لا زال العُمَد (جمع عمدة) القائمون على عدد كبير من القرى المصرية معيّنين من الحكومة، وتهيمن على اختيارهم وزارة الداخلية. وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي أصبحت المخابرات الحربية شريكاً جديداً في اختيارهم، وذلك رغم وجود مطالبات بانتخابهم شعبياً منذ عام 1926.
ففي ذاك العام، تقدّم حزب الوفد بمشروع قانون لانتخاب العُمَد من الشعب، كي يكون العمدة تعبيراً عن الإرادة الشعبية. وجاء ذلك بعد الإطاحة بـ204 من العُمَد في الفترة ما بين 1924 و1926، على يد حكومة أحمد زيور الموالية للقصر الملكي والاحتلال البريطاني، والسبب: إما موالاة حزب الوفد في انتخابات عام 1925، أو رفض تنفيذ قانون الانتخابات، بحسب ما ذكر المؤرخ يونان لبيب رزق في كتابه "ديوان الحياة المعاصرة".
متى استحدث لقب "العمدة"؟
في عهد المماليك والعثمانيين كان القائم على القرى المصرية شخصاً يسمى "شيخ البلد". وفي عهد الخديوي إسماعيل عام 1871، شُرّع قانون، بمقتضاه يكون على رأس كل قرية عمدة، يرأس فرقة أمنية من الخفراء، ويعاونه "شيخ البلد" أو أكثر من شيخ للبلد.
وشدد القانون على اختيار العمدة بالانتخاب المباشر من أهالي القرية، بحسب يونان لبيب رزق.
ولكن بعد الاحتلال البريطاني عام 1882، سعى الإنكليز إلى إحكام قبضتهم على الريف، فطلبوا من الخديوي عباس حلمي إصدار مرسوم عام 1895 يجعل اختيار العمدة بالتعيين من "المديريات" التي يسيطر عليها الاحتلال.
كلف قانون 1871 العمدة بحفظ الأمن، إرسال الشباب إلى الجيش، تنظيم أمور الري، الإشراف على تسجيل المواليد والوفيات، وتسجيل مَن بلغوا سن الانتخاب في جداول الانتخابات العامة، وأضاف قانون 1895 إلى ذلك صلاحيات القاضي، بالفصل في المنازعات.
وفي عام 1964، نُزعت من العمدة أغلب الصلاحيات الإدارية والقضائية، لكنه احتفظ بوظيفته الأمنية، وبتسجيل الناخبين، وهي أمور لا يزال يختص بها، بالإضافة إلى وظيفته الاجتماعية، فهو في نظر قومه كبير ومقدر، يصلح بينهم ويشاركهم مناسباتهم الحزينة والسعيدة.
يعدّ العمدة في نظر كثيرين كبير القرية و"والدها"، كما يطلق عليه البعض. علماً أن من العُمد من لعب دوراً وطنياً، ومنهم من اشتهر بعطفه على الفقراء، كخليل زغلول، عمدة "أولاد حمام" في دمياط.
العمدة في الأفلام ليس خيالاً
كثيراً ما أظهرت السينما المصرية صورة العمدة الطاغية، الذي يتحكم في كل شيء بالقرية. ومن أشهر ما قدمت كان "العمدة عتمان" في فيلم الزوجة الثانية:
قد يعتقد البعض أن في الأمر مبالغة، ولكن المؤرخ والمفكر والأديب أحمد أمين (1886 – 1954)، عرّف العمدة في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، بأنه: "رئيس البلدة أو القرية. معزز أمام قومه، وإن كان ذليلاً أمام المعاون والمأمور. وبعض العمد يظلم الأهالي كثيراً، بفرض ضرائب مالية عليهم، وشراء المواد الغذائية كالبط والإوز بأرخص الأثمان، وأخذهم النساء بالقوة خادمات في بيوتهم، واستخدام الفلاحين وحيواناتهم في زراعتهم وغير ذلك".
ويكمل أمين عن العمدة: "والفلاح يُرعب إذا ناداه، ويحتكم إليه إذا تعدى عليه أحد، فهو في المسائل الجزئية يقوم مقام القاضي، ويجري مجراه على صورة أصغر شيخ بلد. وأبناء العمد والمشايخ يعتزون كثيراً بآبائهم، فمَن لم يحترمهم احتراماً زائداً ضربوه وأهانوه. والناس يسمّون كل مَن كان وجيهاً في لبسه ظاهراً عليه الفلاحة عمدة. فيقولون: أوعى يا عمدة، واتفضل يا عمدة!".
العمدة في مصر... حاكم القرية الذي يعود إلى العهد الزراعي حين كان الفلاحون الأميون يرتعبون منه
بعض شاغلي منصب العُمدة في مصر يتحكمون بأصوات ناخبي قراهم و"لو قالوا لهم رمز الجمل، تكون النتيجة جِمال"
عمدة يعزل محافظ
يروي الزعيم السياسي المصري، محمد فريد، في مذكراته التي حققها المؤرخ رؤوف عباس، قصصاً عن تجبّر العمد وعلاقتهم بالإنكليز، ومنها أن عمدة المطرية (التابعة لمحافظة القليوبية حالياً)، شهد على بيع أرض مرتين كي يتكسب من وراء ذلك، أي باعها صاحبها لشخص بشهادة العمدة، ثم باعها نفس الشخص لآخر رغم أنها مباعة، وبشهادة العمدة أيضاً.
وشكا المتضررون العمدة، ليخضع للمحاسبة أمام مجلس التأديب في المديرية (أعلى سلطة في المحافظة، وهي التي تعيّن العمد)، فقضى المجلس بعزله.
لكن العمدة وصل إلى اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في مصر، وقال له إن سبب عزله هو حبه للإنكليز وكراهيته للخديوي، فأمر كرومر بإعادته لمنصبه. واستقال إدريس بك راغب، مدير القليوبية (يقوم مقامه المحافظ حالياً)، بعد توبيخه على تصرفه تجاه العمدة، في يناير 1897.
[caption id="attachment_120889" align="alignnone" width="700"] إدريس بك راغب[/caption]عمدة يحرق 8 متهمين
وتورط عمدة قرية البلينا (صارت الآن مركزاً تتبع له مجموعة قرى) في صعيد مصر عام 1897، في قتل 8 أشخاص حرقاً، بعد أن اتُهم 7 منهم بقتل ملاحظ الشرطة في مركز أبو شوشة التابع لمدينة جرجا، فهربوا إلى أراضٍ زراعية في البلينا، وتم تكليف العمدة بالقبض عليهم واستدراجهم إلى مخزن في أرضه بعد أن أمّنهم على حياتهم.
وبعد إحكامه إغلاق الباب عليهم، حضرت فرقة شرطية من المديرية للقبض عليهم، ولما رفض المتهمون الخروج، أضرمت القوات النار في المخزن ليموت مَن فيه حرقاً، بحسب محمد فريد.
العمدة الاشتراكي
كان من اشتراطات اختيار العُمدة أن يكون من كبار الملاك الزراعيين في قريته. وبعد يوليو 1952، صدر قانون الإصلاح الزراعي الذي يقلص الملكيات الكبيرة للأراضي الزراعية لتوزيعها على المعدمين. واستطاع الكثير من العُمد التحايل، فوزّعوا تركتهم على أبنائهم أو مَن يثقون بهم كي لا تطالهم إجراءات المصادرة.
كما أعلن أغلبهم موالاتهم للنظام الجديد، بل وانضموا إلى الاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الحاكم والوحيد بمصر في ستينيات القرن الماضي وحتى عام 1978)، والذي صار الانضمام إليه شرطاً لاختيار العمد.
ما سبق أكد عليه الكاتب والمؤرخ عباس الطرابيلي. كما أكد لرصيف22 أن عائلات كثيرة لا زالت تتوارث منصب العمدة منذ العهد الملكي حتى يومنا هذا، باستثناء القرى التي تضخمت وصارت أشبه بالمدن، إذ أنشئت فيها نقاط للشرطة.
كما أشار الطرابيلي إلى أن من العائلات ذات النفوذ، التي تولت منصب العمدة، مَن أفرزت أحد قادة ثورة يوليو، مشيراً إلى عائلة عامر في أسطال بالمنيا، التي كان منها المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة المصرية، والرجل الثاني في الدولة خلال عهد جمال عبد الناصر.
قانون السادات وتعديل السيسي
عام 1978، خلال عهد أنور السادات، تم إقرار قانون جديد للعمد والمشايخ، وجعل القانون اختيار العمد بأيدي السلطات الأمنية، بحيث تشكل لجنة لفحص طلبات شغل وظيفة العمدة، تتكون من 4 أشخاص، وهم: نائب مدير أمن المحافظة التي بها القرية محل العمادة "رئيساً"، وعضوية قاضٍ تختاره الجمعية العمومية للمحكمة التي تقع في دائرتها القرية، ومدير إدارة البحث الجنائي بمديرية الأمن، ومفتش مباحث أمن الدولة.
ولا يكون اجتماع اللجنة صحيحاً إلا بحضور ثلاثة من أعضائها بمَن فيهم الرئيس، وتصدر قرارات اللجنة بأغلبية الأصوات، وعند التساوي يرجح صوت الرئيس، أي أن وجود القاضي في اللجنة ليس له تأثير أمام باقي أفرادها المنتمين إلى وزارة الداخلية.
وجرت على هذا القانون تعديلات في عهد السيسي، عززت من سلطة أجهزة الأمن في اختيار العمد، كما وسعت الجهات الممثلة في لجنة الاختيار، ولعل أبرزها جهاز المخابرات الحربية، الذي كان يرأسه السيسي قبل قيادة الجيش والرئاسة.
ذراع الحكومة الأمنية والسياسية
في فيلم "محامي خلع"، المُنتج عام 2002، يقول المحامي فؤاد عسكر (الفنان وحيد سيف) عن العمدة عبدالرحيم النوساني: "يتحكم في 25 ألف صوت انتخابي، لو قال لهم رمز الجمل، تكون النتيجة 25 ألف تذكرة جمال. ولو قال رمز القفل يعني 25 ألف تذكرة أقفال"، في تعبير عن الاستغلال السياسي لنفوذ العمدة لدى الفلاحين.
&t=14m11sولا شك في أن طبيعة تريبة الريف الاجتماعية تغيّرت ولم يعد أبناؤه ينقادون إلى كبير قريتهم. ولكن كثيراً ما اتهم العُمد بالمشاركة في تزوير الانتخابات لصالح مرشحي النظام الحاكم، ولعل انتخابات 2010، المؤهلة لعضوية مجلسي الشعب والشورى (غرفتي البرلمان المصري وقتها) كانت شاهداً على ذلك.
فشهدت وقائع انتخابات "الشورى"، استخدام النظام بعض العُمَد لإثناء البعض عن الترشح. كما شهدت إجبار عُمد للناخبين على التصويت للحزب الوطني، بل أخذ أحدهم استمارات الاقتراع واختار مرشح الحزب بنفسه.
وجرى رصد إغلاق عمدة لأبواب اللجنة الانتخابية بقريته أمام الناخبين، وتصويته وخفرائه لمرشح الحزب الوطني بدلاً منهم.
وشهدت انتخابات مجلس الشعب لنفس العام، قيام عمد بالدعاية لمرشحي الحزب الوطني داخل اللجان الانتخابية. وفي بعض القرى، هدد العمد الأهالي باعتقالهم إن صوتوا لمرشح الإخوان المسلمين.
وشهدت انتخابات الرئاسة لعام 2012، والتي فاز فيها محمد مرسي، عدة وقائع لقيام عمد بدعم المرشح أحمد شفيق، والوقوف أمام لجان القرية لتوجيه الناخبين للتصويت له. كما منع بعض العمد مندوبي جميع المرشحين من دخول اللجان باستثناء مندوبي المرشح أحمد شفيق.
وفي انتخابات الرئاسة لعام 2014، أعلن 240 من العمد ومشايخ القبائل العربية، تأييدهم للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، في انتخابات الرئاسة، والتقوا به قبل الانتخابات.
محاولات تجميل
يرى البعض أن محاولات تجديد دماء منصب العمدة بإضفاء شكل جديد عليه كتعيين امرأة، أو توسيع اللجنة التي تختاره ليس كافياً.
ويقول خبير الإدارة المحلية، حمدي عرفة لرصيف22 إن منصب العمدة ينتمي إلى العصر الزراعي البحت، ولكن التركيبة السكانية للريف تطورت، ولم يعد الريفيون هم فقط الأميون العاملون بالزراعة الذين يرتعبون من العمدة، مطالباً باستحداث نظام أكثر ديمقراطية وعصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.