أثناء إحياء الذكرى السنوية الأولى لوفاة الكاتب الساخر محمود السعدني، كان الفنان عادل إمام يؤدي واجب العزاء. فجلس بجوار صديقه الفنان صلاح السعدني، شقيق الفقيد. وبينما الشيخ يقرأ القرآن في العزاء، همس عادل في أذن رسام الكاريكاتير، سعيد الفرماوي، الجالس بجواره قائلًا: "هو ينفع أقول للشيخ: الله يفتح عليك، ولّا فيها ازدراء أديان؟"، فرد الفرماوي: "وإيه المشكلة؟". فقال إمام: "أخاف يفتح عليه يكون في الحمام ولا حاجة".
هنا انفجر الفرماوي ضاحكاً، وحبس عادل الضحك، لكن احمرار وجهه ووضع يده عليه فضحاه، ليلاحظ الأمر صلاح السعدني ويضحك هو الآخر، ثم ينهر صديقيه في دعابة، لكون الفقيد شقيقه، ولا يصح أن يضحكا في مثل هذه المناسبة.
الحكاية حكاها لنا الفنان سعيد الفرماوي، وهي ليست غريبة، فالضحك في المواقف الجادة قد يداهم الكثيرين منا.
حكى الكاتب بلال فضل أن الفنان الراحل سعيد صالح، كان دائماً ينتابه الضحك في المآتم، خصوصاً حين يشاهد من يبالغون في الحزن على الميت.
&feature=youtu.be&t=609
وذكر بلال أن لسعيد موقفاً شهيراً في عزاء والد الفنان عادل إمام، حين أطال المقرئ في قراءة القرآن، دون أن يتوقف بشكل مؤقت ليعطي فرصة انصراف للحاضرين، ليستطيع غيرهم الدخول إلى سرادق العزاء.
ذهب سعيد إلى الشيخ أكثر من مرة طالباً منه التوقف، قائلاً له بطريقته المسرحية الكوميدية: "قول صدق الله العظيم"، والرجل لا يكترث له حتى لاحظ الحضور الأمر، وانقلبوا بين ضاحك وبين من يحاول كتم ضحكه، خصوصاً حين حاول سعيد انتزاع الميكروفون من أمام الشيخ ليجبره على التوقف، وأمسكه بعض الحضور لمنعه من ذلك.
السينما جسدت مثل هذا الشعور في مشهد من فيلم الكيف، للفنان يحيى الفخراني، حين خلع ملابسه أثناء أدائه واجب العزاء، وانتابته موجة ضحك، جعلت كل الحضور يضحكون.
في المآتم والمستشفيات والوعظات
تحكي منال أحمد، 27 سنة، طبيبة أسنان، أنها شعرت بحرج بالغ يوم وفاة والدتها، إذ انتابتها ليلًا، وبعد انصراف غالبية المعزين، نوبة من الضحك بسبب شكل أختها وهي تبكي. تقول: "فجأة وجدت عينيّ لا تركزان إلا على الجزء السفلي من وجهها، من أسفل الفم إلى الرقبة، ووجدت تشنجات غريبة. بدت أختي وكأنها مونولوجست يتهكم على الفنان يوسف وهبي، وحينها لم أتمالك نفسي من الضحك، فدخلت الحمام كي أضحك ثم عدت لأجد نفسي أعاود الضحك، حتى دخلت غرفتي خوفاً من أن يراني أحد". أحمد زايد، 34 سنة، موظف بشركة بترول، يحكي عن زيارته لشخص قريب له بالمستشفى، في منزلة عمه، وكانت هنالك كلمة تلازمه دائماً في حديثه، مثيرة للسخرية. بينما أحمد يجلس بجوار عمه المستلقي على سرير المرض، إذا بالرجل يردد الكلمة نفسها، وفوجئ الحضور به يطأطئ رأسه أسفل السرير أكثر من مرة، حتى أنهم اعتقدوا أن شيئاً غريباً يحصل، لكن الحقيقة كانت أن أحمد لم يستطع تمالك نفسه من الضحك، بسبب كلمة عمه. يقول أحمد إن المسألة تجاوزت معه حدود عمه وكلمته، واكتشف أن الضحك يداهمه دائماً لدى زيارته للمرضى، ولا يدري حتى الآن سر هذا الأمر المحرج. أما رنا كريم، 19 سنة، طالبة، فلا تتمالك نفسها، حين ترى والدها العصبي جداً يصرخ في وجهها، خصوصاً لو كانت بيده سيجارة. تقول رنا: "مرةً، عدت إلى المنزل في ساعة متأخرة، وكان هاتفي مغلقاً، فلم أتمالك نفسي وضحكت أثناء صراخه في وجهي، رغم أنني أدرك في قرارة نفسي أنني مخطئة، ورغم أنني كنت متخيلة ما سيفعله، فتسبب ذلك في صفعة شديدة على وجهي. ولا أدري ما السبب في هذا الضحك إلى الآن". لماذا يكون الضحك أكثر وقعاً وإلحاحاً على النفس في المواقف الجادة، التي لا يصح أن نضحك خلالها، كالمآتم والاجتماعات الرسمية أو في حضور شخص نحترمه لدرجة كبيرة؟ لماذا لا نستطيع كتم أنفاس ضحكاتنا في هذا التوقيت، مهما حاولنا أو بذلنا من جهد؟قد يكون ذلك مرضاً؟
أحيانا تكون الحالة مرضية، وتمثل حالة من الصرع تسمى "gelastic seizure"، لا يستطيع المرء خلالها السيطرة على نوبات الضحك، بحسب تقرير لشبكة nbc news، التي أشارت إلى أن المسألة ربما تأتي أيضاً نتيجة خلل في الاتصال بين أجزاء في المخ، كأن يصاب الإنسان بجلطة، ما يجعل التحكم في نوبات الضحك أمراً صعباً. يقول أستاذ الطب النفسي، جمال فرويز لـ"رصيف22" إن البعض قد يدخل في نوبات ضحك عنيفة وهستيرية، لأن عقله لا يسيطر على سلوكه، وقد تكون تلك النوبات بديلة من حالة تشنج قد يصاب بها. أيضاً، قد يكون الضحك في أوقات غير مناسبة من أعراض مرض التوحد، خصوصاً لدى الأطفال، بحسب ما ذكرت الباحثة المصرية فاطمة العراقي في كتابها "ماذا تعرف عن الطفل المتوحد؟".لست مريضاً لكنني أقاوم
معظمنا لا يضحك في أوقات غير مناسبة لأنه مريض، بل يضحك لأسباب سيكولوجية طبيعية، منها، مقاومة الألم والضغوط النفسية المحيطة به، ولا يحدث ذلك بمحض إرادته ولكن لأن هناك مادة يفرزها المخ في أوقات الحزن أو الألم تسمى "endorphin"، تزيد من قدرتنا على احتمال الألم، وتساعد على تحسين حالتنا النفسية. ولهذه المادة علاقة وطيدة بالضحك؛ فحين يفرزها المخ في أوقات الألم تكون احتمالية الضحك عالية لدينا، بحسب ما نشرت bbc عن دراسة لصوفيا سكوت، المتخصصة في طب الأعصاب في جامعة لندن. وقد أكد على ذلك الدكتور جمال فرويز، الذي يشير إلى أن الضحك وسيلة دفاع فطرية عن النفس المحاطة بالآلام، من داخلها أو خارجها، مشيراً إلى أنه عملية عقلية، تتداخل فيها العواطف، مع السلوك، مع التفكير، ولسنا بالضرورة نضحك لأننا سعداء، فقد نضحك بشكل تلقائي لأن أنفسنا تأبى أن تعترف بالفشل أو بالضيق أو الرتابة التي تحاصرنا، وتريد أن تعلو فوق الحالة التي نحن عليها. كذلك حاجة الإنسان إلى الشيء الذي لا نستطيع فعله، وكما يقولون دائماً "الممنوع مرغوب"، وهذا المعنى له ما يسانده في كتاب "Wit and its relation to the unconscious"، لرائد التحليل النفسي سيغموند فرويد، الذي يرى أن الضحك أحياناً يكون بمثابة مقاومة لرقابة المجتمع الذي يفرض ضوابط على سلوك الإنسان، في كل ظرف يعيشه. ففي بعض الأحيان، يحتم الظرف الذي يعيشه الإنسان أن يبدو جاداً أو حزيناً، ما يولد طاقةً سلبيةً داخله، فتقف هذه الطاقة متأهبة تنتظر ضحكة لتلقي بها إلى هذا المحيط، الذي تسبب في صنع هذه الطاقة السلبية. فالضحك عند فرويد بمثابة تنفيس للطاقة التي عبأتها النفس بشكل خاطئ أو بتوقعات كاذبة. الشعور بالحرج أيضاً قد يجعلنا نضحك، فالحرج يسبب ارتباكاً، ينتج عنه اضطراب بالحجرات العصبية للمخ، فينعكس ذلك على تعبيراتنا، التي قد تتحول إلى ضحك، بحسب جمال فرويز.العدوى
للضحك عدوى تدفعنا لممارسته حتى ولو في ظروف غير مناسبة كالتي ذكرناها، لمجرد أننا شاهدنا شخصاً يضحك، بحسب الدكتور عبدالناصر عمر، أستاذ الطب النفسي، الذي يوضح أنه في بعض الأحيان يكون الشخص مضغوطاً نفسياً، ويتمنى أن يغير هذا الواقع أو يتركه، حتى لو لم يصارح نفسه بذلك، لكنه شعور مكبوت في عقله الباطن، وينتظر أي مبرر يستغله للخروج من حالته، وبمجرد أن يرى شخصاً يضحك، يستقبل العدوى منه كالإنفلوانزا، فيضحك بشكل لا شعوري، ويبدأ بالتخلص من الطاقة السلبية التي بداخله، من خلال حركات انقباض وانبساط عضلات وأعصاب الجسم، المصاحبة للضحك، خصوصاً الوجه. والجسم في هذه الحالة يمارس رياضة تشبه التنفس، يستنشق من خلالها الطاقة الإيجابية ويزفر الطاقة السلبية. الضحك في هذه الأوقات غير المناسبة ضرورة صحية للتخلص من الأحاسيس المحبطة، حتى لو بدا ذلك أمراً مستنكراً من المجتمع، فالحياة دائماً ليست بالجدية التي يظنها الناس، ولا تستدعي كل هذا الكم من التوتر والانفعال.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...