على مقهى شعبي في حي الهرم بالجيزة، جلس "حيدر الربيعي"، عراقي الجنسية، البالغ من العمر 46 سنة، والمقيم بالقاهرة منذ سقوط نظام صدام حسين، مع صديق عمره "قاسم الدليمي" الوافد لتوّه إلى مصر. أخذ الصديقان يتبادلان الحديث عن الشؤون الخاصة والتي تطورت إلى الحديث عن الشأن العام والعالم العربي وما يجري فيه، إلى أن قال حيدر: "شنو رايك نروح نحضر مولد سيدنا الحسين هنا بمصر؟"
أجابه قاسم مستهجناً الفكرة "لا لا، يمعود شلي بوجع الراس، لطم وبجي، ما أريد".
لكن حيدر دافع عن فكرته قائلاً "لا يمعود، انت عبالك هنا بمصر لطميات؟ لا هنا مسوينه دك ورقص للصبح. ونسه وأكل وشرب للصبح. عبالك "ملهى" مو لطم وبواجي؟
ما قاله حيدر يلخص الوضع بدقة ويعكس الاختلاف الثقافي بين مصر وسائر الدول العربية في التعامل مع المشهد الديني والقضية الشائكة: السنة والشيعة وآل البيت. يعتقد المصريون بصحة الرواية التي تتحدث عن رأس "الحسين"، وفي كل عام في مثل هذا التوقيت، يحتفل المصريون بذكرى مولد الحسين وليس وفاته، كما جرت العادة في سائر البلدان الشيعية.
الوافد إلى الاحتفال أو "المولد" كما يطلق عليه المصريون، سوف تلفت نظره مظاهر البهجة والاحتفاء التي أصبحت ملازمة للمولد. فالغناء (الإنشاد الديني) والرقص والأكل والشرب والحلويات هي الغالبة على المشهد. إنها طقوس تعود لعهد الدولة الفاطمية (969 -1171م)، وقد لعب الفاطميون دوراً مهماً في تشكيل المزاج الشعبي الديني حتى الآن في مصر؛ فحينما دخلوها وبدأوا في التفكير في نشر المذهب الشيعي فيها، وجدوا أن لأهل المحروسة ارتباطاً شديداً بالثقافة الفرعونية والقبطية، وأن المزاج الشعبي يربط بين الاحتفال من جهة، والأكل والشرب والرقص والغناء من جهة مقابلة.
تجلى ذلك للفاطميين في كيفية إحياء المصريين للعيد الأهم بالنسبة لهم، وهو عيد شم النسيم (بداية الربيع) وما فيه من مظاهر البهجة، وعلى ذلك قرر الفاطميون أن أفضل وسيلة لنشر المذهب الشيعي في مصر هي مزجه بالثقافة المصرية، وجعله امتداداً طبيعياً لطقوس أهلها.
كثير من ملامح احتفالات اليوم تعود إلى العهد الفاطمي الذي بدوره استقاها من التراث المصري الفرعوني - القبطي القديم. فالفول النابت واللحم اللذان يكثر توزيعهما في رحاب المسجد هما من آثار الدولة الفاطمية حيث العطايا تُجلب للفقراء، وتحببهم في الوافد الجديد، والشموع التي يشعلها المصريون للضريح هي محاكاة لشموع الكنائس التي اعتادوا عليها من قبل.
حتى بعد سقوط الدولة الفاطمية، وسيطرة صلاح الديني الأيوبي على مقاليد الأمور، ما قضى تماماً على المذهب الشيعي في مصر، وأعادها دولة "سنية"، فإن ذاك الأخير أدرك أن ارتباط المصريين بآل البيت أقوى من أن يواجَه، وعليه لم يمنع تلك الاحتفالات، ولم يحاول حتى التعرض لها.
ظل المذهب الشيعي مقبولاً في مصر، سواء بالإعلان أو التعاطف، بل كانت الدولة ترسل إلى تلك الموالد كل سنة مندوباً رسمياً لها للحضور والمشاركة، حتى أن الملك فاروق ووالده فؤاد عُرف عنهما حبهما لأولياء الله وكونهم من مريدي آل البيت. استمر الحال على ما هو عليه إلى أن قامت الثورة الإسلامية في إيران، وهنا تبدلت الأحوال، وبدأ العداء المعلن تجاه المذهب الشيعي.
لكن احتفال المصريين بمولد الحسين يتجاوز المراسم ليتحول إلى سوق كبير، فالاحتفالات التي تستمر ثلاث ليالٍ تروج فيها تجارة العطور والسّبح والبخور، فضلاً عن أنها أصبحت فرصة لظهور مواهب جديدة في تأدية الإنشاد الديني وغناء التواشيح. فرق الرقص الشعبي أيضاً، وجدت لها مكاناً في هذا الجمع الكبير، فمن يمكنه أن يترك فرصة كهذه دون الاستفادة منها.
المتأمل في هذا المولد، وغيره من موالد آل البيت في مصر، قد يتساءل: أيّ شعب هو هذا؟ شعب يعلن أنه سنيّ المذهب - وكثيرون من أتباع هذا المذهب يعتبرون الشيعة كفرة، لكنه في الوقت نفسه - يحتفي بآل البيت ويقدم النذور أمام قبورهم ويتبرك بأضرحتهم، ويحولها لمزارات شعبية يقصدها الملهوف والمحتاج، يشعل الشموع فيها، ما يجعل من ذكرى المولد يوم عيدٍ واحتفالٍ يتوافد الألوف إليه. في مصر، يمكن القول أننا أمام شعب “سنيّ المذهب شيعيّ الهوى”.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع