في 5 يوليو الماضي، دارت مكالمة هاتفية بين الرئيسين، الأمريكي دونالد ترامب، والمصري عبد الفتاح السيسي. وفي حين اهتم الجميع بكلام ترامب بخصوص أزمة الخليج مع قطر، لم يُشَر كثيراً إلى التطرق إلى موضوع غير متوقع بين القائدين، وهو أزمة كوريا الشمالية.
فقد جاء في بيان البيت الأبيض أن الرئيسين ناقشا تهديد كوريا الشمالية، وشدّد ترامب على ضرورة تطبيق جميع الدول لقرارات مجلس الأمن الدولي كاملة بشأن بيونغ يانغ، ووقف توفير منافع اقتصادية وعسكرية لها ووقف استضافة عمال كوريين.
قبل قليل من هذا الاتصال، أعلنت الخارجية الأمريكية اقتطاع 95.7 مليون دولار من المساعدات الأميركية إلى مصر وتعليق 195 مليوناً أخرى. وسارعت الصحف الأمريكية إلى تفسير ذلك بأنه عقوبات على القاهرة بسبب علاقتها مع بيونغ يانغ.
بل إن "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، قرأتا في القرار خطوة ضمن أجندة تستهدف كوريا الشمالية بشكل غير مباشر، تلك الدولة التي تشاطر مصر علاقات دبلوماسية قوية، والتي سيكون من المفيد لترامب أن يضغط أكثر بحبل مصر ليتمكن من خنقها.
ورغم أن الخارجية الأمريكية قالت إن هذه العقوبات تستهدف القاهرة بسبب غياب الديمقراطية، إلا أن هذه التلميحات الصحافية، وكذلك إشارات ترامب للسيسي، تكشفان أن هذه الشكوك ليست بلا أساس.
مصر وكوريا الشمالية... علاقات تاريخية
تمثل العلاقات المصرية الكورية الشمالية أحد الملفات المثيرة للجدل في تاريخ مصر المعاصر. فعلى الرغم من الانضواء الكلي تحت لواء الولايات المتحدة عقب اتفاقية السلام مع إسرائيل، وتحوّلها إلى ثاني أكبر متلقي للمساعدات العسكرية الأمريكية في العالم، تتشبث القاهرة بموقفها الخاص في شبه الجزيرة الكورية. وأكد كثيرون من المسؤولين الأمريكيين أن إدارات الولايات المتحدة المتعاقبة أثارت هذا الملف مع القاهرة. وتؤكد الهيئة العامة للاستعلامات، التابعة للرئاسة المصرية، على موقعها أن "للعلاقات المميزة بين القيادة السياسية المصرية والكورية أبلغ الأثر على مسار العلاقات الثنائية بين البلدين والدولية أيضاً، من خلال التنسيق الدائم والتعاون المستمر بينهما في المحافل الدولية". ويوضح الباحث في الشؤون الكورية محمد صلاح لرصيف22 أن الروابط بين القاهرة وبيونغ يانغ شهدت تطوراً كبيراً خلال الأعوام العشرة الأخيرة من حكم جمال عبد الناصر، بفضل التوجهات الاشتراكية التي جمعت العاصمتين. فمنذ عام 1963، سارعت مصر إلى الاعتراف بكوريا الشمالية كدولة مستقلة، بينما تطور علاقتها بجارتها الجنوبية كان بطيئاً ولم ترتقِ إلى مستوى تبادل السفارات إلا عام 1995.يمكن الاستفادة من بنك المعلومات المصري في الجهود لتضييق الحصار على كوريا الشمالية
لعبت مصر دوراً في برنامج كوريا الشمالية للصواريخ البالستية... ونجحت جهود مصر لتطوير صواريخ بمساعدة الأخيرةوالقاهرة أيضاً واحدة من 24 دولة حول العالم لديها تبادل سفارات مع كوريا الشمالية، وواحدة من اثنتين عربيتين فقط إلى جانب سوريا، كما أنها واحدة من 5 دول عربية فقط تستضيف سفارة لكوريا الشمالية على أراضيها. ويقول صلاح إن كوريا الشمالية استغلت انحياز عبد الناصر إلى جانبها من أجل عرقلة قبول عضوية كوريا الجنوبية في حركة عدم الانحياز. ومع هزيمة مصر في حرب الأيام الستة أمام إسرائيل ووفاة عبد الناصر، شهدت العلاقات بين البلدين دفعة جديدة في الجانب العسكري. وبحسب مذكرات رئيس أركان الجيش المصري الراحل، سعد الدين الشاذلي، حصلت القاهرة على دعم عسكري من كوريا، إذ طلب الشاذلي خلال زيارة سرية له إلى بيونغ يانغ إرسال طيارين لقيادة طائرات "ميغ 21"، وكذلك فنيين لتدريب المصريين. ورغم أن مصادر كثيرة تتحدث عن أن دور الطيارين الكوريين (البالغ عددهم 30 طياراً) في حرب أكتوبر 1973 لم يتعدّ الدفاع عن الجبهة الداخلية وحماية الأجواء، إلا أن طيارين إسرائيليين أكدوا دخولهم في معارك جوية ضد كوريين.
مساهمة مصرية في البرنامج الصاروخي الكوري الشمالي
تجسدت التفاهمات السياسية والعسكرية التي تجمع البلدين بشكل أساسي بعد حرب أكتوبر 1973، إذ انتابت مصر وكوريا الشمالية طموحات مشتركة من أجل إطلاق برنامج لتطوير الصواريخ محلياً. ولعبت مصر دوراً في برنامج كوريا الشمالية للصواريخ البالستية. فبحسب الباحثة في معهد مديلبوري للدراسات الدولية والمختصة في الشؤون الكورية، أندريا برغر، دفع حظر شراء الصواريخ المفروض على مصر بعد حرب أكتوبر، إلى السعى لإنتاج الصواريخ محلياً وامتلاك تكنولوجيا تصنيعها. وفي هذا الإطار، سلمت مصر صاروخين سوفياتين من طراز "سكود- بي" إلى كوريا الشمالية من أجل السماح لعلمائها بفك شفرتها وتطويرها، شريطة أن تشارك كوريا الشمالية مصر في هذه التكنولوجيا. وفي تقرير يعود لعام 1996، كشف معهد "ويسكونسين بروجيكت" أن جهود مصر لتطوير صواريخ نجحت بمساعدة كوريا الشمالية، موضحاً أن كوريا الشمالية سلمت إلى مصر الدراسات الفنية والتصاميم، بل كل ما هو متعلق ببرنامج تطوير صواريخ "سكود". وبيّن التقرير أنه يمكن للقاهرة الآن إنتاج نسختها الخاصة من الصواريخ السوفياتية "سكود - بي"، التي يمكنها حمل رؤوس نووية أو كيميائية لمسافة أكثر من 300 كلم، كما طوّرت نسخة متقدمة من "سكود – سي" التي يمكن أن تهدد جميع أنحاء إسرائيل وتصل إلى ليبيا وسوريا والسودان. في المقابل، ساهم اعتماد كوريا الشمالية على صواريخ "سكود - بي" التي سلمتها مصر لها في تطوير البرنامج الصاروخي الكوري الذي تنطلق نماذج كثيرة من صواريخه من نموذج سكود الروسي.شبكات تدار من ميناء بورسعيد
كشفت لجنة خبراء تابعين للأمم المتحدة في 2015 إن شركة الواجهة الكورية الشمالية "Ocean Maritime Management" اعتادت تهريب الأسلحة، وعملت مع أشخاص وكيانات في مصر، بين أماكن أخرى، وأدرجت اللجنة ميناء بورسعيد ضمن الأماكن التي تمتلك كوريا الشمالية عملاء شحن فيها، وذكرت أن موظفين تابعين للشركة الكورية المذكورة تمكنوا من التخفي داخل شركة في بورسعيد على الأقل حتى عام 2011. كما انخرط أشخاص من كوريا الشمالية بشكل مكثف في عمليات تقديم الدعم اللوجستي للسفن الكورية، ومن بينها تسهيل مرورها عبر قناة السويس، بحسب الأمم المتحدة. ورافقت عمليات تطوير السلاح صداقة كبيرة جمعت بين الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، ومؤسس كوريا كيم إيل سونغ. وفي الفترة بين 1983 و1990، قام مبارك بـ4 زيارات إلى بيونغ يانغ. وفي عام 1994، عانى مبارك من فضيحة قوية وموقف محرج على الساحة الدولية بعد هرب سفير كوريا الشمالية في القاهرة إلى الولايات المتحدة حاملاً معه مئات الوثائق السرية حول عقود تسليح مبرمة بين بلاده وبعض الدول العربية، وعلى رأسها مصر. وبرغم الفضيحة، لم توقف مصر علاقتها العسكرية السرية مع كوريا الشمالية. فعام 2001، كشفت وثائق عثر عليها داخل شقة لزوجين كوريين في مدينة براتيسلافا، عاصمة سلوفاكيا، أنهما كانا عميلين كوريين يرتبان لبيع مكونات صاروخية بقيمة ملايين الدولارات لزبون غير متوقع، وهو مصر. وأظهرت الوثائق أن متلقي هذه المكونات الصاروخية هو مصنع "قادر للصناعات المتطورة" وهو مجمع عسكري في القاهرة. وقال الباحث في العلاقات الدولية طارق فهمي لرصيف22 إن العلاقات بين مصر وكوريا الشمالية عسكرية إستراتيجية، وهو ما لم يعجب واشنطن، لا سيما أن القاهرة اعتمدت على علاقتها العسكرية مع بيونغ يانغ على تطوير الأسلحة وتنويعها بعيداً عن "القائمة المحددة" التي تقدمها واشنطن. وتحدث تقرير نشره موقع "غلوبال سكيورتي" عام 2007، عن الاعتقاد بأن مصر تسلمت عام 2006 من كوريا الشمالية 400 منصة صواريخ من طراز "سكود-بي" و"سكود-سي". وفي تقرير آخر، أكدت الأمم المتحدة أن شركة تسمىKorea Rungrado General Trading Corporation سلمت إلى مصر شحنة من قطع صواريخ سكود.منافع اقتصادية
يعترف محمد الدسوقي، المختص في الشؤون الكورية، أن مصر تتعامل مع كوريا الشمالية مثل باقي الدول التي تقيم معها علاقات دبلوماسية، مؤكداً أن هناك تبادلات تجارية بين القاهرة وبيونغ يانغ، لكن نصيب الأسد هو للقطاع الخاص. ومنذ عام 1983، تربط مصر وكوريا الشمالية لجنة للتعاون الاقتصادي والعلمي والفني والثقافي، وقع عقود تشكيلها مبارك والزعيم الكوري كيم إيل سونغ، وتجدد تلقائياً. وبحسب صفحة هيئة الاستعلامات، هناك أكثر من 20 اتفاقاً اقتصادياً وتجارياً وإعلامياً وثقافياً بين البلدين. من النادر أن يستقبل زعيم كوري شمالي زائراً أجنبياً بشكل شخصي، والأندر من ذلك هو السماح بالتقاط صورة تظهره يصافح هذا الشخص بحرارة، غير أن عملاق الاتصالات المصري نجيب ساويرس، حصل على ذلك كله، خلال زيارته بيونغ يانغ في يناير 2011. . [caption id="attachment_120441" align="alignnone" width="700"] الزعيم الكوري كيم إيل سونغ مع نجيب ساويرس[/caption] وبحسب تقرير لـ"غلوبال بوست"، فإن ساويرس وكوريا الشمالية تجمعهما صداقة من نوع خاص. ففي عام 2008، وقع ساويرس من خلال شركته "أوراسكوم" مع حكومة كوريا الشمالية اتفاقاً لإنشاء شركة "كوريولينك" باستثمارات تعدت 400 مليون دولار (75% من الأسهم مصرية)، وهي الشركة الوحيدة التي توفر خدمات الاتصال الهاتفي في كوريا، وتمكنت الشركة من الحصول على 3 ملايين عميل، أغلبهم من قيادات الجيش وحزب العمال الحاكم وموظفي الجهاز البيروقراطي للدولة. وهناك ذراع آخر لساويرس داخل كوريا الشمالية هو "أوراسكوم للإنشاءات". ففي عام 2007، بنت الشركة مصنع "سانغ وون" للإسمنت بقيمة 115 مليون دولار، وفي العام التالي، تولت استكمال مشروع فندق ريوغيونغ العملاق على شكل هرم، والذي أصبح رمز "هيبة" كوريا الشمالية. رافق ذلك، إنشاء ساويرس بنك "أورابنك" – الذي أغلق في 2016 بسبب العقوبات، والذي استخدم في تسهيل نقل الأموال من الدولة وإليها. وبحسب موقع "تشوصن ليبو" الكوري الجنوبي، كان "أورابنك" مرتبطاً بالبنك التجاري الخارجي لبيونغ يانغ، الذي فرضت عليه عقوبات من الولايات المتحدة، لتمويله برنامج الأسلحة النووية الكورية. ومؤخراً، منعت كوريا الشمالية ساويرس من إخراج أرباحه من البلاد، وأجبر رجل الأعمال على إعادة استثمار مئات الملايين من الدولارات في بيونغ يانغ.السيسي وكوريا الشمالية... موقف غامض
في 5 أغسطس الماضي، صوتت القاهرة في مجلس الأمن لصالح فرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية في خطوة رآها الكثيرون نادرة من الجانب المصري. وبحسب هيئة الاستعلامات، جاء ذلك "إلى جانب دعم مصر الدائم للموقف الكوري الشمالي في المحافل الدولية بخصوص الموضوعات وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بأوضاع حقوق الإنسان بها، حيث أن مصر غالباً ما تصوّت ضد مشاريع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن أوضاع حقوق الإنسان في بيونغ يانغ". وفي 6 أغسطس 2015، فوّت زعيم كوريا الشمالية، كيم جونج أون، فرصة استثنائية أمام المصورين حول العالم بالظهور للمرة الأولى جنباً إلى جنب مع العديد من القادة الدوليين، بعد توجيه السيسي دعوة له لحضور حفل افتتاح قناة السويس. ولم يأت تلميح ترامب للسيسي خلال المكالمة، بشأن استقبال عمال كوريين، من قبيل المصادفة، ففي ديسمبر 2016، عاقبت وزارة الخزانة الأمريكية عدداً من الشركات الكورية لإرسال عمال إلى مصر وبلدان إفريقية من أجل جلب دخل إلى بيونغ يانغ. ويبدو أن تعامل مصر مع كوريا الشمالية يشهد أخذاً ورداً. ففي أغسطس 2016، اعترضت السلطات المصرية سفينة تابعة لكوريا الشمالية في طريقها إلى قناة السويس تحمل 30 ألف قطعة من قاذفات الصواريخ PG-7 (قاذفة متوسطة تشبه الآر بي جي) والمواد المتعلقة بها. ويمكن الاستفادة من بنك المعلومات المصري في الجهود لتضييق الحصار على كوريا الشمالية. بحسب تقرير لمعهد POMED الأمريكي، تستخدم بيونغ يانغ شركات واجهة ومسهلين دوليين وبعثات تجارية ودبلوماسية لبيع وشراء المواد الحظورة في إفريقيا والشرق الأوسط، إذ كشف محققون تابعون للأمم المتحدة في بداية 2017 أنه تم توثيق عمليات تجارية لكوريا الشمالية لمعدات لها علاقة بالاتصالات العسكرية المشفرة وأنظمة دفاع جوية محمولة وصواريخ موجهة بالأقمار الصناعية في المناطق المذكورة. وبحسب وكالة "يونهاب" الكورية الجنوبية، نقلاً عن عناصر استخباراتية كورية شمالية، فإن مصر كانت قلب هذه التجارة في الشرق الأوسط، وبالتالي هي على علم بخفاياها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...