في حي المعادي الهادئ، وعلى مدخل منزل من طابقين أمامه حديقة صغيرة، غُرست بتربتها بعض الورود وأشجار الظل، يقف البواب عم ربيع، مشتت الأنظار في أرجاء الشارع وكأنه ينتظر وصول أحدٍ ما. فوق سطح المنزل، أقف برفقة الأستاذة نادية (صاحبة المنزل)، وإحدى بناتها ننتظر ما ينتظره عم ربيع. نقطع السطح جيئةً وذهاباً، وعيوننا إلى الغرفة المشيدة في زاوية سطح المنزل ببابها الخشبي الهش، ونافذتها المفتوحة على الدوام. تلك الغرفة التي كانت حتى نهاية الشهر الماضي مخزناً لملابس سكان المنزل، التي يتم تخزينها بحسب تغير فصول السنة قبل أن يستيقظ رواد المنزل على نبأ سرقة ما بداخلها من ملابس. «الشيخ فضل وصل يا أستاذة»، بهذه الكلمات صدح عم ربيع من أسفل المنزل، ونحن ننظر إليه من السطح، وإلى جانبه ذلك الشخص الذي نعته بالشيخ. رجل في نهاية الأربعين، متوسط الطول، تزين وجهه لحية خفيفة منسقة، يرتدي هنداماً منمقاً لا يوحي بأي علامة من علامات المشيخة. نزلنا إلى الطابق الأرضي من المنزل، الذي بدأت أشعر أنه أحد تلك المنازل العامرة بالأشباح. جلسنا جميعاً والشيخ يتصدر المشهد متفحصاً وجوهنا واحداً تلو الآخر، قبل أن يكسر صمته ويطلب اصطحابه إلى أكثر غرف المنزل ظلمة. أدخلته الأستاذة نادية إلى إحدى الغرف التي أغلقت نوافذها بالستائر القاتمة حتى أصبحت كمدينة غشيها الظلام بغتة دون أنحاء البلاد. أخرج الشيخ المزعوم من ظرف بلاستيكي أسود كان بحوزته منديلاً أبيض، علمت في ما بعد أن اسمه «منديل محلاوي»، نسبة إلى مدينة المحلة المصرية، وقام بتثبيته بين طاولتين حتى أصبح يشبه شاشة السينما. ثم غرس شمعة خلف ذلك المنديل، ليصبح مضاءً بشعاع أصفر جعل ظلال من في الغرفة تنعكس على الجدران.
جاءت الأستاذة نادية، التي تَعَجَبتُ من شدة إيمانها بمثل هذه الطقوس، رغم وصولها إلى مراكز متقدمة علمياً وعملياً، بحفيدة لها لم تبلغ الحُلُم بعد (أي أنها لم تتم 12 عاماً)، وطلبت منها الجلوس أمام ذلك المنديل، بناءً على رغبة الشيخ، الذي طلب من الطفلة أن تغمض عينيها، ووضع يده على رأسها وبدأ يتلو بعض التراتيل التي لم أعِ منها سوى بعض الآيات القرآنية، قبل أن يطلب منها أن تفتح عينيها وتروي ما تراه على ذلك المنديل الأبيض. بدأت الطفلة بسرد بعض التفاصيل وكأنها شخص آخر غير تلك التي شاهدتها حين دخلت بيت الأشباح هذا. «عربية كبيرة فوقها سِلِم... في رجالة بالعربية رفعوا السلم الطويل وواحد طلع على عامود النور اللي جنب البيت زي ما بيكون بيصلحه... نزل عن السلم وقاعد بيشاور للرجالة اللي تحت... حطو (وضعوا) السلم فوق سور البيت واتنين رجالة طلعوا عالسطح ...».
لم أر شيئاً مما ترويه تلك الطفلة غير الذي رآه من يقفون إلى جانبي. تلك القماشة البيضاء المضاءة بالشمعة المثبتة خلفها. صمتت الطفلة فجأة، وقرأ الشيخ بعضاً من تراتيله فوق رأسها، قبل أن تخر دمعاتها ويعلو صوت نحيبها. خرجنا إلى بهو المنزل نضرب كفاً بكف بعد أن هدأت الطفلة التي التصقت بأمها، فنحن لم نعِ ما قالته ولا نعلم من هم أولئك الذين ذكرتهم في روايتها. جلس الشيخ المريب، وبدأ يفسر ما عصي علينا أن نفقهه: «في عربية زي (مثل) بتوع شركة الكهربا اللي فوقها سلم طويل، كانت جاية بمهمة تصليح لعواميد النور اللي جنب البيت ولما طلعوا عالسلم صاروا (أصبحوا) أعلى من مستوى البيت وشافوا الغرفة التي كانت مفتوحة وفيها الدواليب والأكياس، قاموا غيروا اتجاه السلم وطلعوا سطح الفيلا وأخذوا كل حاجة بالغرفة». في الوقت الذي أسهب الشيخ في تفسيره، اعتراني التعجب مما رأيت وسمعت، فكيف لهذا الرجل أن يعيد الزمن إلى الوراء من خلال ما يسمى «فتح المندل».
حتماً هناك شيء خفي غير ظاهر. لَمَعَ في ذهني سؤال خجلت من طرحه: فحين ستذهب هذه الأسرة لتقديم بلاغ بالسرقة لدى الشرطة، هل تأخذ الشرطة بالنتيجة التي خرج بها فاتح المندل كدليل ويتم التحقيق مع دورية شركة الكهرباء التي كانت في تلك المنطقة يوم الحادثة؟ ترجيحي لهذا الأمر أن الشرطة حتماً ستقوم باعتقال هذه الأسرة وترحيل جميع أفرادها إلى مستشفى الأمراض العقلية. فلو أن هذا الأمر حقيقي فعلاً لكنا خصصنا للمندل غرفة في كل منزل لكشف ما يحلوا لنا من أحداث وروايات غابت عن عيوننا وأذهاننا. بالعودة إلى المندل، هي عادة تكاد تكون منتشرة في الأرياف والقرى وأجزاء من المدينة، وتقتصر ممارستها على بعض الأشخاص ومن يريدهم يعرف جيداً طريق الوصول إليهم. فكما عَلِمتُ من الأستاذة نادية، فإن الشيخ المزعوم جاء عن طريق البواب عم ربيع، وتحديداً من «عزبة الوالدة» بمنطقة حلوان. انتهى أمر حلقة الرعب تلك بأن ناولت صاحبة المنزل ذلك الشيخ ظرفاً يبدو أن بداخله بعض النقود، ورافقته حتى باب المنزل مودعة إياه، قبل أن تعود جاحظة العينين في سقف المنزل تفكر في ما همس لها به قبل أن ينصرف.
العرافون في المجتمع المصري
يبرز اعتقاد سائد في المجتمع المصري بالإيمان بالقدرات الخارقة التي يمتلكها بعض الأشخاص، الذين يطلق عليهم مصطلح «مخاوي»، أي أنه يرافق جنياً من العالم السفلي، على الرغم من الفتاوى الدينية الواضحة التي تحرم بشكل قاطع جميع أشكال العرافة، وادعاءات البعض بالاطلاع على الأمور الغيبية. أما كلمة «المندل»، فتوحي بالاستدلال، أو اتباع الأدلة التي يمكن أن ترشد إلى فاعل مجهول لفعل معلوم، كالسرقة أو القتل. ويستعين فاتح المندل بالجان في تراتيله، التي يفتتح بها ذلك الطقس، وفي ظل وجود طفل لم يبلغ الحُلُم، كشرط أساسي لنجاح الطقس، بحسب ما يدّعون. وفي تفسير آخر لذلك، يقوم فاتح المندل باستحضار الجان الذي أخذ عليه عهداً، وعادةً يكون أحد ملوك الجان السبعة. وبحسب التفسير المنتشر لذلك، فإن كل ملك من هؤلاء معه أخبار يوم من أيام الأسبوع، فإن أراد معرفة تفاصيل حادثة ما وقعت يوم الثلاثاء مثلاً، يقوم فاتح المندل باستدعاء الجان صاحب ذلك اليوم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com