في اليوم الرابع من شهر مارس 1921 انطلق صوت أشبه بالموسيقى من أحد منازل حي السكاكيني بالعاصمة المصرية القاهرة، كانت لا تزال القاهرة وقتها هادئة والجيران يهتمون بكل ما يحدث في بيوت جيرانهم بغض النظر عن الدين.
كان الصوت يأتي تحديداً من منزل أسرة الضبع (عائلة مصرية مسيحية وصلت لهذا الحي من الصعيد)، وهذه الصرخة المميزة تعلن وصول مولودهم "حيلم" إلى الحياة.
حليم عبد المسيح الضبع، هكذا دوّن موظف السجل اسم المولود في شهادة الميلاد، وبالتأكيد لم يكن يعلم وقتها أن الاسم الذي خطه بقلمه سيصبح صاحبه واحداً من أهم صناع الموسيقى في العالم في ما بعد، خصوصاً في مجال الموسيقى الإلكترونية.
عاش حليم مع أسرته في حي السكاكيني الشعبي لما يقارب العشر سنوات، قبل أن تنتقل عائلته إلى الحي الفاخر الجديد الذي أطلق عليه آنذاك حي مصر الجديدة.
درس الفتى الذي تعود أصوله إلى محافظة أسيوط (واحدة من محافظات صعيد مصر) الزراعة مثل والده ليتخرج عام 1945 من جامعة فؤاد الأول (التي أصبحت اليوم تعرف باسم جامعة القاهرة) بعد حصوله على شهادة في الهندسة الزراعية.
أحب الشاب الزراعة، فمن الذي لا يحب اللون الأخضر الذي يرمز للحياة؟ لكن الزراعة ليست "الحياة" الوحيدة التي أحبها حليم.
عشق الضبع أيضاً الموسيقى، فبدأ في دراستها والاهتمام بها. كانت أغلب العائلات المصرية في هذا الزمن تعلم فتياتها البيانو كنوع من أنواع الفخر وكرمز للتحضر، وقد شعر حليم أن البيانو مناسب أيضاً لشخصيته.
بعد التخرج عمل حليم كموظف زراعي، لكن في هذه الفترة بدأ يعرف عنه إبداعه في الموسيقى، فأخذ يبتكر مؤلفات موسيقية كانت غير مسبوقة.
عمل الضبع في مجال الزراعة كان يجبره على السفر إلى صعيد مصر كجزء من مهمات وظيفته، أفاده ذلك في التعرف على ثقافات موسيقية مختلفة.
وبسبب التوغل في المحافظات المصرية اكتشف الضبع أن الأمر أكبر بكثير من الموسيقى المنتشرة في القاهرة وقتذاك، وأن الآلات الموسيقية أكثر من مجرد بيانو. وفي الصعيد تعرّف لأول مرة على فن "الزار" الذي سيغيّر نظرته للموسيقى كلها فيما بعد.
أبو الموسيقى الإلكترونية
يعد الضبع أحد أهم رواد الموسيقى العالمية المعاصرة، فقد فتحت موسيقاه نوافذ جديدة في فن الموسيقى، خصوصاً تجربته في إدخال آلات شرقية وإفريقية للفرق السيمفونية الغربية، كما أنه من أهم العلماء الباحثين في الموسيقى العرقية أو ما يعرف بموسيقى الشعوب. وقام الضبع بتأليف الكثير من السيمفونيات والمقطوعات الموسيقية العالمية. حصل الضبع على أكثر من دكتوراه فخرية من جامعات عدة، منها كنت ونيو إنجلند، كما تم تكريمه في الكثير من مهرجانات الموسيقى العالمية. وعرف عنه عشقه للحضارات القديمة، خصوصاً الحضارة الفرعونية، وفي العام 1961 طلبت منه مصر رسمياً تأليف موسيقى الصوت والضوء التي لا تزال تعرض حتى اليوم لسياح من كل دول العالم في منطقة الأهرامات بمحافظة الجيزة المصرية. كما قام في العام 2002 بتأليف موسيقى إعادة افتتاح مكتبة الإسكندرية.تجاهل مصري
تجاهلت مصر وفاة الضبع بشكل غريب، لم يصدر أي بيان رسمي ينعيه، كما لم تهتم معظم القنوات المصرية بالحديث عنه وعن إنجازاته. تواصلنا تليفونياً مع رئاسة مجلس الوزراء المصري، فقالت الموظفة أنه ليس لديها معلومات إذا كان هناك أي إجراء رسمي ستتخذه الدولة لتخليد ذكرى وفاته. وتابعنا معظم نشرات الأخبار التي عرضتها القنوات المصرية الحكومية يوم وفاته ولم يأت فيها ذكر له من قريب أو بعيد.تقدير غربي
وفي ديسمبر من العام 2015 قامت فنانة الصوت فاري برادلي بإجراء بحث عن حليم الضبع، محاولةً من خلاله إثبات أن الفنان المصري يعد أصولاً بديلة للما يطلق عليه "موسيقى الكونكريت". وفي مقالها حاولت برادلي المقارنة بين تجربة الضبع في هذا النوع من الموسيقى وبين تجربة بيير شيفر أحد أهم الأسماء في النوع نفسه. وبحسب المقال البحثي، فإن تجربة الضبع كانت أقدم، ولم تتلق دعماً من موسيقيين آخرين، بعكس تجربة شيفر. كما أنها ولدت في القاهرة بعيداً عن الدول الأوربية المتقدمة. ووفق مقال برادلي فإن صناع الموسيقى في العالم يهتمون أكثر بتجارب شيفر الموسيقية باعتباره أول من قدم مؤلفات في موسيقى الكونكريت، دون أن يعلموا أن تجربة الضبع في هذا النوع من الموسيقى سبقته بسنوات وقام بتأليفها في القاهرة. ويوم السبت الماضي، تغيرت الصفحة الرسمية لموقع حليم الضبع وحملت نعياً من زوجته جاء فيه "بأسف عميق، أعلن لكم عن وفاة زوجي الذي توفي بسلام وبأمان في منزله في كينت بولاية أوهايو في 2 سبتمبر عام 2017". وهناك عدة كتب عالمية توثق تجربة الضبع الموسيقية، قد يكون أهمها كتاب The Musical World of Halim El-Dabh الذي يعد أقرب لسيرة ذاتية عن حليم قامت بكتابته الباحثة بجامعة كينت الأمريكية دينيس سيرشيرست وهي إحدى تلميذات الضبع. وينقسم الكتاب إلى قسمين، الأول عن حياته في مصر وتجربته الموسيقية فيها، والثاني يركز على حياته المهنية منذ وصوله إلى الولايات المتحدة في عام 1950 حتى تقاعده من جامعة ولاية كنت عام 1991 ثم تجاربه الموسيقية بعد ذلك. لماذا تجاهلت مصر وفاة الضبع؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع