شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الموصل... أتساءل هل الدمار النفسي أقسى أنواع الدمار؟

الموصل... أتساءل هل الدمار النفسي أقسى أنواع الدمار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 5 يوليو 201701:56 م

ثمة قول مأثور للروائية الإيرلندية الراحلة جوزيفين هارت، في روايتها "ضرر": "الأشخاص المحطمون خطيرون، لكونهم يعرفون تمام المعرفة أنهم يستطيعون البقاء على قيد الحياة".

آلت بي ذاكرتي إلى هذه الجملة خلال بعثتي الأخيرة مع منظمة أطباء بلا حدود إلى العراق، وتحديداً الموصل وضواحيها. فخلال زيارتي مشاريع المنظمة القريبة من الموصل، مررنا بعدد من القرى والبلدات التي استعادها الجيش العراقي أخيراً من تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية.

بعد سنوات طويلة، وجدتني غريباً في بلد لطالما عرفته. ها أنا أقف وسط ركام بلدات وقرى شبه خالية وكأنها مدينة أشباح.

بيوت مدمرة، منازل التهمتها النيران وسوّتها أرضاً، مبان فقدت هويتها، بحيث لم يعد بالإمكان معرفة ما إذا كانت أساساً مدارس أو مستشفيات أو دور عبادة قبل أن يحّل بها الدمار.

مرّت على بالي تلك المقولة وتخليت سكان هذه البلدات والظروف المروعة التي اختبروها، سواء من ناحية العيش تحت رحمة تنظيم الدولة الإسلامية أو خلال العمليات العسكرية التي شنّها الجيش لاستعادة السيطرة على هذه المناطق وما صاحب ذلك من دمار وتشريد وقتل.

تساءلت هل كان الدمار النفسي أقسى أنواع الدمار. وتخيّلت شعور شخص ما لدى معرفته أن منزله وعائلته وحياته بشكل عام قد "دُمِّرت"، ماذا تتوقع من هذا الشخص سوى الإصابة بدمار وجروح نفسية أقسى من الجروح الجسدية قد تطول عملية شفائها في بعض الأحيان لسنوات عدة.

إلا أن النفوس المحطمة سريعة التأقلم مع ظروف الحياة المتغيرة والمحن، ويعود ذلك إلى غريزة العيش الكامنة داخل كل كائن بشري.

ولكن هذه الحياة الجديدة التي فرضت عليهم ما هي إلا شكل آخر من أشكال الموت البطيء. أن تحيا دون أدنى بصيص أمل هو  الموت بعينه. وهنا تكمن الخطورة: العيش بدون أمل وبنظرة ضبابية للمستقبل.

عند زيارتي لمستشفى منظمة أطباء بلا حدود الجراحي في حمام العليل جنوب الموصل حيث شهدت غرفة الطوارىء معالجة أكثر من 2680 مريضاً منذ افتتاح المستشفى في شهر فبراير، تحدثت إلى بعض المرضى والكادر الطبي المحلي فيه.

أدركت حينها حجم الدمار الذي حلّ بالمنطقة، ليس فقط من ناحية البنية التحتية التي تعدّ كارثة بحد ذاتها، وإنما أيضاً من الجانب الإنساني والنفسي للمواطن العادي الذي عاصر منذ تسعينيات القرن الماضي أشكالاً متعددة من الدمار، بدأ مع الحصار وانتهى بالعمليات العسكرية الهادفة إلى استرجاع تلك المناطق.

ومن بين شهادات كثير من المرضى الذين التقيتهم، قالت لي أم احمد، والدة أحد الأطفال الذين يتلقون العلاج في المستشفى: "حاولنا الهرب عندما اشتدت حدة العمليات العسكرية، ولكن إحدى القذائف سقطت بجانب زوجي وطفلي، وتسببت بمقتل زوجي وبتعرّض ابني لعدة إصابات بالغة. لا أدري ماذا سيحل بنا في ما بعد ولكن ما يهمني هو أن يشفى ولدي".

أم أحمد ما هي سوى نموذج بسيط عن أمهات عانين ويعانين ويلات صراع لا ناقة لهن به ولا جمل.

وعند تحدثي مع أحد الأطباء العراقيين أخبرني بنبرة ساخرة: "اعتدنا ذلك. لم يعد أحد يهتم بما يحصل لنا. أحاول أن أساعد بأي طريقة ولكن ذلك غير كاف".

وبالفعل، إن ذلك غير كاف.

العديد من المنظمات الدولية الإنسانية تبذل قصارى جهدها لكي تداوي جراحاً ما انفكّت تنزف. وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة لتضميد جراح المصابين، ما زالت هناك أصوات تنتقد عمل هذه المنظمات، فتتهمها تارة بأنها تعالج "الإرهابيين" وطوراً بأنها تقدّم الرعاية إلى أشخاص ينتمون إلى "طائفة" محددة دون غيرهم وأحياناً أخرى تُوجَّه أصابع الاتهام إلى المنظمات لعدم قيامها بعملها على المستوى المطلوب.

ولكن في الواقع، الكثير من المنظمات الإنسانية تُعنى بما يعانيه الإنسان كإنسان، ككائن بشري.

جل ما تراه عيناي أثناء عملي هو أنني أتعامل مع إنسان، كائن بشري يقف أمامي ويحتاج إلى أن يعامل بإنسانية. هذا هو معياري الحقيقي، وهذا هو اعتباري الأساسي.

ولو أن العالم بدأ بالنظر إلى الإنسان على أنه إنسان، لكنا اليوم نعيش بخير وسلام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image