انهماكي في البحث في الدين المقارن وقراءتي عن العقائد المختلفة ليسا جديدين، رافقا تأليفي لكتابي الأول واستمرا معي طيلة السنوات الماضية.
على الرغم من ذلك، فإن معرفتي بما يحدث في كنيسة القيامة في يوم السبت من أسبوع الآلام في كل عام، جاءت عن طريق الصدفة البحتة، عندما أنهى قارئ نشرة الأخبار استعراضه لأحداث اليوم بتقرير موجز عن الظهور السنوي لـ"النار المقدسة".
تخلّل الشريط لقاءً مع مواطن فلسطيني شاب منعته السلطات الإسرائيلية من حضور مراسيم الصلاة في القدس في ذلك التاريخ الذي عدّه من بين أكثر المناسبات أهمية في التقويم الأرثوذكسي.
ما كنت لأعير الأمر اهتماماً لو أن التقرير كان قد بُثّ على شاشة إحدى القنوات التبشيرية، لكن ظهوره ضمن نشرة محطة أخبار رصينة أثار فضولي لمعرفة المزيد من التفاصيل حول ما بدا لي كظاهرة عجيبة.
الصور التي ملأت شاشة حاسوبي النقال عند نقري باسم الطقس على محرك البحث تركتني مشدوهاً لروعتها... منظر آلاف من الشموع والمشاعل المضيئة تحملها أيدي المصلّين المجتمعين في المكان، بينما ترقرق الدموع في عيونهم خشوعاً وابتهاجاً بحدوث "المعجزة" تركا أثراً عظيماً في نفسي، رغم حقيقة أني لست مسيحياً.
قمت بعدها بمشاهدة بعض الأفلام عن الحدث، صراخ وتهليل الجمع المكتظ عند خروج بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية من القبر بعد أدائه لصلاة انفرادية فيه وهو يحمل حزمة من الشموع بعدد سنوات عمر المسيح وانتقال الضياء منها بلا تماس مباشر إلى الشموع التي حملها الموجودون في المكان، جعلا المشهد يبدو شبيهاً بفصل مهيب في ملحمة إغريقية، خصوصاً عندما قام بعض الحاضرين بتحريك أصابعهم عبر اللهب دون أن تحترق، تماماً كمن يتوضأ بالنور.
استوقفتني في ما قرأته وشاهدته مشاركة رجال الدين من الكنيستين القبطية والأرمنية حصراً في الطقس دون الكنيسة الكاثوليكية أو الكنائس البروتستانتية العديدة. عثرت أيضاً على مقالات مشككة زعمت أن الأمر ليس سوى خدعة لجأت إليها الكنيسة الأقدم لاستقطاب وفود الحجيج لحضور ومشاهدة "المعجزة الإلهية" وتقديم هباتهم السخية على أثرها.عن نهج الاستعانة بالمعجزات والإعجاز للترويج للعقائد الدينية... الأرثوذكسية المسيحية مثالاً
لو كان إيمان المرء منا مرتهنا بحدوث الخوارق والمعجزات فأي قيمة تظل له؟ بل هل تجوز تسمية ذلك إيمانا أصلا؟المفاجأة الأكبر كانت في عثوري على شريط لبرنامج كان قد بثّه التلفزيون اليوناني قبل أكثر من عشر سنوات قام فيه المؤرخ والباحث في الدين "مايكل كالوبولس" بغمس فتائل ثلاث شمعات في الفسفور الأبيض فاتقدت بعد دقائق بفعل خاصية الاشتعال الذاتي للمادة عند تعرضها للهواء. بالإضافة إلى ملايين المشاهدين، تابع التجربة عدد من رجال الكنيسة الحاضرين في الستوديو، وبدا الإحراج والارتباك جليين على وجوههم، خصوصاً عندما أوضح كالوبولس بأن الخدعة ليست جديدة، إذ مارسها كهنة المعابد البابلية في بلاد الرافدين قبل آلاف السنين، وكذلك سحرة قدماء الكلدان والإغريق. الضجة التي أثارتها التجربة وتناقل الصحف ووسائل الإعلام الأخرى حول العالم لنتائجها وما سبقها من تسريبات من داخل الكنيسة الأرمنية كانت قد نشرتها صحيفة التلغراف البريطانية عن أن الموضوع لا يعدو كونه تمثيلية أعدها وأخرجها واضطلع ببطولتها رجال الدين الأرثوذكس، الذين التزموا بكتمان السر عبر القرون، لم يؤثر أي من ذلك على شعبية التقليد. بل ربما تكون أعداد الوافدين إلى الكنيسة طلباً لرؤية "معجزة النار المقدسة" قد ازدادت مع تفاقم وتدهور الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، عقب هبوب عواصف "الربيع العربي" وما رافقه من قتل واضطهاد وتهجير للأقليات العرقية والدينية، وفي مقدمتها المسيحية. الحاجة إلى المعجزات واللجوء إلى الخوارق في زمن المحن سلوك بشري موغل في القدم، سبق ظهور أولى الديانات الإبراهيمية بآلاف السنين، لكن استمراره في هذا العصر الذي حقق العلم والتكنولوجيا فيه إنجازات هائلة، يثير العديد من علامات الاستفهام. كنت على وشك الكتابة عن الموضوع عندما ضربت سلسلة من التفجيرات الكنائس القبطية في مصر، وأوقعت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى قبل أيام قليلة من الاحتفال بعيد القيامة، فآثرت تأجيل الأمر احتراماً لمشاعر أبناء الكنيسة وحدادهم على الضحايا الأبرياء.
لكن قراءتي عما حدث خلال زيارة الداعية الإسلامي "زغلول النجار" إلى المغرب للمشاركة في مؤتمر عالمي للباحثين في القرآن وعلومه، وقيام عدد من الشباب الجامعي هناك بتوجيه أسئلة محرجة له واتهامه بتضليل الرأي العام بادعاءات قفزت على ظهر الاكتشافات العلمية المعاصرة وزعمت وجود أصول لها ضمن نصوص الكتاب والحديث، أيقظت رغبتي في الحديث عن "معجزة سبت النور" في القدس وعن نهج الاستعانة بالمعجزات والإعجاز للترويج لهذه العقيدة الدينية أو تلك بشكل عام.
النجّار، وإن كان مؤسس مدرسة "الإعجاز العلمي في القرآن" التي ظهرت وشاعت في بداية الألفية الثالثة، وعادت عليه بشهرة وأموال وتقدير غير مسبوقة، إلا أنه ليس الداعية الوحيد لها، إذ توالت بعده طروحات "الباحثين" وتوسّعت آفاقها لتشمل الإعجاز العددي واللغوي وسواها من الإعجازات التي راجت بين صفوف الشباب المسلم في تلك المرحلة، يضاف إليها ما عرف بـ "الطب النبوي" الذي بات تجارة رائجة تدر أرباحاً بملايين الدولارات على ممارسيها، حتى وإن تسببت وصفاتها ومنتجاتها بكوارث صحية لكثير من المستهلكين، بل وقضت على حياة العديد منهم.
الإعجاب والتأثر كانا رد فعل كثر من أبناء جيلي عند مشاهدتنا لبرنامج زغلول النجار الذي بدا لنا كفتح علمي مبهر. تزامن ذلك مع بزوغ نجم ظاهرة أخرى هي "الدعاة الجدد" التي بشّرت بخطاب ديني مختلف وعصري واستطاعت أن تستقطب حولها جموعاً غفيرة من المريدين وتسببت بموجة عارمة من ارتداء الحجاب بين الفتيات المسلمات.
كل من الظاهرتين كانت مداداً للأخرى، أعطت الخلفية العلمية لرموزهما مصداقية في أعين المتابعين حتى بدأت الحقائق بالانجلاء والدلائل بالظهور تباعاً عن خدعة كبيرة وشرك محكم تم استدراجنا لهما بمكر ودهاء.
الحاجة إلى المعجزات في زمن المحن سلوك بشري سبق ظهور الديانات الإبراهيمية بآلاف السنين، لكن استمراره في هذا العصر الذي حقق العلم فيه إنجازات هائلة يثير العديد من علامات الاستفهام
لي عنق النصوص الدينية والثوابت العلمية كي تبدو الأولى وكأنها إرهاصات للثانية كشفته تناقضات ومغالطات نظريات "الاعجاز العلمي" عن مراحل تكون الجنين وكروية الأرض وحركة الكواكب وسواها من الادعاءات، ففي عصر ثورة المعلومات وفورتها لم يعد ممكناً تضليل الجموع لوقت طويل كما كان الأمر في الأزمان السابقة.
تبدّت كذلك هشاشة الطروحات عن وجود منظومات عددية بعينها تربط بين آيات وسور القرآن أو عن ورود مفردات زمنية كالساعة والشهر بعدد تكرارها في الواقع...
عند مواجهة "الإعجازيين" بخطأ مزاعمهم وإحصاءاتهم كانت المراوغة بإضافة أعداد وطرح أخرى للحصول على النتائج المرغوبة والتضليل اللفظي الآلية التي لاذوا بها لحفظ ماء الوجه، أو كانوا يثورون ويستشيطون غضباً كما فعل زغلول النجار في مواجهة مناظريه من طلبة المغرب الذين وصفهم بالتآمر والجهل وحتى الالحاد.
مرة أخرى، قررت تأجيل نشر المقال لما بعد رمضان والعيد كي لا أسيء إلى الصائمين، فتلك ليست نيتي ولا غايتي، لكن الإساءة للعقيدتين الإسلامية والمسيحية قد وقعت بالفعل على أيدي من أرادوا تطويع الدين لخدمة مصالحهم وأجنداتهم سواء عن طريق إفراغ التجليّات من روحانيتها واختزالها إلى مجرد كتب أحياء أو كيمياء أو فيزياء أو حساب عاجزة عن مواكبة وتيرة الاكتشافات العلمية المتسارعة، أو عبر تقديم عرض تمثيلي لحدوث معجزة بهدف ابتزاز مشاعر المكلومين من البسطاء في هذا الظرف العصيب.
في خضم مثل تلك الممارسات، يبقى سؤال مهم يبحث عن جواب عن معنى وكنه الإيمان كفعل إنساني فريد وعميق.
لو كان إيمان المرء منا مرتهناً بحدوث الخوارق والتجسّدات أمام ناظريه، فأيّ قيمة تظل له وأي فضل يستحقه؟ بل هل تجوز تسمية ذلك إيماناً أصلاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...