لا شك في أن العديد من دول العالم الفقيرة والنامية قد حاولت منذ أمد بعيد اللحاق بركب التقدم، ذلك الذي يقوده الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي الغربي. ماليزيا، تلك الدولة الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها 330 ألف كيلومتراً مربعاً، والواقعة في قلب جنوب شرق القارة الآسيوية، كانت واحدة من تلك الدول التي استطاعت أن تقدم نموذجاً مبهراً لكيفية تحوّل دولة فقيرة من العالم الثالث إلى واحد من أهم مراكز التصنيع والتنمية الاقتصادية في العالم. للتجربة الماليزية ملامح ولرئيس الوزراء الماليزي الأشهر مهاتير محمد يد طولى فيها، كما أمامها تنتصب عوائق يتخوّف البعض من أن تمنع استمرار تلك التجربة التي امتدحها كثيرون.
الاستقلال كدولة فقيرة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تبدلت سياسة التاج البريطاني تجاه المستعمرات الإنكليزية في شتى أنحاء العالم. في هذا السياق، استقلت ماليزيا عام 1957، وتم حكم تلك الدولة عبر نظام ملكي دستوري، يملك الملك فيه ولا يحكم، بينما يقوم رئيس الوزراء، والذي عادةً يكون رئيس الحزب صاحب العدد الأكبر من النواب في البرلمان، بإدارة البلاد. في الفترة الأولى التي أعقبت استقلال ماليزيا، عانت البلاد من تبعات مرحلة ما بعد الاستعمار، والتي تمثلت في المعاناة الاقتصادية التي طالت معظم أفراد الشعب، وسوء توزيع الثروة بين أفراده. كان الاستعمار الإنكليزي قد عمل منذ فترة مبكرة من وصوله إلى ماليزيا، على استقدام العمالة الصينية والهندية إليها، وهو ما أدى مع مرور الوقت، إلى ظهور مشكلة عرقية، لأن أغلب الثروات تركزت في يد الصينيين الذين كانوا أكثر خبرة ومهارة، وعانى الملايو وهم أصحاب الأرض الأصليون من التهميش والفقر، رغم أن نسبة الملايو المسلمين في البلاد تزيد عن 65%، بينما تقل نسبة الصينيين عن 26%. في عام 1969، نظم الملايو تظاهرات كبرى في شتى أنحاء ماليزيا، للمطالبة بحقوقهم، وهو الأمر الذي استجابت له الحكومة بإقرارها مجموعة من القوانين والتنظيمات التي عرفت وقتها بسياسة تمكين الملايو.
مهاتير محمد... أبو التحديث
في العاشر من يوليو عام 1925، ولد مهاتير محمد لأسرة من الملايو، مسلمة متوسطة الحال. درس مهاتير الطب، وابتدأ نشاطه السياسي بانضمامه إلى الحزب الحاكم (أمنو)، وذاع صيته بعدما أصدر كتابه "معضلة الملايو"، عام 1970، واستعرض فيه مشاكل هؤلاء السكان الأصليين المسلمين، الذين كانت تظاهراتهم الغاضبة تملأ الشوارع في ذلك الوقت. وبعد منع تداول الكتاب، حظي مهاتير بشهرة كبيرة، وتم انتخابه عضواً في البرلمان الماليزي، ثم اختير وزيراً للتعليم، قبل أن يتمكن من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء في عام 1981، لتبدأ رحلة التحديث الماليزية.
في كتابه "طبيب في رئاسة الوزراء"، يشرح مهاتير محمد أسس النظام الإداري الذي انتهجته الدولة الماليزية في عهده، فيقول: "يجب أن تكون لديك إدارة جيدة وأن تواجه الفساد. وحتى تمنع الفساد يمكن أن تضع بعض القوانين الصارمة، ولكن الأهم من ذلك هو تطوير نظام إداري يكون واضحاً جداً، بحيث يتم تحديد مجموعة الإجراءات التي يجب اتخاذها لتنفيذ أي عمل، والزمن الذي يستغرقه ذلك، وصلاحيات الموظفين، فإذا لم يقم الموظف بما حُدد له بدقة وضمن الزمن المحدد، فيستنتج أنه فاسد، وبالتالي سيحاسب ويُتخذ الإجراء اللازم بحقه".
وإذا كانت الإدارة الحازمة هي الطريقة التي انتهجها مهاتير للوصول إلى مشروعه التحديثي، فإنه في الوقت ذاته، وضع نصب عينيه أسساً لعملية التنمية.
تلك الأسس بحسب ما جاء في كتابه، تتمثل في إزالة العقبات أمام الاستثمارات الأجنبية، والاعتماد على الموارد الذاتية لماليزيا ورفض الاقتراض الخارجي، وتوفير التعليم الجيد للمواطنين.
مهاتير محمد أبو التحديث في ماليزيا: إذا لم يقم الموظف بما حدد له بدقة وضمن الزمن المحدد، فهو فاسد
الإنفاق على التعليم 3 مرات أكثر من الإنفاق على الدفاع ليس سوى إحدى الخطوات التي اعتمدتها ماليزيا للتحديثفي كتابه "التجربة الماليزية"، يرصد محمد صادق إسماعيل الخطوات التي بدأ مهاتير محمد بالعمل عليها للوصول إلى هدفه وحلمه. يشير إلى أن أولى تلك الخطوات كانت تشجيع التصنيع والتصدير، إذ رفضت الحكومة أن تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية في السوق المحلية، كما تم التركيز على الاستثمار في سوق الصناعات الإلكترونية، لكونها كثيفة العمالة، مما ترتب عليه تخفيض معدلات البطالة من جهة وتقليل الفوارق في الأجور والثروة بين مختلف فئات المجتمع الماليزي من جهة ثانية.
هكذا، قلت نسبة الفقر من 71% في مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى ما يقرب من 1% في الوقت الحالي.
أدى التغير الذي طرأ على المجتمع الماليزي إلى تحوله من مجتمع زراعي يقوم على بيع المواد الزراعية الخام إلى مجتمع صناعي تحويلي، وهو ما نتج عنه بالتبعية أن الكثيرين من الماليزيين الذين كانوا يعيشون في الريف تركوا قراهم، وانتقلوا للإقامة في المدن، وهو الأمر الذي ساعد في تحديث المجتمع.
وتجلّت سياسات مهاتير محمد الداعمة للاعتماد على الموارد الذاتية في رفضه لإملاءات البنك الدولي، واتجاهه إلى إشراك الشعب الماليزي في المشاريع الكبرى.
وبحسب ما يذكره محمد صادق إسماعيل في كتابه، مضت الحكومة الماليزية قدماً في سياسة الخصخصة المحسوبة، واشترك أبناء الملايو في امتلاك المؤسسات الكبرى في بلدهم، وكان الهدف من ذلك تضييق الفجوة الاقتصادية بينهم وبين الصينيين. وأظهرت إحصاءات عدة أن ما يقرب من 7 ملايين من بين 12 مليوناً من الملايو (بحسب أعدادهم في بداية الثمانينيات من القرن الماضي)، كانت لديهم حصص في الشركات الماليزية الكبيرة، بشكل يضمن المشاركة في إدارتها وجني الأرباح الاقتصادية منها، وهو ما أدى إلى ظهور طبقة متميزة من رجال الأعمال الملايو. كل تلك المشاريع التنموية ترافقت مع سعي الحكومة إلى استغلال الثروات الطبيعية المتوفرة في الأراضي الماليزية، فطورت عمليات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، حتى احتلت ماليزيا المركز الثالث عشر عالمياً من حيث احتياطي الغاز الطبيعي، والثاني والعشرين من حيث احتياطي النفط، وأقيمت العديد من المشاريع المرتبطة بالطاقة وإنتاج الكهرباء.لعبت طريقة إدارة الملف الديني في ماليزيا دوراً كبيراً في ما وصلت إليه من تقدم اليوم
ملف التعليم... الأكثر تميّزاً
ورغم كل ما سبق من مجهودات حقيقية، بقي ملف التعليم هو الملف الأكثر تميزاً في التجربة الماليزية. وبحسب ما ذكره مهاتير محمد في كتابه، كان طموحه الأكبر يتمثل في تكرار تجربة اليابان التعليمية في بلاده، ولذلك أرسل البعثات الدراسية المختلفة إلى اليابان، واحتذى بتجربتهم في ربط الخطط التعليمية بالأهداف القومية، وبالعناية بالمعاهد الصناعية لتلبية احتياجات المجتمع ونواقصه. ولم تكن تلك الآمال لتتحقق بدون ضخ ميزانيات ضخمة فيها. وبحسب ما يورده الدكتور محمد شريف بشير في كتاب "استثمار البشر في ماليزيا"، فإن الحكومة الماليزية في عهد مهاتير محمد، خصصت ربع ميزانيتها للتعليم. وربما يُدهش الكثير من سكان الدول العربية إذا عرفوا إن إنفاق ماليزيا على التعليم يبلغ عادة نحو ثلاثة أضعاف إنفاقها على الجيش والدفاع. فبحسب ما أورده بشير في بحثه، قُدّرت ميزانية التعليم في ماليزيا في عام 2007، بنحو 35 مليار رنجت (12 مليار دولار)، فيما بلغت موازنة الدفاع والجيش نحو 13 مليار رنجت. وفي 2011، بلغت ميزانية التعليم 40 مليار رنجت، وميزانية الدفاع نحو 14 مليار فحسب. هذا الإنفاق السخي على التعليم في ماليزيا، أدى إلى ارتفاع كبير في معدل المدرسين إلى الطلبة، ليصل إلى مدرس واحد لكل 18 طالب في عام 2000. كما أن عدد الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه تضاعف عشرات المرات. ففي حين كان عدد الخريجين من حملة إحدى هاتين الشهادتين لا يزيد عن المئة سنوياً قبل عام 1985، اقترب عددهم عام 2000 من 2500 سنوياً.الإسلام السياسي: هل يصبح عائقاً أمام التحديث؟
على الرغم من كون ماليزيا دولة ذات أغلبية مسلمة، لم تصطدم بالعوائق التي واجهتها معظم الدول الإسلامية التي سعت إلى التحديث والتنمية. وربما لعبت الطريقة التي تمت بواسطتها إدارة الملف الديني في ماليزيا، دوراً كبيراً في ما وصلت إليه من تقدم. فمنذ أن حصلت ماليزيا على استقلالها، وهي تدار بواسطة ائتلاف مكوّن من عدد من الأحزاب، تتزعمه المنظمة الوطنية للاتحاد المالايوي (أمنو)، وتشترك معها مجموعة من الأحزاب التي تمثل الصينيين والهنود. وفي محاولة من هذا الائتلاف، للعبور فوق مشكلة اختلاف الأعراق، تم التأكيد على علمانية الدولة، وعلى ضمان الحقوق السياسية والثقافية لمختلف الطوائف. وبموجب تلك النظرة العلمانية، ظلت التشريعات والقوانين الإسلامية، مقتصرة على قوانين الأحوال الشخصية التي تُطبّق على المسلمين وحدهم. وقد عملت الحكومة على عدم التعرض للتيارات الإسلامية التي ظهرت في ماليزيا منذ ستينيات القرن الماضي، وفضلت انتهاج السبل السلمية والتعامل بأسلوب التعايش والاحتواء والبعد عن استخدام العنف قدر الإمكان. وبحسب ما يورده الدكتور محمد فايز فرحات في كتابه "الإسلام الحضاري: النموذج الماليزي"، فإن الطلبة الماليزيين الذين درسوا في مراكز الثقافة الإسلامية في الشرق الأوسط شكلوا، بعد رجوعهم إلى وطنهم، البذرة الأولى لجماعات الإسلام السياسي، خصوصاً أن هؤلاء احتكوا في البلاد التي درسوا فيها بجماعة الإخوان المسلمين وتعرّفوا على أدبياتها وكتبها الأصلية، ونقلوا أفكارها إلى ماليزيا. والحزب الإسلامي "باس"، بقيادة الشيخ عبد الهادي أوانج، هو الفصيل الأكثر انتماء إلى الإسلام السياسي في ماليزيا. فهو يشارك بشكل فعال في الحياة السياسية، واستطاع أن يسيطر على بعض الولايات، ومن أهمها ولاية كلنتان.وعلى الرغم من أن باس يعمل في معظم الأحيان ضمن قوى المعارضة، فهو في بعض الأحيان يعقد تحالفات مع حزب أمنو الحاكم. فعلى سبيل المثال اتفق الحزبان على تمرير بعض القوانين المرتبطة بتطبيق الشريعة، والتي بموجبها سوف يتم تطبيق عقوبة الجلد والضرب بالعصا في بعض حالات السرقة والتعدي على الغير. وكان هذا الاتفاق قد أثار جدلاً كبيراً في الشارع الماليزي، إذ تخشى قوى المعارضة أن تكون تلك القوانين تمهيداً لتطبيق أحكام قطع الرأس والرجم في المستقبل. ولذلك يمكن القول إنه حتى الآن لم يحدث أن وقف التدين الإسلامي في وجه خطى التحديث الماليزية، بل كانت مشاركة ذلك التيار في السياسة، بشكل رسمي ومعلن، سبباً في عدم تصادمه مع الدولة وتوافقه مع الخط التنموي السائد فيها. ولكن في الوقت نفسه، فإن الكثير من الشكوك أثيرت في الفترة الأخيرة حول إمكانية وصول الأفكار الإسلامية الراديكالية إلى ماليزيا، إذ تم الإعلان في مارس الماضي عن القبض على عدد من العناصر الإرهابية التي تنتمي إلى تنظيم داعش، والتي كانت تنتوي القيام ببعض العمليات الإرهابية في البلاد. ويأتي هذا في الوقت الذي ظهرت فيه دراسات تؤكد أن الماليزيين يشكلون نسبة كبيرة من عناصر تنظيم داعش القادمة من منطقة جنوب شرق آسيا، مما ينذر بتهديدات كبيرة لماليزيا في حالة عودة تلك العناصر إلى وطنها في ظل خسائره الفادحة في سوريا والعراق.عن تجربة ماليزيا الناجحة التي خفضت نسبة الفقر من 71% في مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى ما يقرب من 1% اليوم
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين