ما بدا في الأسابيع الأخيرة كأنه دعابة من خلال الإشادة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي بمجابهة غرير العسل لحيوانات أكبر منه حجماً وشراسة، يعيد النقاش القديم-الجديد حول تصور العرب لإمكانية فوز "الضعيف" على"القوي"، عسكرياً واقتصادياً ورياضياً ومن ناحية التكنولوجيا.
قد يصطدم هذا النقاش بعقبة التعميم، لأن العرب أنفسهم "كتلة غير متجانسة" ككيانات سياسية، بين دول غنية وأخرى مستقرة وأخرى نهشتها الحروب والصراعات، لكن المخيال والذاكرة الجماعيين يوحدان الكثير من هذه الشعوب، فيصبح استعمال "نحن العرب" جائزاً خصوصاً عندما تنبعث تلك الأحلام الجماعية بالحداثة والتطور وملاحقة ركب القوى العظمى.
إنجازات الحاضر وفكرة الماضي
في السنوات الأخيرة، تناسلت أحداث استثنائية، ففي العام 2022، عندما فاز المنتخب المغربي في كأس العالم على قوى كروية كبرى مثل البرتغال وإسبانيا، نما الإحساس من جديد بقدرة العرب على التغلب على من يتفوق عليهم بالإمكانيات، لكن بمجرد استئناف البطولة الوطنية المغربية لكرة القدم بعد المونديال، برزت من جديد الفوارق الشاسعة، ولم تظهر مؤشرات على إسهام إنجاز كأس العالم في صناعة كروية محلية مغربية رائدة، رغم استمرار المغرب في حصد إنجازات عالمية في هذه الرياضة.
بمجابهة غرير العسل لحيوانات أكبر منه حجماً وشراسة، يعيد النقاش القديم-الجديد حول تصور العرب لإمكانية فوز "الضعيف" على"القوي"، عسكرياً واقتصادياً ورياضياً ومن ناحية التكنولوجيا
وفي العام 2023، ساد الاعتقاد عند بعض العرب أن "حماس" قادرة على الصمود أمام إسرائيل وداعميها الكبار، رغم الفوارق الشاسعة عسكرياً وتكنولوجياً، لكن سرعان ما تبددت هذه القناعة عندما أقدمت إسرائيل على مجزرة غير مسبوقة في هذا القرن.
أما في أكتوبر 1973، قررت الدول العربية المصدرة للنفط، بقيادة السعودية، فرض حظر نفطي على الدول الداعمة لإسرائيل، وبخاصة الولايات المتحدة. كان هذا القرار تاريخياً لكونها المرة الأولى التي يُستخدم فيها النفط بهذه الفاعلية كأداة ضغط سياسي ويبقى مثالاً بارزاً في الذهنية العربية على إمكان مجابهة القوى الكبرى.
ذهنية العرب
هذا الموضوع يعيدنا دائماً إلى قصة تفوق داود على جالوت. داود، شاب واجه المحارب العملاق جالوت الذي أرعب جيشاً بأكمله وبدلاً من استخدام الأسلحة الثقيلة، اعتمد داود على مقلاعه البسيط وإيمانه. أطلق حجراً واحداً أصاب جبهة العملاق إصابة قاتلة وهكذا، أصبحت القصة رمزاً خالداً لانتصار الشجاعة والذكاء على القوة الغاشمة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمتلك العرب اليوم نفس شجاعة داود وإرادته للمواجهة الفعلية؟
يرى عبد الله القصيمي في كتابه "العرب ظاهرة صوتية" أن العرب استبدلوا الفعل بالكلام - إذ "يكتفون بالخطابة البليغة عن الانتصارات بدلاً من تحقيقها، حتى يتوهمون أن مجرد الحديث عن المجد هو المجد نفسه. يعيشون على ذكريات الماضي بدلاً من بناء المستقبل، فأصبح الكلام بديلاً مريحاً من العمل الشاق المطلوب للنهضة الحقيقية".
لكن ما الذي يفسر هذا الانفصال بين القول والفعل؟
يقدم مصطفى حجازي إجابة من منظور سيكولوجي، ففي كتابه "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، يرى حجازي أن القهر يولد مشاعر من الدونية والعجز، مما يعزز فكرة أن الضعيف لا يستطيع الفوز على القوي.
رغم ذلك، لا يوافق حجازي تماماً على الفكرة القائلة بأن القوي دائماً ما يفوز، فهو يعتقد أن القهر يمكن أن يخلق أيضاً مقاومة داخلية قد تظهر في شكل جماعات أو حركات تطالب بالحرية والعدالة، معتبراً أنه عندما يتجمع الضعفاء ويشعرون بأنهم أقوى معاً، قد يحدث تغيير حاسم يمكن أن يتغلب على القوة المستبدة.
هذه الدينامية بين القهر والمقاومة تجد تجلياتها الأوضح في السياق العربي المعاصر، إذ إن معركة الضعيف ضد القوي لا تقتصر على المستوى الخارجي - حيث ينظر العرب إلى الدول المتصدرة لمؤشرات التنمية البشرية كنموذج يُحتذى أو كخصم يُنافَس - بل تمتد إلى صراع داخلي أعمق: مواجهة المواطنين لأنظمة ترسّخت عبر عقود وأحكمت قبضتها على مفاصل الحياة، وبنت هياكل سلطة شديدة التماسك.
الربيع العربي، بغض النظر عن تباين تقييمنا لمآلاته، كان التجسيد الأبرز لهذه المعادلة الصعبة.
التحرر من عقدة المقارنة مع القوى الكبرى
الأجدى بالدول العربية أن تتحرر من عقدة المقارنة مع القوى الكبرى وأن تتجاوز النظر إليها بوصفها خصماً يُجابَه أو معياراً يُقاس عليه التقدم والتأخر، والأولى أن تنطلق من دوافع ذاتية نابعة من احتياجاتها الحقيقية وأن ترسم رؤية خاصة تلائم سياقها الحضاري، بعيداً من الانشغال بأحقاد الماضي أو استدعاء الإرث الاستعماري كمبرر دائم للعجز.
غالباً ما تستخدم الأنظمة العربية والصناعة الإعلامية الإنجازات الرياضية والانتصارات الدبلوماسية والمشاريع الضخمة مخدِّراً لإخفاء ميزان القوى الحقيقي، قبل أن تكشف تصنيفات التنمية البشرية وحقوق الإنسان والنمو الاقتصادي حجم الفجوة الفعلية.
هل سينجح العرب في تحويل الأمل إلى فعل أم سيظلون أسرى خطاب المقاومة دون امتلاك أدواتها الفعلية؟
إن كل من يُشير إلى الفوارق الموضوعية بين الطرف العربي ومنافسيه، سواء في حدث رياضي أو حرب أو معركة دبلوماسية، غالباً ما تنهال عليه اتهامات الانهزامية والخنوع، بدلاً من أن يُنظر إلى رأيه بوصفه واقعية وبراغماتية في التحليل.
وهذا يعيدنا إلى جرح حرب 1967 الذي لم يندمل بعد، حتى بعد مرور عقود، بل ازداد عمقاً حين أبدى كثير من العرب إحباطهم من مواقف دولهم تجاه حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة منذ أكتوبر 2023. إنه تفاقم لإحساس العجز عن مواجهة قوى عملاقة.
التاريخ تراكم وليس حلقات منفصلة، لذلك ستنشأ الأجيال العربية القادمة محملةً بذاكرة الهزائم. ولأنها وُلدت في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث المعلومة متاحة والصورة فاضحة، سيكون من العسير إقناعها بأن "الضعيف" قادر على هزيمة "القوي".
التحرر الحقيقي للعرب لا يكمن في الانتصار الوهمي على القوى الكبرى، بل في مواجهة الواقع بشجاعة وبناء تنمية حقيقية تنطلق من احتياجاتهم الذاتية. فبين ذاكرة الهزائم المتراكمة وأحلام الانتصارات الكبرى، يبقى السؤال الأصعب: هل سينجح العرب في تحويل الأمل إلى فعل أم سيظلون أسرى خطاب المقاومة دون امتلاك أدواتها الفعلية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



