وهي آثار لا تعود إلى زمن الرسول، مثل مسجد البيعة الذي بايع فيه الأنصار النبي في بيعة الرضوان. لكنه مثل غيره من الآثار، تم تجديده من دون مراعاة هويته التاريخية. يقول الزيلعي لرصيف22: "تم ترميمه أكثر من مرة، ولكن كان الترميم عادياً، ولم يحافظ على تاريخه، وكانت هناك خطط لإزالته وإعادة بنائه، مثل مساجد تاريخية كثيرة، ولكن لحسن الحظ لم يحصل ذلك وما زال يحتفظ بشاهدين من حجارته المنقوشة من أيام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور". يؤكد الباحث في الآثار، والعضو في لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار في مجلس الشورى، أنه لم يتبقَّ شيء من الآثار الإسلامية التي كانت تملأ الحرم المكي.

لا حلول وسط

كان يمكن أن يتم الحفاظ على التاريخ، وتطوير المدينة المقدسة في الوقت ذاته. بيد أن التطوير لم يكن السبب الوحيد للإزالة، كانت هناك أسباب دينية أكثر تشدداً. فهناك تخوف من أن تتحول هذه الأماكن، خصوصاً المساجد التي صلى فيها الرسول، أماكن لما يصفه رجال الدين في السعودية بالشرك.

التطوير لم يكن السبب الوحيد للإزالة، كانت هناك أسباب دينية أكثر تشدداً. فهناك تخوف من أن تتحول هذه الأماكن، خصوصاً المساجد التي صلى فيها الرسول الكريم، أماكن لما يصفه رجال الدين في السعودية بالشرك

يرد الدكتور الزيلغي: "هذا من الجهل، مساجد كثيرة أزيلت لهذا السبب، كان هناك نحو 80 مسجداً بنيت في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، فكان أي مكان صلى فيه الرسول، بنى فيه مسجداً، والذي يأتي من الخارج يعرفها، ويأتي إليها للصلاة، ولكن تم تتبعها، وإزالتها، بحجة سد الذرائع". نجا بعض المساجد، وأهمها المساجد السبعة الشهيرة في منطقة الحرم، لكنها على رغم أهميتها التاريخية، ظلت مغلقة ولا يأتي إليها أحد. آثار إسلامية كثيرة، كانت مثار جدال ونقاشات طويلة، لأنها لم تكن آثاراً شاخصة وأبنية، فمثلاً بيت خديجة، تحول مكتبة أم القرى لفترة طويلة، وبحسب الدكتور الزيلعي كان يقع شرق المسعى. وهناك أقوال أنه تم تحويله دورات مياه، لكنه لا يعلم يقيناً ذلك، ويضيف: "دورات المياه الخاصة بالمسعى هي في المنطقة ذاتها، ولكن يصعب تحديد المكان بدقة، ربما كانت للجنوب أكثر".
"مساجد كثيرة تمت إزالتها وهدمها سادّ الذرائع، كثر كانوا يعرفونها ويقصدونها للصلاة، ولكن تم تتبعها، وأُزيلت"
"ما كل هذا؟ أين بيوت الصحابة؟ وأين آثار قريش التي نسمع عنها، كأنني في منهاتن أو طوكيو؟".
ويتابع: "الأمر ذاته تكرر في المدينة المنورة، بيوت الصحابة فيها كانت معروفه بالوصف، ولكن أُزيلت كلّها". يملك الدكتور الزيلعي، صوراً خاصة لحارة الأغوات التاريخية التي هدمت بالكامل في المدينة المنورة، وكانت فيها نقوش على حجارتها التأسيسية، تسمى (رباط ظهر)، وأُزيلت هي الأخرى بالكامل.

لماذا تهدم المساجد؟

"حتى المساجد، تم هدمها، لماذا؟"، سؤال يلح في ذهن الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد، الأستاذة في الشريعة، وعضوة الجمعية السعودية لحقوق الإنسان، مؤكدة لرصيف22، أن هدم الآثار الإسلامية، لم يحصل في مكة فقط، بل حتى في المدينة المنورة.

منظر عام للمدينة المنورة قديماً، مهجر النبي محمد وأبي بكر، والعاصمة الأولى للدولة الإسلامية

تضيف بلهجة حادة: "هناك قصور كبير في الحفاظ على آثار الإسلام القديمة، في الغالب السبب كان عدم التبرك بها، وسبق أن رفعت بحثاً لخادم الحرمين الشريفين، يوصي بالحفاظ على ما تبقى من الآثار، خصوصاً الأماكن التي صلى فيها الرسول". تتابع الدكتورة حماد، الخبيرة في التراث الإسلامي: "حتى بيت السيدة خديجة تحول للأسف دورة مياه، وطُمس خندق المدينة، وحُول شارعاً، للأسف لم يتم الحفاظ على الآثار النبوية، مع أنه كان يمكن الحفاظ عليها، وإدخالها في التوسعة، مع وضع سور حولها لكي يحافظ عليها، بعد أن تدخل في المسجد، ووضع لافتات توضح ذلك، بدلاً من إزالتها بالكامل". وتتابع: "حتى بيت أبي بكر الصديق بُني مكانه فندق، وقلعة أجياد التاريخية شيّد مكانها برج تجاري". مكمن استغراب الدكتورة حمادة أن هناك جهوداً كبيرة للحفاظ على الآثار غير الإسلامية مثل مباني قوم عاد وثمود، والقصور القديمة، ولكن في المقابل تم تتبع الآثار النبوية وطمسها بالكامل. تضيف: "جهود هيئة السياحة والآثار جاءت متأخرة، وحتى التي تُرمّم لا يُحافظ على هويتها، بل تُبنى من جديد، كأن المقاولين خرجوا منذ قليل، ولا يظهر عليها أنها آثار قديمة، وهذا أخفى قيمتها الأثرية".

لا علاقة لها بالتاريخ

تحولت الآثار المهمة أماكن لا علاقة لها بالتاريخ. رصد رصيف22الأماكن الأثرية التي كانت تعج بها مكة المكرمة، ولها أهمية كبرى لدى المسلمين، وقد ساعد الدكتور أحمد الزيلعي، والدكتورة سهيلة زين العابدين حماد، مع الخبير في التراث الإسلامي الدكتور عبدالعزيز القاسمي، وأيضاً خبير الآثار أحمد الموكلي في رصد هذه الآثار البائدة.

بيت خديجة

البيت الذي عاش فيه الرسول الكريم لأكثر من 28 عاماً، وتلقى الوحي فيه، وولدت فيه بناته الأربع، كان يقع في زقاق الحجر بمكة المكرمة، وأُهمل لعقود طويلة، قبل أن يُحوّل مكتبة، ولكن مع مرور الوقت صارت المنطقة المحيطة به سوقاً للماشية. تعرض البيت لحملة كبيرة من رجال الدين لهدمه، خوفاً من أن يتحول مزاراً شركياً، فهُدم، ومع التوسعات تحول دورات مياه للوضوء.

القبة التي كانت مبنية على قبر زوجة الرسول، السيدة خديجة

بيت أبي بكر الصديق

البيت الذي عاش فيه الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق، وولدت فيه أم المؤمنين عائشة، تحول فندق مكَّة هيلتُون ذا خمس نجوم.

قلعة أجياد

تم بناء القلعة الأثرية عام 1780 لحماية مكَّة من هجمات الغزاة، بعد أن قررت أمانة مكة بناء برج الساعة والفنادق الفاخرة المحيطة به، صدر قرار بهدم القلعة، لكن هيئة الآثار تدخلت لمنع ذلك، فتقرر نقل القلعة إلى مكان آخر وما زال العمل قائماً لإعادة بنائها.

قلعة أجياد قبل الهدم وهي تظهر خلف الكعبة سنة 1889م

مسجد انشقاق القمر

المكان الذي شهد معجزة انشقاق القمر تحول مسجداً، لكن تم هدم المسجد مع جزء من جبل أبي قبيس من أجل التوسعة الأخيرة، وتحولت المنطقة فنادق وأسواق للماركات العالمية.

دار الأرقم بن أبي الأرقم

من أهم الآثار العربية في الجاهلية والإسلام، كانت مركزاً لاجتماع الصحابة مع رسول الله، فيها أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، كانت تقع على يسار جبل الصفا، ولكن تمت ملاحقتها من قبل رجال الدين، وهدمها عام 1955، ثم أدخلت المنطقة في توسعة المسجد الحرام في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز.

دار الأرقم بن أبي الأرقم

شعب بني عامر

منطقة سكن بني هاشم، قبيلة الرسول الكريم، وفيها حوصروا في الجاهلية لثلاث سنوات، كان شعب عامر من الأحياء التي عاصرت تاريخ مكة لقربه من الكعبة المشرفة، مع مرور الزمن تحول فنادق صغيرة، وبيوتاً قديمة، وهدم بالكامل عام 2014، ضمن التوسعة الأخيرة للحرم الشريف.

المساجد السبعة

اشتهرت المدينة المنورة بالمساجد السبعة التاريخية، وهي مسجد الفتح، مسجد سلمان الفارسي، مسجد أبي بكر، مسجد عمر، مسجد فاطمة، مسجد علي ومسجد القبلتين، لكن هذه المساجد هدمت كلها، بدعوة الخوف من تحولها مزارات شركية، وتحول بعضها أماكن وضعت فيها صرافات آلية.

مقابر الشهداء

تتبع المتشددون، قبور الصحابة، فأزالوا جزءاً كبيراً كان مقبرة المعلاة، حيث ترقد أم المؤمنين السيدة خديجة، وأيضاً مقبرة البقيع التي ترقد فيها السيدة فاطمة والمئات من الصحابة، كما هدم قبر حمزة بن عبد المطلب، وأزيلت مقبرة شهداء أحد، وأيضاً طريقا بدر وأحد. على رغم كل ذلك، لم تُهدم الآثار بالكامل، وما زال جبل النور حيث نزل الوحي، ومدفن أم المؤمنين خديجة في المعلاة موجودين، ومكان مولد الرسول الذي تحول مكتبة خلف الصفا، وأيضاً مجر الكبش، حيث كاد النبي إبراهيم ينحر ابنه النبي إسماعيل في القصة الشهيرة في الأديان السماوية الثلاثة. ويؤكد أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور عبدالعزيز القاسمي أن هذه الأماكن، بقيت ولكن لا كشكل، بعد أن حُدّثت، ويضيف: "هي أماكن غير مشهورة، لا يعرف كثر بوجودها، والذي يعرفها يزورها سراً". بحسب الدكتور القاسمي وخبراء الآثار، آثار كثيرة، تعرضت للإهمال لقرون طويلة، ولم يبقَ منها، إلا أسماؤها على الخريطة، والذي بقي منها، يعاني من حرب طاحنة لأكثر من مئتي عام، بهدف البقاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image