عام 2013، غادر الشاب الليبي مهدي الحارثي مدينة غدامس الليبية متجهاً إلى مصر، متوقعاً الإقامة في البلد الجار بضعة أشهر فقط، قبل عودته حين تستقر الأوضاع إلى وطنه حيث عمله وأسرته. لكن توقعه خاب.
لم تتحسن الأوضاع ولم تستقر. وعندما علم أن بلاده بصدد وضع دستور جديد استبشر خيراً، لكن بعد الاطلاع على مشروع الدستور هبطت همته وتراجع تفاؤله بخصوص مستقبل ليبيا السياسي.
يتحدث مهدي العربية لكنه يرفض أن تكون لغة الدولة الرسمية. ويقول لرصيف22: "لغتي التي أعتز بها هي الأمازيغية. لست عربياً، والدستور الذي كنت أريد منه أن يمنحني الحقوق لم يضمن لي ذلك".
ولادة متعثرة
في فبراير من عام 2014 جرت في ليبيا انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور واختير 60 عضواً، 20 ممثلاً عن إقليم برقة، و20 عن إقليم فزان، و20 عن إقليم طرابلس. وشهدت الأعوام الثلاثة الماضية شداً وجذباً بين الليبيين وأعضاء الهيئة حول المواد التي ستتضمنها المسودة النهائية للدستور، إلى أن جرى الاتفاق عليها في 29 يوليو الماضي بموافقة 43 عضواً من أصل 44 عضواً حضروا جلسة التصويت. الآن، ينتظر الليبيون تحديد موعد للاستفتاء على الدستور، ولكن ليس واضحاً إن كان هذا الأمر سيتم في هذا البلد المنقسم بين حكومتين وبرلمانين. تلقى المسودة اعتراضاً من عدد من الفئات العرقية، إذ يرى المنتمون إلى هذه الفئات أن أول دستور لليبيا بعد ثورة 17 فبراير 2011 لا يلبي طموحاتهم، هم الذين حُرموا مع كامل الشعب الليبي من دستور بالمعنى المعروف طوال مدة حكم معمر القذافي التي استمرت نحو 40 عاماً، إذ كان "الكتاب الأخضر" يحكم البلاد بمجموعة من المبادىء والبنود الغريبة التي لا ترقى إلى أن تعد دستوراً. أبرز الفئات المعترضة على مسودة الدستور الأمازيغ، وهم قبائل تسكن في الغالب المنطقة الشمالية الغربية (منطقة جبل نفوسة) منذ آلاف السنين ويرون أن لهم حقوقاً ثقافية وتاريخية في البلاد، وكذلك الطوارق، وهم قبائل إفريقية اختلطت بالعرب وتقيم في المنطقة الجنوبية الغربية، بالإضافة إلى قبائل التبو (أصحاب البشرة السمراء) التي تتمركز في الجنوب الشرقي من قبل أن تطأ أقدام العرب ليبيا. ولهذه الفئات مطالب من الدستور لم تحقق منها عدم النص على عربية الدولة بل التأكيد على أنها دولة مدنية بجانب اعتبار لغاتهم المحلية لغات رسمية جنباً إلى جنب العربية، يدرسها أبناؤهم في المدارس وتجرى بها المعاملات الحكومية، وتذاع نشرات الأخبار على قنوات التلفزة بها. حدد مشروع الدستور شكل النظام الليبي على أنه "جمهورية" وتنص المادة الثانية منه على أن ليبيا "جزء من الوطن العربي وإفريقيا والعالم الإسلامي ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط".الهوية العربية مرفوضة
تنص المادة الثانية من الدستور على أن "تعدّد اللغات التي يتحدث بها الليبيون، أو جزء منهم ومن بينها العربية، والأمازيغية والتارقية، والتباوية، تراثاً ثقافياً ولغوياً، ورصيداً مشتركاً لكل الليبيين، وتضمن الدولة اتخاذ كل التدابير اللازمة لحمايتها وضمان المحافظة على أصالتها وتنمية تعليمها واستخدامها". ولكن المادة نفسها تضيف أن "اللغة العربية لغة الدولة" وأن القانون ينظم "في أول دورة انتخابية تفاصيل إدماج اللغات الليبية الأخرى في مجالات الحياة العامة على المستوى المحلي ومستوى الدولة". وكان الأمازيغ قد قرروا في فبراير الماضي اعتبار الأمازيغية لغة رسمية لهم. وفور الموافقة على مسودة الدستور من قبل الهيئة التأسيسية أعلن المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا رفض المسودة، منبهاً في بيان إلى أن أعضاءه لم يشاركوا في صياغة "مشروع الدستور". وذكر بيان المجلس الأعلى للأمازيع أنه "لن يعترف بالدستور المقبل، لأنه دستور لا يعترف بنا"، موضحاً: "كل ما نطلبه هو أن تكون لغتنا رسمية بجانب العربية وأن توجد مادة تنص على ذلك"، ومتوعداً بإصدار "دستور خاص". وتأكيداً على موقف قبائل "التبو" الرافض للمسودة، قاطع خالد وهلي والسنوسي حامد، ممثلا هذه القبائل في الهيئة التأسيسية، جلسة التصويت على المسودة النهائية. وقالا إنها "تخالف مبدأ التوافق مع التبو". وفي بيان لهما بعد ساعات من جلسة التصويت اعتبرا أن الهيئة التأسيسية "يستحوذ عليها المكوّن العربي الذي هيمن على تنظيم أعمالها وآلية إصدار قراراتها دون أي اعتبار لقرار القوميات الأخرى". وضمن جهود رفض المسودة، خرج عشرات المتظاهرين الأمازيغ في مدينة جادو ذات الأغلبية الأمازيغية والواقعة شمال غرب البلاد محتجين على المسودة، ومعتبرين أنها لا تمثل ليبيا بكل ثقافاتها ولا تؤكد على حقوق المواطنة ولم تصل إلى مستوى الدساتير الإنسانية المعمول بها في العالم.يرفض الأمازيغ والتبو والطوارق والأباضيون مشروع مسودة الدستور الليبي ويعتبرونها غير ضامنة لحقوقهم
مشروع الدستور الليبي يمنع غير المسلمين من الترشح لرئاسة الجمهورية والبرلمان ومن تولي منصب وزير
دولة دينية
يعتبر الشاب الحارثي، وهو في الثانية والثلاثين من عمره أن ما أقرته االهيئة التأسيسية "ليس دستوراً وإنما عبث"، وأن مواد مسودتها "تجحف حق الأقليات وخصوصاً الأمازيع والطوارق والتبو". ويصف هذه المواد بـ"الإقصائية، والمكتوبة بعقلية قومية وليس عقلية مَن يدافع عن المواطنة أو الدولة المدنية". ويتهم مَن كتبوا المسودة بأنهم رافضون للاعتراف بالتنوع العرقي "ولا يحترمون المرأة ولا اليهود ولا غير المسلمين". وهذه الاتهامات لا تأتي من فراغ، إذ تنص المادة السادسة من مشروع الدستور على أن "الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر التشريع". يقول سفيان امحمدين من بلدة زوارة وهو مسلم على المذهب الأباضي: " كنت أفضلها دولة مدينة. لا يحمينا مشروع الدستور من الفتاوى التي تكفرنا... كان واجباً النص الصراحة على حرية الاعتقاد واعتناق المذاهب والأفكار. أما الموجود حالياً من نصوص فيتيح للمتشددين أن يفعلوا ما يشاءون". ويذكّر امحمدين بالفتوى الصادرة من اللجنة العليا للإفتاء التابعة للحكومة المؤقتة في نهاية يوليو الماضي والتي تقول إن لا تجوز الصلاة خلف الأباضيين لأن "عقائدهم كفرية"، معتبراً أن عدم انتباه أعضاء الهيئة التأسيسية لمثل هذه الفتاوى يسمح بتكرارها "خصوصاً أن المسودة خرجت في نفس الشهر الذي راجت فيه هذه الفتوى التكفيرية والتي لا تختلف كثيراً عما يعتقد به الإرهابيون". ويسود في ليبيا بين المسلمين المذهب المالكي إلا أن بعض المسلمين يؤمنون بالمذهب الأباضي خصوصاً في عدد من المناطق كجبل نفوسة وزوارة.وكأن الثورة لم تقم
"مشروع الدستور يؤسس لدولة دينية إسلامية". هذا ما تراه فاطمة غندور، الباحثة في الشؤون السياسية والاجتماعية، موضحة في لرصيف22 أن "مواد المسودة تظهر تشكيكاً في هوية الشعب وشخصيته، خصوصاً أن الأغلبية في ليبيا مسلمة على المذهب المالكي، وبالتالي لم يكن هناك داعٍ للنص على أن يكون من شروط الترشح لرئاسة الجمهورية أو البرلمان أن يكون المرشح مسلماً". وتنص المادة 99 على أنه يشترط في المترشح لرئاسة الجمهورية "أن يكون ليبياً مسلماً لوالدين ليبيين مسلمين".وترى غندور أن مواد فرض الزكاة على الليبين أو إنشاء مجلس لـ"البحوث الشرعية" تعد انتهاكاً لمدنية الدولة التي أرادها الليبيون أثناء قيامهم بالثورة في 2011. "لم نقم بثورة للإطاحة بالقذافي من أجل تحكيم دولة دينية فينا. هذه المواد يجب أن تعدل"، تقول. وتنص المادة 25 من المسودة، وعنوانها "الزكاة"، على أن "الدولة تشرف على تحصيل الزكاة وإنفاقها في مصارفها الشرعية، ولا يجوز خلطها بالإيرادات العامة". أما المادة 161 فتنص على تشكيل "مجلس البحوث الشرعية" ومن مهماته أن يتولى "إبداء الرأي في ما يحال عليه من سلطات الدولة من أجل بحثه وتكوين الرأي فيه استناداً إلى الأدلة الشرعية"، وكذلك "إصدار الفتاوى في شؤون العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية مع مراعاة الموروث الفقهي السائد في البلاد". ولا يتيح مشروع الدستور تكافؤ الفرص، وفق الباحثة الليبية التي تقول: "كانت هناك حدة في صياغته وتعقيد وتشدد. هناك مواد تخلق تجاذبات مع أقليات التبو والطوارق والأمازيغ. هذا ليس ما يريده الليبيون من دستورهم". وتشير إلى أن الدستور يعيد إنتاج بعض تصرفات القذافي "الذي طالما لعب بورقة الدين حسب المتغيرات الإقليمية والدولية، فمرة كان يعطي نفسه لقب إمام المسلمين ويعظم من شأن الجمعيات الدينية ومرة يلغي كل ذلك، حسب مصالحه". وتدعو غندور إلى حراك مدني وتوعية للشعب بالمواد التي قد تشكل خطراً على مستقبل الدولة المدنية، مشددة على ضرورة تعديل المواد 69 التي تنص على أنه "يشترط في المترشح لعضوية مجلس النواب أن يكون ليبياً مسلماً"، و99 التي تتحدث عن دين رئيس الجمهورية و113 التي تنص على أنه "يشترط فيمن يعيَّن رئيساً للوزراء أو وزيراً أن يكون ليبياً مسلماً"، لأن هذا يعني حرمان غير المسلمين من هذه المناصب."لم نقم بثورة للإطاحة بالقذافي من أجل تحكيم دولة دينية فينا" عن مسودة الدستور الليبي الجديد
وضع المرأة
ورغم أن مواد الدستور المرتقب تكفل للمرأة الكثير من الحقوق إلا أنها تشترط لتطبيق هذه الحقوق أن تتوافق مع الشريعة الإسلامية. وفي مسودة الدستور مواد مبهمة مثل المادة 27 التي تنص على أن "الأسرة القائمة على الزواج الشرعي بين رجل وامرأة أساس المجتمع، وقوامها الدين والأخلاق". ولكن عبد الهادي الحمرا، عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، يبرّر الشكل النهائي للمسودة بقوله "إن الهيئة ضمت مختلف الاتجاهات السياسية في البلاد وتواصلت معها في الداخل والخارج وكانت لها النية في أن تكتب دستور يجمع الليبيين على كلمة سواء، ونعتقد أننا نجحنا رغم حالة الصراع والتشرذم التي يعاني منها المجتمع الليبي". ويقول الهادي بكوش، رئيس المنتجين الفنيين الليبين لرصيف22 إن من يرفضون المسودة "بعض الجهويين والمدافعين عن حقوق قبلية، وهؤلاء لا يعلمون أن ليبيا كلها مسلمة"، معتبراً أن المسودة تؤسس لـ"دولة ديمقراطية"، وأن المعترضين "يهددون استقرار البلد". ويضيف: "المواد مقبولة بشكل كبير. ونرفض مطالب المعترضين. وإن كانت هناك نصوص في المسودة إسلامية الطابع فهي لن تؤثر كثيراً. فالزكاة مثلاً موجودة ويدفعها القادر عليها".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...