بعد أكثر من قرن على رحيل المؤرخ والأديب اللبناني جرجي زيدان (توفي عام 1914م)، لاتزال أشكال الجدل والنقاش التي قدمها إرثه الفكري والإبداعي حاضرة وفعالة، هذا الإرث الذي شكل إحدى العلامات الفارقة في سعي المثقفين العرب نحو الحداثة.
كتابات زيدان اعتادت منذ صدورها وحتى الأن، على إثارة حالة من حالات الجدل والصخب، لما احتوته من رؤى نقدية جديدة وجريئة تجاه السرديات التراثية الإسلامية، والتي اعتاد الكثيرون على النظر إليها على كونها نصوصاً مقدسة لا يجوز أن يتم المساس بها.
في هذا المقال، نلقي الضوء على مؤلفات جرجي زيدان، مستعرضين أهم الأراء التي تناولتها بالنقد والتجريح من جهة أو بالإشادة والإعجاب من جهة أخرى.
من بيروت إلى القاهرة
في عام 1861م، ولد جرجي زيدان في بيروت لأسرة لبنانية مسيحية، وبدأ حياته العملية في سن مبكرة، ففي الثانية عشرة من عمره، مارس مهنة صناعة الأحذية في أحد الدكاكين القريبة، وبعدها بعامين، ترك تلك الوظيفة، وبدأ بالعمل في مطعم أبيه. في سن العشرين، حاول زيدان أن يحقق حلمه في دراسة الطب، فتقدم لامتحانات القدرات بالكلية واجتازها، ولكنه وبعد سنة واحدة من الدراسة، ترك الكلية ليلتحق بكلية الصيدلة. الظروف المتقلبة التي عاش فيها الشاب العشريني حينذاك، دفعته ليترك لبنان كلها، فسافر إلى مصر في 1883م عازماً على مواصلة دراسته بها، وكان ذلك متزامناً مع بدايات الاحتلال الإنجليزي لها، ويذكر محمد عبد الغني حسن في كتابه جرجي زيدان، أن زيدان لم يكن يمتلك وقتها مصاريف السفر إلى مصر، فلجأ إلى أحد جيرانه الذي أقرضه مبلغ ستة جنيهات، استعان بهم الشاب البيروتي على تكاليف الرحلة والطريق. بعد مرور أيام قلائل من وصوله إلى مصر، تحول مصير زيدان تماماً عما خطط له، فقد تعرف على أحد الأرمن الذي كان يمتلك صحيفة الزمان اليومية، وكانت تلك الصحيفة هي الوحيدة التي نجت من مقصلة الرقابة والمنع التي فرضتها السلطات الإنجليزية على الصحف في مصر. وسرعان ما أُعجب زيدان بمهنة الصحافة، فعمل بها محرراً وكاتباً، ولكن بعد فترة قصيرة انضم للعمل مع الجيش البريطاني في وظيفة مترجم، حيث التحق بالحملة الإنجليزية على السودان، وساعده في ذلك إجادته التامة للغتين الإنجليزية والفرنسية. وعقب رجوعه من السودان، سافر زيدان في رحلة سريعة للبنان وإنجلترا، ثم حط رحاله في مصر واستقر بها، حيث أبتدأ رحلته الفكرية والإبداعية، والتي كانت أولى محطاتها هي إنشاء مطبعة ومجلة الهلال في عام 1892م.جرجي زيدان: أوّل من قدّم رؤى نقدية جديدة وجريئة تجاه السرديات التراثية الإسلامية
كتب زيدان القصص التاريخية الإسلامية، وهو مجال لم يسبقه له أحد في العالم العربي
بعد أكثر من قرن على وفاته، لا تزال كتابات جرجي زيدان حاضرة وإشكالية وهامة
كتبه ورحلته الفكرية
بدأت رحلة جرجي زيدان الفكرية والإبداعية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن التاسع عشر، وذلك عندما قام الكاتب اللبناني بالبدء في تأليف العشرات من الكتب التي تنوعت اختصاصاتها وتعددت مجالاتها، ما بين التاريخ والجغرافية واللغة العربية والاجتماع والأدب الروائي، بجانب عمله في رئاسة تحرير دار الهلال. فمن بين أهم الكتب التي ألفها زيدان في مجال التاريخ، كتاب تاريخ التمدن الإسلامي الذي نشره في 1902م، والعرب قبل الإسلام المنشور في 1908م، وأنساب العرب القدماء المنشور في 1906م؛ أما فيما يخص الجغرافية فله كتاب مختصر جغرافية مصر الذي نشره في 1891م، وبالنسبة للغة العربية فقد نشر كتاب تاريخ اللغة العربية في 1904م، وتاريخ آداب اللغة العربية في 1911م. ومع كل تلك الأعمال والمصنفات، فإن حقل الرواية التاريخية، يبقى هو أهم الميادين الفكرية التي تميز فيها زيدان ونال من خلالها شهرة ومكانة أدبية كبيرة في زمانه، حيث قدم زيدان سلسلة من الأعمال الروائية التاريخية التي سماها باسم روايات تاريخ الإسلام، وهي عبارة عن إثنين وعشرين رواية، حاول من خلالها زيدان أن يتناول تاريخ الإسلام منذ بدء الرسالة وانتشار الإسلام في العهد النبوي، وحتى مراحل ضعف وتردي السلطنة العثمانية، وعزل السلطان عبد الحميد الثاني في بدايات القرن العشرين. حاول الأديب اللبناني في كل رواية أن يرسم خطوطاً درامية تتقاطع أحداثها مع الوقائع التاريخية المُثبتة في المصادر التاريخية الإسلامية القديمة، كما عمل على اختيار لحظات تاريخية معينة لمناقشة الأفكار والرؤى التي أراد طرحها. ففي رواية 17 رمضان، يناقش زيدان مسألة الحرب الأهلية ما بين المسلمين وبعضهم البعض في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وفي رواية غادة كربلاء، يتعرض الأديب اللبناني لأحداث مقتل الحسين بن علي وأهل بيته في واقعة الطف على يد الأمويين، أما في رواية الحجاج بن يوسف، فيحكي عن مأساة ضرب الكعبة بالمنجنيق وتهديمها ومقتل عبد الله بن الزبير ووصول عبد الملك بن مروان لكرسي الخلافة. ولعله من الغريب أن كل تلك الأعمال التي أنجزها زيدان، قد تمت جميعها في مدة تقل عن العشرين عاماً، حيث توفى جرجي زيدان بين كتبه وأوراقه في إحدى ليالي عام 1914م، ويعلق بشارة تقلا، الذي كان من أقرب أصحاب زيدان إلى نفسه، عن التعارض الواضح ما بين كثرة أعمال زيدان وعمره القصير، قائلاً (حقيق لو قاس المؤرخون عمره على آثاره لاعتقدوا أن صاحب الهلال قد بلغ المئة، بينما رحل وهو لم يتجاوز الخمسين).في عيون منتقديه
استحوذت كتابات زيدان على اهتمام عدد كبير من معاصريه ولاحقيه، ونظر بعض هؤلاء لكتاباته، نظرة تملؤها الظنون وتحيط بها الشكوك من كل جهة، فقاموا بمهاجمة الكاتب اللبناني المتمصر ووجهوا له سهام النقد والاعتراض. وقد قام عدد من معارضي زيدان، ممن يُحسبون على الخط التراثي، بتصنيف بعض الكتب للرد عليه، ومن أشهرهم الشيخ شبلي النعماني الهندي، الذي ألف كتاب يُعرف بالانتقاد على كتاب التمدن الإسلامي، وقام فيه بالرد على ما وصفها بالمزاعم التي أوردها زيدان في كتابه عن التمدن الإسلامي. وقد حدد النعماني، أربعة مآخذ رئيسة على كتاب التمدن، ألا وهي تحقير الأمة العربية، التحامل على بني أمية، الاستشهاد بمصادر غير موثقة، واعتماده الكبير على الإسرائيليات. ورغم انتقاد النعماني الحاد لزيدان، إلا أنه يُظهر توقيره واحترامه طوال الكتاب، حيث يصفه بالسيد الفاضل. ومن الكتب التي انتقدت زيدان أيضاً، كتاب جرجي زيدان في الميزان للكاتب الفلسطيني الإسلامي شوقي أبو خليل. حيث حاول أبو خليل في هذا الكتاب أن يربط ما بين علاقة زيدان الممتازة بالمستشرقين الأوروبيين من أمثال نولدكه وفلهاوزن ومارجليوث وجولدتسيهر من جهة وميله إلى الطعن في التاريخ الإسلامي من جهة أخرى، واستشهد على ذلك بمشاركة زيدان في حملة الإنجليز على السودان، وما قيل عن انضمامه للحركة الماسونية العالمية وقتها. وقام الكاتب الفلسطيني، بتقديم دراسة تحليلية لجميع روايات زيدان التاريخية، حيث أظهر ما ورد فيها من أخطاء ومغالطات، اعتبرها متعمدة، ونوّه إلى أن ديانة زيدان المسيحية قد دفعته دفعاً للحط من شأن الانجازات والفتوحات الإسلامية، وتبريرها بأسباب ومبررات عاطفية بعيدة عن الموضوعية، واختيار اللحظات التاريخية الحرجة التي مرت بها الأمة الإسلامية لتقديمها إلى الواجهة والتركيز عليها. ويلخص أبو خليل ما توصل إليه، في قوله (لقد كتب جرجي ما اعتقده، بعيداً كل البعد عن البحث المنهجي في دراسة التاريخ، أو ما يُسمى مصطلح التاريخ، واعتمد على ما كان ذائعاً على ألسنة عامة الوراقين، أو الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها من غير تمحيص أو تحقيق). المعارضة التي لاقاها الأديب اللبناني، لم تنحصر في صفوف الإسلاميين فحسب، بل امتدت كذلك لتشمل عدد من الأدباء والشعراء المعروفين، فعلى سبيل المثال، في كتابه في الأدب الحديث، ينتقد الأديب عمر الدسوقي، أسلوب زيدان الروائي بقوله (رواياته كلها مكتوبة بأسلوب صحفي، خالية من التحليل النفسي، والنظريات الفلسفية، وما هي إلا تاريخ في قالب قصة لم تكمل شروطها الفنية، وتاريخ لم يُحافظ فيه على الحقائق).ماذا قال مؤيدي زيدان؟
إذا كانت هناك العديد من الأقلام التي كتب أصحابها ضد زيدان، وشككوا في صدق نواياه وتوجهاته، فإن الكاتب اللبناني لم يعدم أن يجد إشادة وحفاوة من جانب عدد من أعلام معاصريه والكثير من المفكرين المصريين الذين ساهموا فيما بعد في عصر النهضة والتنوير. فالكثير من مؤيديه دفعوا عنه تهمة اتباع المستشرقين والاستعمار الأوروبي، مستشهدين بتسميته لدار النشر خاصته، بالهلال، تيمناً بالهلال العثماني، حيث كان اختيار هذا الاسم تحديداً مبيناً لهوى زيدان العثماني وميله للثقافة الإسلامية وانتسابه إليها. فعلى سبيل المثال، يشهد له المنفلوطي في كتابه النظرات، فقال عنه (وكان شريف النفس، بعيد الهمة، متجملاً بصفات المؤرخ الحقيقي الذي لا يتشيع ولا يتحيز، ولا يداهن ولا يجامل، ولا يترك لعقيدته الدينية مجالاً للعبث بجوهر التاريخ وحقائقه، فكتب وهو المسيحي الأرثوذكسي تاريخ الإسلام في كتبه ورواياته كتابة العالم المحقق الذي لا يكتم الحسنة إذا رآها، ولا يشمت بالسيئة إذا عثر بها...). أما مصطفى صادق الرافعي فقد مدحه كثيراً في كتابه وحي القلم، فنجده يصفه بـالمؤرخ الكبير في بعض الأحيان، وبالعلامة المؤرخ في أحيان أخرى. وقد كتب عنه تلميذه سلامة موسى كثيراً في كتبه، وبرر الحملة المثارة ضده، بسبب أنه عالج موضوعات لم يعالجها أحد من قبله، ويقول موسى في كتابه تربية سلامة موسى أن جرجي زيدان قد صارحه ذات مرة بخشيته من ردود الأفعال على مشروعه الرامي لتقديم التاريخ الإسلامي في قوالب روائية نقدية. وأما فيما يخص رواياته التاريخية وما وجه لها من انتقادات، فقد نتعجب إذا عرفنا أن عميد الأدب العربي طه حسين، قد أشاد بها كثيراً، وأنه قد وصف زيدان بقوله (هو الذي نقل إلى الأدب العربي مذهباً من مذاهب الأدب الأوروبي وهو القصص التاريخية). وقد حاول المؤرخ المصري عاصم الدسوقي، أن يبرر الهجوم الذي طال زيدان، بكونه مؤلفاً موسوعياً، وأنه كان من الطبيعي أن تتقاطع أعمال الروائية مع أعماله التاريخية، فقد كانت (الإشكالية تكمن في رواياته التاريخية، حيث بدأ يتقمص دور الأديب، وكتب قصة تاريخية فيها إسقاطات سياسية وواقعية ولكن بلغة رمزية).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...