مضى أكثر من الأسبوع على اختتام فاعليات الدورة التاسعة والخمسين من معرض دمشق الدولي، والتي نالت بحسب القائمين عليه وبحسب كثر من الزوار، حفاوة واهتماماً لم تعرفهما أي دورة سابقة لهذا المعرض الذي يعتبر من أقدم المعارض الدولية في سوريا والشرق الأوسط.
من دون شك، يشكّل معرض دمشق الدولي جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتنا وذاكرة أهلنا على وجه الخصوص.
كبرنا ونحن نسمع الحكايا التي ترقى أحياناً إلى مستوى الأساطير حول المعرض، وحفلات فيروز، وحضور الزوار من شتى أنحاء العالم وحتى من المدن السورية المختلفة.
ولا يكاد يخلو أرشيف صور أي منزل سوري من لقطات بالأبيض والأسود، والتي تظهر الآباء والأمهات والأجداد أمام بوابة المعرض ونوافيره الشهيرة، فيما يطلق عليه كثيرون اليوم "أيام عز دمشق وسوريا"، وهم يشيرون بشكل خاص إلى سنوات الخمسينات والستينات.
لكن هذا العام لا يبدو شبيهاً بسابقيه. تماشياً مع ما تعيشه البلاد بشكل عام، ودمشق بشكل خاص، من علامات انتصارات الجيش السوري وحلفائه في حربهم الطويلة الأمد على "الإرهاب" المنتشر في أصقاع البلاد، أعلنت المؤسسة العامة للمعارض منذ أشهر عودة المعرض في دورته التاسعة والخمسين تحت شعار "سوريا تنبض بالحياة"، لتبدأ موجة لا منتهية من التحضيرات والاستعدادات لحدث لم تعش البلاد مثله منذ سنوات. على مدار الأسابيع السابقة للموعد المنتظر في السابع عشر من أغسطس، تحوّلت حياتنا نحن سكان العاصمة مجموعة من الأخبار والحوادث والإشاعات التي تدور في فلك المعرض وحوله. ويوماً بعد آخر، لم يعد هناك من داعٍ للسؤال عن سبب ما نراه من تغيرات في مدينتنا، فالمعرض وزواره المرتقبون من عشرات البلدان العربية والأجنبية سيكون في انتظارهم استقبال ووجه حضاري يليقان بهم.
انتشرت الورشات في أرجاء المدينة لترميم طرقات رئيسية وإصلاحها: أهمها طريق مطار دمشق الدولي الذي يصل حتى أرض المعارض الجديدة، وطريق المعرض القديم الذي يربط شارع الثورة بساحة الأمويين.
زرعت أشجار جديدة.
قلعت أحجار الأرصفة المهترئة المتكسرة واستبدلت بأخرى أفضل حالاً وتم طلاء بعضها الآخر بألوان زاهية.
تم التخلص من جسر حديد للمشاة يبدو أن وجوده لا يتناسب مع الوجه الجديد للمدينة.
وفوق كل ذلك، افتتحت أكبر جريدة ورقية في العالم تم تعليقها على واجهة فندق سميراميس وسط دمشق، والذي تتم إعادة تأهيله في هذه الأثناء، وأضيئت الجريدة العملاقة بما يسمح للمواطنين المارين في الشوارع القريبة بقراءتها والاستفادة من محتواها أثناء سيرهم.
انطلقت أولى دورات المعرض عام 1954 وشكّلت حدثاً دولياً اقتصادياً كبيراً فاق نجاحه الاقتصادي والتجاري والسياحي كل التوقعات، بحسب المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية.
وكان المعرض يتميز بموقعه وسط دمشق جانب نهر بردى، وبوابته التي تشبه شكل قوس قزح، والنصب التذكاري للسيف الدمشقي الذي يطل من جهة على ساحة الأمويين ومن جهة أخرى على باب المعرض، ويرمز إلى قوة المدينة ومنعتها.
نُقل المعرض عام 2003 إلى مكان أكبر جُهز لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المشاركين والزوار، ليمتد على مساحة تبلغ أكثر من مليون متر مربع على طريق مطار دمشق الدولي جنوب شرقي العاصمة، واستمر بشكل سنوي حتى عام 2012، حين توقف كما فاعليات اقتصادية وتجارية وثقافية كثيرة.
فالثورة أو الحرب أو الأزمة لم تترك خيارات كثيرة أمام صناعيي البلاد والخارج وتجارها، سوى النأي بالنفس وانتظار ما ستؤول إليه الأحوال.
كما أن وقوع أرض المعرض الجديدة قريباً من مناطق شهدت اشتباكات ومعارك عنيفة وخروج مساحات كبيرة عن سيطرة الدولة السورية شرق العاصمة وجنوبها، حال دون حتى مجرد التفكير بإقامة هذه الفاعلية وتعريض حياة العاملين والزوار للخطر.
في كل الأحوال، من سيفكر في زيارة المعرض أو في الحضور أو استيراد البضائع إلى بلد تستعر الحرب في أرجائه؟
من يكترث بأجيال تكبر وهي لا تعرف سوى التسول في المدينة التي تحولت فضاءً يتسع لآلاف المتسولين دون أن يتسع لأحلامهم؟
هذا ما قيل عن معرض دمشق الدولي وهذا ما لم يقال وما لم تلتقطه العدسات...
عن بؤس لا تراه العين في مدينة تحاول أن تستعيد الحياة وتفرضها على سكان لا مكان لأحلامهم فيها...أخيراً، حان الموعد المنشود وافتتح المعرض بشكل رسمي الخميس 17 أغسطس، وبدأ استقبال الزوار في اليوم التالي، لتكون المفاجأة حضور أضعاف الأعداد المتوقعة، حيث وصل عدد زوار اليوم الأول وحده إلى أكثر من 300 ألف زائر. انتشرت صور مذهلة ظهرت فيها طوابير من السيارات التي استغرقها الوصول إلى المعرض ساعات عدة، وأخرى رأينا فيها الآلاف يتدافعون للحصول على بطاقة الدخول التي تكلف خمسين ليرة سورية (نحو 10 سنتات). من خلال الصور أيضاً، تابعنا ما يضم المعرض من أجنحة تعرض اختراعات ومساهمات في المجالات مختلفة، وجناح يتيح تذوق عشرات المأكولات والأطعمة مجاناً. رأينا كذلك أكبر قرص معمول يستعد لدخول كتاب غينيس للأرقام القياسية، ومستحاثة تعود إلى فصيلة البليزوصور تم اكتشافها حديثاً من قبل المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في الصحراء السورية. واختتمنا اليوم الأول بمقطع فيديو ظهر زوار فرنسيون وهم يعزفون ويغنون ويرقصون في إحدى ساحات المعرض على أنغام أغنية تقول: "نعم... أستطيع أن أرقص"، تبعته صور العائدين بسيارات تستخدم عادة لنقل المواشي، حيث لم تتسع لهم الباصات الخضر المخصصة هذه المرة لنقل الزوار بشكل مجاني، وليس لتهجير سكان لم يعد مرغوباً في وجودهم في مكان ما من هذه البلاد إلى مكان آخر بعيد من سوريا الآمنة والمفيدة. لم تمنع قذائف سقطت قرب باب المعرض في يومه الثالث وأودت بحياة عدد من الأشخاص، من استمرار توافد الزوار السوريين والعرب والأجانب. شهدت أيام المعرض التالية حوادث طريفة، فإحدى الزائرات وضعت مولودها وهي تنتظر الوصول في ظل ازدحام الطريق بالسيارات، وآخر قرر أن يتقدم بطلب يد الفتاة التي يحبها وسط الحشود، كما تطلق زوجان إثر خلاف على توقيت التوجه إلى المعرض. انتهى المعرض في السابع والعشرين من أغسطس، وسجلت سوريا خلال أيامه العشرة بحسب وسائل إعلام محلية رسمية "إصرار السوريين على السلام ونفض غبار الحرب، وقدرة مستقبلية على إعادة الإعمار والبناء ستتجاوز توقعات الأصدقاء والأعداء، في ظل الأمن والاستقرار اللذين عمّا مدناً ومناطق سورية كثيرة". لكن سوريا سجلت كذلك الكثير مما لم يقل قبل معرض دمشق الدولي وأثناءه وبعده. سجلت سوريا حضور مئات الآلاف لزيارة هذه الفاعلية، ليس فقط لإصرارهم على نفض غبار الحرب، بل لأن الحرب لم تترك لهم مكاناً يلجأون إليه، فآثروا أن يحضروا مع أبنائهم بوسائل نقل مجانية، إلى مكان يستطيعون الدخول إليه بشكل شبه مجاني، وتناول أطعمة من دون مقابل، علّها تسد بعضاً من رمقهم وهم غير قادرين سوى على تأمين وجبة طعام واحدة في اليوم في أحسن الأحوال، وترفّه مجاناً عن أطفالهم بعيداً من مقاهي المدينة ومطاعمها ومراكز تسوقها الراقية، والتي لا تصلح لجميع السكان بطبيعة الحال. سجلت سوريا تحوّل طريق المعرض، والمساحة الخضراء الصغيرة التي تقع أسفل تلك الجريدة العملاقة المضاءة، ومساحات أخرى منتشرة في أرجاء دمشق، مساكنَ لعشرات العائلات النازحة، والتي لم يترك غلاء المعيشة، وما يطلق عليه علماء الاقتصاد اسم "الحياة تحت خط الفقر الأدنى" أمامها من خيار سوى البحث عن سكن مجاني لا يحضر صاحبه في نهاية كل شهر للمطالبة بالإيجار، وإن كان يعني ذلك النوم في العراء. قد تزور تلك العائلات معرض دمشق، لكن كثيراً من أبنائها لن يقرأوا الجريدة العملاقة، فهم على الأغلب لا يرتادون المدارس أو ربما يذهبون إليها على سبيل "رفع العتب". فمن يكترث بأجيال تكبر يوماً بعد آخر وهي لا تعرف سوى التسول على قارعات أرصفة المدينة التي تحولت خلال الأعوام الفائتة فضاءً كبيراً يتسع لآلاف المتسولين والباعة الجوالين أطفالاً وكباراً وشيوخاً، من دون أن يتسع بالضرورة لأحلامهم وأمنياتهم بحياة أفضل؟ سجلت سوريا انتظار مئات الآلاف من سكان الغوطة الشرقية، والتي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات من معرض دمشق الدولي، معجزة تنهي مأساة حياتهم تحت الحصار والقصف المستمرين منذ أكثر من أربع سنوات، علّهم يحظون العام المقبل بتلك الفرصة الذهبية لزيارة المعرض، والتقاط الصور إلى جانب أكبر قرص معمول، وأضخم مستحاثة سورية، وربما الرقص مع وفود أجنبية لا ترى في سوريا اليوم سوى تلك القشرة البراقة. "نعم، لقد انتصرنا على الإرهاب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.