تتمحور معظم أفلام السينما الفلسطينية حول القضية الوطنية ومواجهة الاحتلال، وهو خيار يبدو طبيعياً بحكم ثقل الجغرافيا وقسوة الواقع المفروض على صنّاعها. غير أن هذا التمركز الطويل حول السردية الجماعية جعل التجربة الفردية تتراجع إلى الهامش، فغابت الأسئلة المتعلقة بدواخل الإنسان الفلسطيني، ومشاعره اليومية، وتناقضاته الخاصة، لصالح خطاب عام يختزل الفرد في كونه جزءاً من قضية كبرى، لا ذاتاً كاملة تبحث عن صوتها الخاص.
ولكن خلال السنوات المؤخرة قلة من الصناع أدركوا تلك الفجوة، فبدأنا نشاهد أفلاماً تتيح للفرد بأن يكون إنساناً صاحب قضية خاصة. فيلم "شكراً لأنك تحلم معنا" لمخرجته ليلى عباس يسير في فلك الإنسان بشكل عام، والشخصيات النسائية الفلسطينية التي تعاني من قوانين المواريث الإسلامية والعرفية وأحقيتهن في الحلم والبحث عن سبيل للنجاة بشكل خاص.
الفيلم بطولة كلارا خوري، ياسمين المصري، كامل الباشا، أشرف برهوم، ومن تأليف وإخراج ليلى عباس، وهو أول فيلم روائي طويل لها، ترسم فيه صورة مرة وحميمية لأختين فلسطينيتَين تواجهان موت الأب فجأة، ولكنهما يظلان عالقتَين في نظام أبوي لا يرحل، فيكون عليهم التحايل عليه بشتى الطرق الممكنة، فيمرّان برحلة تمزج بين السخرية والأسى بلغة سينمائية خلال يوم واحد فقط.
موت الأب وتصدع النظام الأبوي
تورطنا المخرجة من بداية الفيلم، وتحديداً منذ الثلث الأول منه، بخطة لا يمكن وصفها بالشريرة بقدر ما كان الخلاص بالتحايل على القانون هو الوصف الأدق، حيث يموت الأب الذي تقيم معه ابنته نورا، ويبدأ صراع الفيلم بمحاولة إقناعها لشقيقتها مريم المتزوجة، بضرورة الحصول على المال من حساب والدهما المصرفي قبل أن يعلم شقيقهما بالأمر ويستولي هو على الأموال، رغم انقطاعه عنهم منذ سفره إلى الخارج.
هنا تبدأ الأزمة أو الورطة بسؤال: كيف يمكن لشقيقتَين الحصول على حقهما العادل نتيجة رعاية والدهم في مجتمع لا يعترف بحق الميراث إلا عبر رجل، فضلاً عن حصوله على النصيب الأكبر؟ فالمخرجة ليلى لا تظهر وفاة الأب كلحظة حداد عليه، قدر ما هو حداد الشقيقتين على نفسهما وحياتهما في هذا المجتمع الذي يطمس أحلامها في الاستقلال كنساء، بسبب نظام أبوي يضع الرجل حتى لو كان غائباً، شرطاً أساسياً لحصولهن على نفحة من حقهن.
لا تقف الشقيقتان أمام الميراث كحقٍّ مالي فحسب، بل كمعركة على الاعتراف بالصوت والسلطة داخل نظام أبوي لا ينهار حتى بعد موت الأب
بهذا المعنى لا يكون موت الأب عائق تحقيق الحلم، ولكنه أدرك حقيقة الوضع مؤخراً حتى إنه صارح ابنته بأنه يريد ترك أمواله لابنتيه. ولكن من يصدقهما في هذا النظام الأبوي؟ فلا يوجد عقد أو مستند به توقيعه يؤكد هذا الأمر، حتى هو نفسه تأخر في اتخاذ خطوة حقيقية طويلاً حتى وافته المنية، ليكون موته بمثابة خلخلة العائلة وكشف هشاشة العلاقات فيها، إذ يتعلق استقرارها بوجود رجل على قيد الحياة.
موت الأب يحرر الشقيقتان من سلطة النظام الأبوي المتصدعة "مؤقتاً"، فبرحيله تسعى نورا ومريم تحديداً نحو خلخلة هذا النظام وقلب مركزية العائلة وسلطتها الذكورية، فالأختان هنا يقفان أمام الميراث، لا كحقّ مالي اقتصادي، بقدر ما هو إثبات أحقية في حصولهما على السلطة: أن يُعترف بصوتهما، حتى وإن كان ذلك عن طريق حيلة مقلقة وطريفة.
رام الله مدينة الهروب والاختناق
في لحظة ذروة انفعال وسخط تسأل مريم بمرارة: هل عليّ أن أنتظر تحرير فلسطين حتى أطلب الطلاق؟ هذه الجملة تفكك العلاقة بين المدينة كوطن والمدينة كجسد اجتماعي، فعلى الرغم من النضال والمحاولات المستمرة من رفض الاستعمار، فالتحرر الذي تريده مريم هنا ليس تحرير الوطن، بل تحرير المرأة من طبقات القمع المتراكمة، سواءً من الأب أو الزوج أو الأبن أو حتى الدولة والتشاريع القانونية. تصور ليلى عباس رامَ الله كونها مكاناً تسجن فيه الأحلام، أقربها على ذلك حق المرأة في الطلاق، أو نصيب متساوٍ من الميراث، حب يعلن أمام الكل ولا يتم الاكتفاء به في الظلام، مثل علاقة نورا بالرجل الذي اختارته حبيباً. المدينة لا تقع تحت احتلال العدو فقط، إنما كل امرأة هي محتلة داخل أركان المدينة.
عندما تنتقل المخرجة بكاميرتها داخل المدينة نرى أن كل موقع فيها يصل بنا إلى جدار، سواءً في البيوت أم الشوارع أم المصارف أم أماكن العمل، حتى الشارع المفتوح يحيط به الظلام وأصوات الكلاب النابحة من كل مكان، فضلاً عن تعطل السيارة به. حولت المخرجة رامَ الله إلى فضاء يعبّر عن الاختناق والتوتر والخذلان من كل زاوية. هذه المدينة مكان لا تتحقق فيه الأحلام، حتى الأحلام الشخصية البسيطة جداً. وبسبب توتر الشقيقتَين من خطتهما زادت المدينة من خفقان قلبيهما وإثارة قلقهما، فحركة الكاميرا كانت تقترب من الدوار.
رام الله مدينة المقاومة بالتأكيد، فحتى إن كان اهتمام المخرجة الرئيسي في عرضها للفيلم هو قضايا الفرد الخاصة، فهذا لم يمنعها من عرض فكرة المقاومة كحدث عابر لا تقف عنده كثيراً وكأنه حدث متكرر في الحياة اليومية لجميع الشباب، حيث تمر العربة سريعاً بجوار مظاهرة شبابية ضد الاحتلال تجد فيه نورا ابن شقيقتها يتظاهر، فتخبره بالعودة للمنزل سريعاً.
ومن الذكاء عدم تعمق أو زيادة مساحة هذا المشهد، فهي تمنح وزناً سردياً للحدث دون أن تسلط كل الأضواء عليه، فتجعل من فيلمها، فيلماً متكرراً عادياً. هنا نرى رام الله كما يراها أهلها، أو كما كان يراها أهلها، ذلك أن أغلب مشاهد الفيلم قد تم تدميرها خلال السنتين الماضيين، والفيلم كان قد انتهى تصويره قبل الأزمة الحالية.
منظومة الخذلان الذكوري
مشاهدة الشخصيات الذكورية في الفيلم هي أقرب لرحلة البحث عن رجل جيد؛ فالرجل هنا لا يتجلى كعدوّ تقليدي بصورة سطحية، ولكن هناك دقة في كتابة الشخصيات الذكورية والتي تمثلت في الأب، الزوج، الأخ، الخال والحبيب، فكل منهم أسهَمَ في خذلان نورا ومريم بصور مختلفة، سواءً بالحضور أم الغياب أم العجز؛ صور تؤكد على خلان النظام الأبوي دون خطب وشعارات.
يمكن اعتبار الأب هو الشخصية الذكورية الألطف، رغم غيابه بالموت، إلا أن واقعة أفعاله وحدثَ موتِه كانوا حاضرين طوال عرض الفيلم، الذي تدور أحداثه خلال يوم واحد، فرغم نيته في توزيع تركته، إلا أنه ورط ابنتيه في معركة أخلاقية ضد القانون والشرع بسبب الكسل أو الخوف أو عدم تقديره الكافي لعنصر الزمن. فموت الأب لم يكن نهايته فقط، بل انهيارَ وهمِ السلطة الأبوية التي يفترض أن يسودها العدل لا التميز مع وجود أخ غائب.
الأخ على الرغم من غيابه الجسدي، إلا أنه يسيطر على الحكاية؛ فنحن لا نراه طوال الفيلم، لكننا نعلم أن له إرثاً مضاعفاً لكونه ذكراً، فضلاً عن نظرته السلبية تجاه حياة شقيقتَيه؛ فعند معرفته برغبة شقيقته مريم في الطلاق، لم يُعِرها أي اهتمام حقيقي، بل ولم يستمع لها أو يتفهم حقيقة مشاعرها، ولم يساند شقيقته نورا بالسفر إلى الخارج رغم علمه بأنه حلمها المميّز. إنه أخ بالاسم فقط، ولكن لا علاقة حقيقية له مع الأخوات. تورطنا المخرجة أيضاً في مسألة البنية الشرعية لتوزيع الثروة، ومعرفة من هو الأحق في الوصاية.
هل عليّ أن أنتظر تحرير فلسطين حتى أطلب الطلاق؟… جملة تختصر صراع المرأة الفلسطينية بين وطن محتل وجسد محاصر بقوانين المجتمع
يمثل زوج مريم نموذجاً غير مرغوب فيه أيضاً، لكنه حقيقي: زوج يبحث عن سعادته خارج المنزل بدلاً من أن يصلح الخراب الداخلي داخل منزله وعلاقته السيئة بابنه المراهق، وعلاقته الهشة بزوجته. ترصده الكاميرا وهو بالكاد ينظر إليها أثناء الحديث؛ يغضب ويحطم زوجته بالكلمات، ويسحب منها طاقتها بصورة مستمرة على مدار زواجهما. وعندما نفدت الطاقة، قرر البحث عنها بالخارج. حتى الحبيب الذي اختارته شقيقتها نورا هو أيضاً زوج خائن، لهذا يخاف من أن يورط نفسه معها، بل ويقوم بمعايرتها عند الحديث.
أما الخال فهو الأقرب للمنطق في تجسيده للموقف الذكوري التقليدي، فبرغم أنهم أبناء شقيقته، إلا أنه يتضامن ضمنياً مع الشرع في أحقية الأخ في حصوله على ضعف الميراث. إنه الوجه الأبوي للدين، الوجه الذي يميز الذكر مقابل النساء، مهما كانت حاجتهن للمال، سواءً اقتصادياً أم أخلاقياً، فكل الشخصيات الذكورية في الفيلم تمثل منظومة الخذلان اليومي. إنه خذلان مضحك، فالفيلم ليس سوداوياً، بل سيضحكك في مواقف ويصيبك بالتوتر في مواقف أخرى.
جماليات التوتر البصري
يعتمد الفيلم على صورة بصرية مقتصدة في بناء التوتر وكشفه، فلا تلجأ المخرجة إلى الموسيقى التصويرية الصاخبة، بل تهتم بالتكوين، وأماكن الشخصيات في الكادر، واستخدام الصمت كلغة حوار في مشاهد لا تقل أهمية عن الكلام، ففي مشهد مصارحة نورا لشقيقتها مريم بخطتها، تزج بهم المخرجة داخل نافذة صغيرة داخل المنزل تفصل بين غرفة الطعام والمطبخ، فنجدهما داخل النافذة محصورتين كلياً داخل الكادر، سواءً من غرفة الطعام الممتلئة بالأثاث والجدران أم النافذة التي تحدد وجودهما وتؤكد بصرياً على تورطهما وسجنهما داخل هذه المنظومة. هكذا تخلق المخرجة تجسداً بصرياً لوضعهما دون الحاجة للتصريح بذلك.
تجسّد المخرجةُ بصرياً العتمةَ الأخلاقية التي تغرق فيها الشقيقتان عبر مشهد مواجهة حبيب نورا، حيث تتكثّف الإضاءة الخافتة وتسيطر درجات الرمادي والأسود على المشهد، كامتداد لحالة الانكسار الداخلي. وعندما تطلب منه تقليد صوت الأب عبر الهاتف، نراه يتراجع خطوة إلى الخلف؛ تراجع لا يعبّر عن رفض لحظة عابرة فحسب، بل عن انسحاب كامل من حياتها. في هذه اللحظة، تختار المخرجة بوعيٍ ألا تلاحق الكاميرا الرجلَ، بل تثبّتها على وجه نورا: وجهٌ لا ينهار بالبكاء ولا يصرخ، بل يتشظّى بصمت تحت وطأة الخذلان.
تشكل التجربة الأولى للمخرجة ليلى عباس علامة واعدة على أكثر من صعيد؛ إذ تنجح في ترسيخ بصمة إخراجية واضحة، وتختار بحسّ ذكي الأسلوب الأنسب لسرد حكايتها. فالكوميديا المتسللة إلى عدد من المشاهد الحوارية لا تعمل كعنصر تلطيف فحسب، بل كجسر عاطفي يقودنا إلى التعاطف مع الشقيقتين، وتقبّل خطتهما، بل مشاركتهما الأملَ في نجاحها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
