وقفت أمام بوابته. كتب عليها لافتة "هنا بخار بلدي للسيدات". شعرت أنه يرفض الظهور وسط كل هذا الزحام والأشياء البعيدة عن زمنه... زمن الفاطميين.
في اللحظات التي مضت قبل عبوري لهذه البوابة، لم أتذكر سوى تفاصيل الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه "حمام الملاطيلي"، شعرت بالخوف من اقتحام هذا العالم الخاص، لكنني وجدتني أعبر هذا الممر الضيق، المليء بالانحناءات، والسبب كما قالت لي من استقبلتني، هو تقليل التيارات الهوائية حتى لا يصاب زوار الحمام بالبرد.
بينما أرى أن السبب الحقيقي ربما يقع فى رأس من صمم معماره التاريخي الفريد، في أن تظل الأحداث التي تدور في الداخل بعيدة عن عيون وآذان من يقفون أمام بوابته، ومن يحاولون التلصص على زائراته.
الرجال يسيرون في الشارع، ونحن عاريات نثرثر ونضحك في الداخل على كل شيء. وأنا في حضرة البخار، قالت لي السيدة البيضاء التي كانت تجلس بجواري هي وابنتاها، ساخرة: "لو عرف الرجال ما نفعله فى الداخل، ونحن عاريات نرسم الحنة في كل مكان بأجسادنا لهجموا علينا"، ثم ضحكت، بعدها قامت بإطلاق "زلغوطة مدوية" شعرت معها أن المكان يغني.
هذا المكان لم تتغير تفاصيله المعمارية، عبرت تفاصيل ضيقة وملتوية ومظلمة، وبعد دقائق قليلة أصبحت داخل قاعة تشبه غرف الاستقبال ويطلق عليها "بيت أول ". تفاصيلها أعادتني إلى كتب التاريخ التي قرأت فيها عن هذه الحمامات. هي قطعة فنية رائعة الجمال والتصميم.
من الخارج مطلية بطلاء جيد يبهر الزائرين، لكل حمام خلوات مفروشة بالرخام وبداخلها حوض من الرخام. الواقع في هذا الحمام شيء مختلف، أنا لا أرى سوى بلاط يكاد ينخلع من مكانه، لكن الجدران تشير لمكان جميل كأنه منحوت في الصخر. الجدران عليها صور تشير لمن آلت إليهم ملكية الحمام.
أم زينب قارئة الفنجان
وجدت بطانيات ومناشف وبجوارها صاحبة الحمام البدينة تجلس على كرسي خشبي وحولها مجموعة من الصبايا يجلسن على آرائك خشبية. بعضهن يفضلن الجلوس قبل الخروج لعدم التعرض للهواء خارج الحمام مباشرة، والبعض الآخر يعملن في الحمام، قدمت نفسي كزائرة عادية. فجلست بعض الوقت لأجد زبونة من زبونات الحمام. اسمها أم زينب وكانت تقرأ الفنجان لأم رأفت التي تدير الحمام، والتي يعمل بناتها فيه، ومعروف عنها أنها تنسج حكايات كثيرة بمذاق خاص تعرفه المترددات على الحمام. قالت لها قارئة الفنجان: "إنتي أهلك هياكلوا في بعض زي السمك بس ما تتدخليش، ان شاء الله هتحجي وقدامك سكة سفر طويلة، إنتي ليكي أخ تعبان ربنا هيجبره، ليكي ابن عصبي وبيتخانق مع إخواته ربنا هيهديه". أنهت قارئة الفنجان كلامها مع مديرة الحمام ليلتف حولها كثير من الفتيات اللواتي يأتين إلى الحمام من باب التجريب والاستمتاع بالدردشة داخله. كانت تقول لهن الكلمات المبشرة نفسها مع بعض الاختلاف بحسب الحالة الاجتماعية لكل فتاة. فتقول للبنت سيتقدم إليك عريس "طول بعرض" قريباً، وللمتزوجة: "لا تحزني سيهدي الله زوجك، لكن عليك بمياه الملح، ارمي في كل ركن في بيتك ملحاً، ارمي ملحاً في مياه وامسحي بها سيراميك شقتك كله". لم أفوت الفرصة. جلست بجوارها وأعطيتها يدي، فقالت لي: "على بابك أفراح، ربنا هيقف معاكي، هيقابلك شوية مشاكل مع عائلتك، على بابك رزق وخير، إنتي طيبة وربنا هيرزقك الطيب". لم ينقذني من حكايات السيدة البدينة، التي ترتدي عباءة سوداء، سوى الطفلة جهاد، التي لا يتعدى عمرها 10 سنوات، والعارية تماماً من ملابسها. جاءت تقول لي: "إيه يا ماما... هتعملي إيه عندنا العروسة سويت كامل 130، وفي حمام ترمس 30 والطمى زيه والمعاملة زي الفل". بشكل تلقائي سألتها عن سبب وجودها في الحمام، فقالت إنها منذ خرجت من المدرسة لعدم رغبتها في استكمال تعليمها، وهي تعمل مع أمها في الحمام.دخول "الملخ"
بعد ذلك جاءت أم رأفت مديرة الحمام، التي تعمل جميع بناتها معها في الحمام، وبعد معرفة المطلوب، اصطحبتهن معها إلى "الملخ"، وهو المكان الذي تظهر فيه زبونات الحمام من دون ملابس. هناك قاعة فسيحة بها عدة آرائك، وعلى جانبها بضع سلالم تنتهي بعدد من الغرف المستطيلة... ثم جاءتني "الناطورة"، الحارسة المسؤولة عن تنظيف الحمام، اسمها أم عصمت، نحيفة وقصيرة، كانت تشرب السجائر وتمصمص شفتيها عندما تصف كرم الزبون المصري حين يأتي للحمام، في إشارة لي لدفع البقشيش، بعدما أخذت ملابسي ومتعلقاتي الشخصية والهاتف. أخبرتني أن الحمام جاهز، وأخذت ملابسي إلى الاستراحة، حيث ناولتني قبقاباً خشبياً لأنتعله، حتى لا أنزلق على بلاط الحمام المبلل. ثم اصطحبتني البلانة، وهي المسؤولة عن تدليك الجسم، ويقال لها الكياسة لأنها ترتدي كيساً في يدها أثناء فرك الجسم، وانتقلنا بعد ذلك إلى باب صغير في نهاية حجرة "الملخ "، دخلنا منه إلى غرفة الدافية، وهي أقل اتساعاً لتستريح فيها المستحمة. ومن الدافية دخلنا إلى قاعة فسيحة هي غرفة التكييس، تتوسطها نافورة رخامية تتدفق منها المياه، ويجلس حولها الزبونات اللواتي هن من كل الطبقات، وينتمين جغرافياً لكل محافظات مصر. فقالت إحدى الزبونات، وهي كبيرة في السن، إنها تأتي كل عام للحمام من أجل الذهاب للمغطس، لأنه يزيل الرطوبة من الجسم ويقضي على آلام العظام.التعرق
سحبتني البلانة، التي ستتولى تدليك جسمي بماسك الترمس والطمى المغربي، لأصعد عدة سلالم وأذهب إلى أهم أجزاء الحمام، المغطس. وهو حوض كبير نسبياً يشبه حمام السباحة في الأندية، لكنه عالٍ، وتجلس الزبونات على حافته، وتتدفق فيه المياة الساخنة. جلست مع العاريات حول المغطس، وفوقنا في السقف ثقوب للتهوئة تشبه النجوم في السماء. كان الضوء يتسلل منها خافتاً، لا تملكون أمامه إلا أن تسلموا أنفسكم لنعاس خاطف. [caption id="attachment_119051" align="alignnone" width="700"] حمام السلطان إينال[/caption] كانت تجلس بجواري فتاة تستعد للزواج وبجوارها أمها، وبجواري سيدة بدينة أخذت تلهو في مياه الحمام، وعندما وجهت نظري إليها، قالت لي إن "أجمل أوقاتها تقضيها في الحمام وزوجها حريص على أن تأتي كل أسبوع للاستحمام لأنه ينعم جسمها، وهو يشعر بذلك أثناء ممارسته للجنس معها". استمر جلوسنا بجوار المغطس قرابة نصف ساعة، ثم انهمر العرق من أجسادنا جميعاً وكنا عشر نساء. العرق كان إيذاناً بتكسير الدهون وخروج الأملاح من أجسادنا، ثم ذهبت كل زبونة لاستكمال ما ترغب فيه. بعضهن جئن لإزالة شعر الجسد، وأخريات جئن لتنقية البشرة والجسد بالبخار في المغطس، وأخريات ينتظرن عمل ماسكات عطرية لأجسادهن.نصائح أحلام مستغانمي للنسيان
هنا تشعرن أنكن في مكان لا تغيب عنه الضحكات، ولا حكايات النسوة المليئة بالحديث عن الرجال في كل الأحوال. هنا الرجال هم مصدر تعاسة تلك النساء، عبر حكايات الخيانة والطلاق وقصص الفراق بعد الحب. وهم أيضاً اليد التي ستقع على هذا الجسد، الذي يخضع حالياً لجلسات محكمة للنظافة والنعومة. خلال وجودي في الحمام سمعت من إحدى العاملات تقول لعروس مقبلة على الزواج: "ما تخافيش مش هسيب فيكي شعرة، إنتي جوزك هيقلبك من فوقك لتحتك، لكن لا تخجلي، الرجالة دلوقتي عايزيين رقاصة، وأنا هخليكي بتلمعي". الحكاية الجنسية أيضاً لا تغيب عن العاملات في الحمام، فأثناء تكييس إحدى الزبونات، قالت الكياسة أم عمرو لأخرى: "استحميتي يا بنت النهارده قبل ما تيجي ولا أحميكي، شربتي الشاي ولا..."، لترد عليها الأخرى قائلة: "أنا شربت شاي بلبن وإنتي الصادقة. الراجل نام مني". منى 27 عاماً، تعمل مهندسة، جاورتني في المغطس، وجهت نظرها إلي وقالت: "إنتي بتجي الحمام كتير؟"، فأجبت بالنفي. لتبدأ في سرد قصتها مع المكان: "أنا ساكنة في كوبري القبة، أي 10 دقائق من هنا بالضبط. أنا آتي دائماً إلى الحمام للاستجمام، أشعر هنا بالراحة وأنسى همومي. اليوم جئت بعد فشل خطبتي. أمس ذهبت لقص شعري، واليوم جئت إلى هنا لغسل جسدي. أنا أجرب نصيحة أحلام مستغانمي للنسيان. ثم قالت الجملة بطلاقة شديدة: "إذا أردت الوصول إلى برّ الأمان، فلا تغادري البرّ أصلاً. لأنّك كلّما ذهبت عمقاً، أعطيت المشاعر فرصةً للفتك بك، وفتحت نوافذ تطلّ على مزيد من الذكرى. تريدين أن تنسي، تمدّدي على الشاطئ بعد أن تحمي بشرتك بكريم واقٍ من الأشعّة فوق البنفسجيّة للحنين".جلسة التدليك
بدأت البلانة في غرفة التكييس تمارس عملها معي، وارتدت في يدها اليمنى كيساً صوفياً خشناً، وأخذت تدلك جسدي لإزالة طبقة الجلد الميت كما قالت لي، وتفتيح الجسم بماسك الترمس والطمى المغربي، وإعطائه رائحة خاصة بالزيوت العطرية. كنت لا أزال مستسلمة ليد البلانة، على طاولة رخامية وهي تدلك جسدي العاري، شردت للحظات شاهدت نفسي خلالها أميرة تجلس وسط الصبايا، من حولنا العطور والموسيقى الهادئة. من حقي أن أصبح أميرة ولو لدقائق معدودة، لكن هذا الحلم تبدد مع صوت بلانة أخرى، كانت تثرثر مع زبونة وتلوي شفتيها، وتحكي لها كيف ورثت المهنة من أمّها. وتسهب في وصف زبوناتها وكرمهن نظراً لكفاءتها وحسن معاملتها إياهن، قائلة لزبونتها: "اللي بتقع تحت إيدي بخرجها عروسة بتلمع". بينما زبونتها كانت ترتشف الأنفاس الأخيرة من سيجارتها وهي جالسة فوق الحوض الرخامي. فى غرفة التكييس، لاحظت وجود أربع فتحات جانبية تؤدي إلى غرف صغيرة مستطيلة الشكل فيها دوش، مخصصة للنساء اللواتي يخجلن من الاستحمام أمام الأخريات. وقتذاك تذكرت الحريق الذي نشب في أحد الحمامات وكانت بداخله سيدات، بعضهن أنقذن أنفسهن بالخروج عاريات، أما من منعهن الحياء من الخروج عاريات فمتن. فكان المثل العامي "اللي اختشو ماتوا". ثم خرجتُ من الحمام لأسمع صوت أم رأفت: "يا خارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة"، "أها" فعلت كما تفعل سيدات القرون الماضية وهن يرددن تلك الأغنيات داخل الحمام.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...