شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
نحنُ لا نشبهُ أعمارنا...

نحنُ لا نشبهُ أعمارنا...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 19 يوليو 201701:08 م
في الرحيل الأخير لم نأخذ معنا شيئاً، وهرباً من كثافة الواقع كنا نردد في قرارة أنفسنا على نحو دائم سنعود بعد حين. وكل هذا الخراب مؤقت، ستكون الذاكرة كفيلة بردم تلك الحفر التي تخلفها الواقعية، الآن حتماً لقد تدربنا سنوات طويلة على هذا، تدربنا على التخيل، فلا بأس بجثة تقاسمنا الذاكرة وتخفف عنا عبء هذا الرحيل. الحزن ليس اعتياداً بل تجاعيد عميقة في وجه السماء والبؤس يقطن البلاد. شريط الأخبار معقود بفيونكة سوداء، وجه المذيعة يتشظى إلى استنكار لغوي، نبرة الصوت تعلو حد السكين وتنحني لتقبل غفوة الأطفال، أخبار تملأ المكان، خبر عن العراق وآخر عن سوريا يشطران الشاشة فتعشعش الرهبة في زوايا النظر، أحضن فيروز: وحدن بيبقوا متل هل الغيم العتيق... الحروب تبصق الجثث، النمل يحتفظ بغنيمته، التراب يستر العيوب. أحفر بمنجلها صدري أترقب تفجيراً يهلهل له في المذياع، تتوارى النساء والعجائز والأولاد في الجدران، الحقد يغتصب الشارع وأنا كدمية مهترئة في خيوط الشيطان. هل تعلمون ما هو الحذر؟ ما دسته أمي في صرة جنوني لتمنعني عن الهذيان. لا تحبي رجلاً في الحرب، ستعلق مشنقته في كبدك، اتهكم من عقلانيتها وامتطي ريحاً حبلى برائحة أنثوية تنجبه على أغصان الزيزفون. نعم الزيزفون! كم اشتهيت أن تسترني الأشجار. الآن, جارتي في الطابق الموازي لاستهزائي تزيل هراء الزمن من حاجبها وتدهن قدميها بشيء من النعومة. تقول: موسيقى موزارت ''قداس الموت'' تحقن استدارة الخصور، تمنح شهوة يديها للرماد، تشيع جسدها في دكان الحارة، جارنا في الضفة المقابلة لانتظاري يدعو لانقطاع أسلاك الضوء، تأتي أمه مولدةً الكهرباء تجرف العتمة من البيت وتزف لإبنها اشتراكاً دائماً.
الآن وبعد كل ذلك الرحيل وذلك الخيال لم تعد هناك مقبرة أشد واقعية من قلوبنا...
جارتي في الطابق الموازي لاستهزائي تزيل هراء الزمن من حاجبها وتدهن قدميها بشيء من النعومة...
ليلاً احتفي بالظلمة في عناكب الوحدة، تسقط شمسي في فم الحوت، أضمد آلامي بقطن عقيم، تصلي الأرملة في جدائلها، تهدهد لفقيدها ''يلا تنام يلا تنام لادبحلك طير الحمام''، أرطب بالزيت مفاصل الذاكرة وأتدثر في الغطاء.. فيمرُّ ليل الحرب طويلاً بارداً معتمَ اليقين، كل ما يسعُك فيه استذكار ما كان يرويه لنا الأجداد عن أيام حربهم وشقائها، تلك الحكايا التي كنا نضحك بشيءٍ من عدم التصديق حين نصغي إليها والتي لم يتبادر إلى أذهاننا يوماً أنها ستعود لتروي نفسها بصورة أشدّ شراسةً وبؤساً، ورغم كل محاولاتك في الاستغراق بالتفكير يخرج إليك أحد أصوات الحرب تلك هادراً كصفعةٍ باردةٍ على وجهٍ يتوارى عن النظرِ محدقاً إليها، إنها لا تقبل إلا النظر في عينيك تماماً لتقول أنا هنا، الوقاحة المعتادة للحروب. نظرةٌ خاطفةٌ متكررة إلى الساعة، الوقت لا يزال يجرُّ نفسه كمصابٍ لا وِجهة له سوى الدوران في الرُّقعة ذاتها باحثاً عن خلاص. والموت وَصيف الحرب ومرافقها المُخلص الذي لم يتوان عن مهمته يوماً، لا يزال يمرُّ على الأبواب ويتربّص بالعابرين ويحصد الأرواح بلا هوادة دون أن يجد نداً يقفُ في وجهِ حصاده، هذا كل ما سيدور في رأسك وأنت تصغي إلى هدوئك الصاخب. لا بأس... هيَ حالةٌ اعتيادية شبه منطقية غير معترفٍ بها، نوعٌ من الوِحدة التي تتعرّى ونسترُها بظِلِّ إصبع، تستشعرُ فيها إحساسَ دميةٍ محشوةٍ بالقطن لا تبكي ولا تضحكُ ولا ترتجف، مُحيك بأدقِّ أنواعِ اللامُبالاة مفتوحُ العينينِ إلى اللاشيء البعيد، ممتلئٌ لكنك هشٌ كريشةٍ تواجه نسمة. اليوم حاجتي كثيرة لتقيؤ الحياة فتستريح معدتي من الخراب وشعور جامح بتهدئة الشيب، أدعو لجذوره حكمة سليمة، لم أصارع الموت ولا أتجرأ على الكفر بالولادة، فقط أراقب أمي من ثقوبها تجهض الغد وتنجبنا يتامى، أعاند حظها بالقفز على قدم واحدة متعكزة على المدى في الحياة وأترك للهواء صوت المخاض. الآن وبعد كل ذلك الرحيل وذلك الخيال  لم تعد هناك مقبرة أشد واقعية من قلوبنا.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image