يمتلك أشرف إبراهيم يوسف (38 سنة) محلاً ليبيع المشروبات الروحية لا تتخطى مساحته الـ12 مترًا مربعاً في شارع محمود بسيوني بمنطقة وسط البلد القاهرية.
محله قانوني ومصرح به، هو باب رزقه الذي يحبه، لكنه أيضاً باب "وجع رأسه".
كثيرة هي الاعتبارات الدينية والاجتماعية التي تجعلكم تفكرون أكثر من مرة في حال أردتم أن تعملون في مجالات هي عرضة للانتقاد في محيطكم، حتى وإن كانت قانونية ومرخصة.
مجال تجارة الخمور في مصر أحدها.
شريحة كبيرة من المجتمع هنا ترفض العاملين في تلك المهنة، لا سيما المسلمين، إذ يحرم دينهم معاقرة المسكرات وبيعها وشراءها بأشكالها، ويعتبر رجال الدين المال الذي يجنى منها حراماً.
لكن الاستنكار ليس حكراً عليهم، فهو وارد على اختلاف الأديان، فأشرف مسيحي الديانة.
كل ما عليكم فعله هو إعلان أنكم تعملون في مصنع بيرة أو حانة مثلاً، ليبدأ الجيران أو الأقارب أو المعارف تحسس مواقعهم في محيطكم.
يقول أشرف لرصيف22، أنه سبق أن واجه تساؤلات ومواقف محرجة كثيرة بسبب محله. فأسئلة كثيرة تُطرح عليه عن اختياره هذه المهنة رغم حرمانيتها، أو حتى عن مدى حرمانيتها في رأيه.
"في البداية كنت أصمت ولا أجد جواباً، إلا أننى لاحقاً بدأت أرى الأمر من وجهة نظر أخرى وجهة نظر تجارية بحت، فأنا أدفع ضرائب وتأميناً ومعي رخصة محل والدولة توفر لي الحماية الخدمية والإنتاجية"، يقول لرصيف22.
كار قديم….
على رغم الرفض المجتمعي الخمرَ بشكل عام، إلا أن استهلاكه كبير في مصر التي التي ينص دستورها على أنها دولة إسلامية، إذا تتراوح نسبة المسلمين فيها بين 80% و90% من إجمالي عدد السكان. وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2015، والتي كشفت خلاله معدل استهلاك الفرد من الدول العربية للمشروبات الكحولية، جاءت مصر في المرتبة الثانية عشرة بمعدل 6 ليترات لكل مواطن سنوياً. في هذا الصدد، قال حاتم سليم، رئيس شعبة المشروبات الغازية في الغرفة التجارية، لرصيف22، أن عدد محال الخمور الموجودة حالياً في مصر 3500 محل على مستوي الجمهورية، فضلًا عن الشركات التي تعمل في هذا المجال، والتي تصل إلى 7 شركات بخلاف المعامل المرخصة وغير المرخصة. وقد أضاف أن إجمالي حجم تجارة الخمور يبلغ 200 مليون جنيه منها 40 مليون جنيه تأتي من خلال استيراد المشروبات الكحولية، ويبلغ حجم الرسوم الجمركية على تجارة الخمور 500%. وأشار إلى أن عدد معامل تصنيع الكحول يصل إلى 120 معملاً منتشراً في منطقة الأزبكية ووسط البلد والفجالة والضاهر، هذا بخلاف معامل بير السلم وجزء كبير منها منتشر في الصعيد. يقول الدكتور حسن الخولي، الأستاذ في علم الاجتماع في جامعة عين شمس، أن اعتقاد بعض الناس أن الخمور ليست منتشرة في مصر، خطأ ناتج من إغفال وسائل الإعلام كلها تاريخَ تلك الصناعة. أسباب التجاهل في رأيه متعددة، أهمها الجانب الديني والأخلاقي، والذي يعتبر الخمر أمراً محرماً وخارجاً عن الآداب العامة. "إحنا معلمين في صناعة الخمور"، يقول الخولي، مدللاً بحديثه على أن الـ200 عام المنصرمة شهدت تطوراً نوعياً في صناعة الخمور في المنطقة بشكل عام. ففي بدايات القرن الـ19، كانت هذه الصناعة متراجعة إلى حد كبير، إلا أن مع دخول الإنكليز أعاد رواجها من جديد وتم إنشاء أول مصنع للخمور في منطقة دلتا مصر لرجل أعمال يوناني الجنسية. كان لليونانيين حينذاك نصيب الأسد في مصانع الخمور ومعاملها ليتم بعد ذلك في حقبة عبدالناصر تأميمها، وقد كان تخطى عددها الـ150 مصنعاً.لن أغير عملي...
بالنسبة إلى أشرف، محله وعمله ليسا بقدم صناعة الخمور في مصر، لكنهما ليسا حديثين. فقد ورث هو وشقيقه المهنة والمحل عن والدهما وعائلته التي تعمل في هذا المجال منذ ستينات القرن الماضي. لذلك، فإن عائلته وأقرباءه لا يجدون حرجاً في عمله، وهو لا يفكر في تغيير مهنته. لكن عائلته ليست انعكاساً للمجتمع كله. "كان أغرب موقف اتعرضت ليه، هو رفض شحات أنه ياخد مني حسنة، الراجل العجوز رفض وقالي فلوسك حرام، يعني هو بيشحت وبيتكبر عليا ويحلل ويحرم براحته، أنا فاتح بيوت ناس وفيه ناس بتسترزق من ورايا، أنا لو بعمل حاجة غلط كانت الحكومة قفلت المحل وربنا في النهاية اللي هيحاسبنا كلنا"، يقول أشرف لرصيف22. يتطرق أشرف إلى المشكلات التي يتعرض لها في عمله قائلاً أنه وزملاءه "الشماعة اللي بعلقوا عليها"، قاصداً أنهم عرضة لانتقاد دائم وأول المقصودين عند أي تفتيش أو مشكلة، بحسب وصفه. "كل يومين تلاتة مباحث التموين أو الحي أو وزارة الصناعة أو الضرائب، زي ما تقول كده فلوسنا غنيمة، ولو خلصنا من دول يطلعلنا كل شوية من حين لآخر اللي يكفرونا ويحرقوا محلاتنا". شهدت الأعوام التي تلت ثورة 25 يناير 2011، عدداً من عمليات حرق وقتل بحق العاملين في مجال بيع الخمور، لعل أقربها حادث ذبح صاحب محمصة يبيع فيها البيرة في أحد الشوارع المشهورة بمحافظة الإسكندرية على يد أحد المنتمين إلى التيار السلفي المتشدد. لكنه لن يغير عمله. "الحقيقة أنا معرفش أعمل حاجة غير إنى أبيع خمرة دي مهنتي اللى اتعلمتها"، يقول لرصيف22.كيف تغير المجتمع؟
يمتلك سعيد اسحاق معملاً يصنع أنواعاً بعينها من المشروبات الروحية وهي البراندي والكونياك، فضلاً عن تقطير عرق البلح، يقع معمله بين حي الظاهر الأثري وحي الفجالة في منطقة القاهرة القديمة. تجاوز سعيد العقد السابع من عمره، أصلع الرأس ما عدا ما يغطي جوانبه بالشعر الأبيض. معمله قديم على مساحة مئة وخمسين متراً، مبنى قائم بذاته وسط المساكن، لا تكاد تدخل الشارع حتى تشتم رائحة الكحول النافذة. تجد داخل المصنع الصفائح (التنكات) المعدنية، وهي قوالب دائرية يصل قطرها إلى مترين ونصف وعرضها إلى متر ونصف، تتراص جانب بعضها بعضاً فوق أرضية سيراميك. الكل يعمل من دون كلل، بينهم "كبير الصنايعية" الذي خصه صاحب المعمل بما سماه "سر الصنعة"، وهناك من يغسل القوالب، إضافة إلى سيدات يعملن في التأكد من إحكام إغلاق الزجاجات. يقول صاحب المصنع، والذي اعتاد أن يناديه موظفوه بعم سعيد، لرصيف22 أنه ورث الصنعة عن عائلته. "من ساعة لما وعيت على الدنيا وكان جدي وأبويا أصحاب المعمل وأنا كنت صغير بساعدهم فى الشغل، ويدوب كان معمل صغير دور واحد دلوقتي أنا كبرت المعمل وخليته دورين في الأرضي". يتحدث عما واجهه خلال عمله في تصنيع الخمور قائلاً: «ولادى مش راضيين يشتغلوها... عندي دكتور فى أميركا و مهندس فى كندا، شايفين إن الشغل في الخمرة عيب وحرام خاصة إننا في دولة عربية". يقول أن المشكلات مع المجتمع لم تكن تظهر سابقاً، إلا أنها بدأت تظهر في السبعينات من القرن الماضي، حيث بدأ انتشار التيار الإسلامي المتشدد على الساحة العامة. نقطة التغيير الثانية بحسب سعيد كانت مع بداية ثورات الربيع العربي وظهور جماعات متشددة مرة أخرى على السطح.حتى المصاهرة صعبة….
لا يعتبر سعيد عمله حراماً، ورزقه في رأيه لا تشوبه شائبة. "أنا راجل مُصنع وبادفع للحكومة اللى علي من ضرائب وتأمينات ومشغل عندي خمسين عامل بياخدوا مرتبات كويسة ومكافأت... شغلتي بتأكلني دهب والخمسين عامل دول عندهم أسر بيصرفوا عليهم وأنا مسؤول عنهم كلهم". يروي أنه منذ عشر سنوات كان لديه عامل يدعى محمود، ظل يعمل لمدة عامين، حتى استقطبته جماعة متشددة. "عملوله غسيل مخ، ابتدا يخرب لي الشغل فمشيته". وأوضح سعيد أنه يواجه بعض المشكلات في حياته الاجتماعية، فكثيراً ما يرفض بعض الناس التعامل معه. حتى علاقات المصاهرة يجد فيها صعوبة، فهناك عائلات رفضت أن تزوج بناتها بأولاده بسبب مهنته، من دون أن يعرفوه شخصياً، مؤكداً أن ذلك الوضع لم يكن قديماً."اللي رماك على المر"
اقتربنا من إحدى العاملات في معمل سعيد. اسمها سنية (40 عاماً)، وقد رفضت ذكر اسمها الكامل. هي أرملة، ولديها من الأبناء 3، وتعمل في مجال الخمور منذ خمس سنوات. في بداية حديثها، قالت أن شقيق زوجها يعمل معها، وهو من وفر لها هذا العمل. "شغلتي في المعمل بتأكد إن الكبسولة ركبت فى القزازة وإنها مش مهوية"، تقول لرصيف22. يمكّنها عملها من تعليم أولادها وتوفير المأكل والملبس المناسب لهم، لكن الأزمة الحقيقية التي تواجهها هي في نظرة المجتمع إليها. تعتبر أن عملها في معمل خمور خطأ، لكنها تقول لنفسها: "قالك ايه اللي رماك على المر يا ابن آدم قال اللي أمر منه، وأنا أشتغل في الخمور أحسن ما اشتغل في حاجة تانية أكثر حرمانية". وأشارت إلى أن أولادها يعلمون تفاصيل مهنتها، لكنها تطلب منهم عدم البوح بهذا "السر" لأي مخلوق، لافتة إلى أن أصدقاءها وجيرانها لا يعلمون. "عارفين إني شغالة في مصنع وبس، أصلهم لو عرفوا موضوع الخمرة نظرتهم ليا هتتغير ومش هسلم من كلام الناس في الرايحة والجاية أنا بأكل عيالي ومحدش بيصرف عليا، وفي النهاية أنا ست حرة طالما شريفة". وتضيف: "أنا لا بشرب الخمرة ولا بطيق ريحتها، بس فلوسها حلوة وبتكفي احتياجات بيتي، ولا أمانع أن يعمل أولادي في هذا المجال".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...