الحرب تترك بصمتها الخفية... تراكم الرصاص واليورانيوم في عظام سكان الفلوجة

الحرب تترك بصمتها الخفية... تراكم الرصاص واليورانيوم في عظام سكان الفلوجة

حياة نحن والحقوق الأساسية

السبت 8 نوفمبر 20255 دقائق للقراءة

عانى العراق عقوداً من الحرب والأنشطة العسكرية، لا سيما في مدينة الفلوجة التي تعتبر من أكثر المدن التي تعرضت للقصف العنيف في العراق، إذ قصفت عدة مرات خلال معارك كبرى، دموية، بخاصة عام 2004 و2016.

وفي حين أن العقل يخزن الذكريات الأليمة والمشاهد القاسية الناجمة عن مشاهد الدمار والحروب، فإن الجسد بدوره يراكم آثار الحروب.

مستويات مرتفعة من الرصاص واليورانيوم

توصل الباحثون في كلية العلوم الصحية في جامعة بيردو الأميركية، إلى رصد مستويات عالية من الرصاص واليورانيوم في عظام سكان مدينة الفلوجة العراقية، وذلك ناجم عن أسلحة الحروب والذخائر الأميركية.

اتضح من خلال الدراسة التي نشرتهاEnviromental Pollution ، والتي شملت 68 شخصاً من 36 عائلة في الفلوجة العراقية، أن مستوى تركيز الرصاص في العظام بلغ 21.2 ميكروغرام لكل غرام من المعادن العظمية، كما بلغ متوسط تركيز اليورانيوم 1.4 ميكروغرام لكل غرام، والمفارقة أن هذه النسب تزيد بأكثر من 300% عن المتوسط الذي سجلته دراسات سابقة لأشخاص من دول أخرى، وتحديداً في أميركا الشمالية.

في حين أن العقل يخزن الذكريات الأليمة والمشاهد القاسية الناجمة عن مشاهد الدمار والحروب، فإن الجسد بدوره يراكم آثار الحروب

وبحسب الدراسة، فإن مصدر اليورانيوم المكتشف في عظام سكان الفلوجة ناتج من الأنشطة العسكرية، لا سيما وأن المصادر الطبيعية لليورانيوم لا يمكنها في العادة أن تعرض السكان لمستويات قابلة للقياس داخل العظام، أما بالنسبة إلى مدينة الفلوجة، فقد تمكن فريق البحث من رصد كميات قابلة للقياس لدى معظم المشاركين/ات في الدراسة، الأمر الذي يشير إلى أن التعرض لليورانيوم لدى سكان الفلوجة كان شديد الارتفاع، مقارنة بالمعدلات الطبيعية.

نساء الفلوجة يحملن آثار الحرب في عظامهنّ

من خلال جهاز التحليل الفلوري بالأشعة السينية والقدرة على رصد اليورانيوم داخل أنسجة العظام لدى البشر، كشفت الدراسة أن النساء لديهنّ مستويات أعلى من اليورانيوم في العظام مقارنة بالرجال، وذلك بسبب العوامل الفيزيولوجية وأنماط الحياة اليومية.

تعليقاً على هذه النقطة، تقول الدكتورة إلين ويلز، التي قادت الدراسة: "من خلال البحوث السابقة، نعلم أن النساء أكثر عرضة لامتصاص العناصر المشابهة للكالسيوم وذلك أثناء فترة الحمل أو خلال الدورات الهرمونية الطبيعية، الأمر الذي قد يزيد من تراكم المعادن الثقيلة في أجسامهنّ"، مرجحة أن تكون النساء في مدينة الفلوجة يتعرضن أكثر للغبار الملوث داخل المنزل بسبب التنظيف اليومي، مما قد يساهم في ارتفاع نسب التلوث لديهنّ.

في مدينة الفلوجة العراقية، يبدو أن السكان يتوارثون المعادن الثقيلة كما يتوارثون الحكايات عن الحرب والدمار، في مشهد يختصر مأساة العديد من الشعوب العربية التي تئنّ أجسادها من ندوب لم تُشف بعد

هذا وكشفت نتائج الدراسة عن مستويات أعلى من اليورانيوم والرصاص لدى الفئات الأصغر سناً مقارنة بكبار السن، وذلك يعود للاختلاف في معدلات التعرض عبر الأجيال، بحسب قول ويلز:"من المحتمل أن يكون الشباب قد تعرضوا لمصادر تلوث أشد كثافة في السنوات الأخيرة، مما جعل أجسادهم تمتص كميات أكبر من الرصاص واليورانيوم وتخزنها في العظام".

ما هي المخاطر الصحية المحتملة؟

تشير الدراسات التي أُجريت بين عامي 2012 و2014 إلى أن الأنشطة العسكرية قد تُسبب تلوثاً بيئياً كبيراً بالمعادن.

إضافة إلى ذلك، يعتبر العراق من بين آخر الدول التي توقفت عن استخدام الرصاص في الوقود، إذ استُخدم البنزين المحتوي على الرصاص بشكل روتيني حتى عام 2016 على الأقل.

وقد نشر في السابق أدلة على ارتفاع تركيزات المعادن في عيّنات التربة من الفلوجة، وبالتالي، من المرجح أن يكون سكان هذه المدينة قد تعرضوا للمعادن، بما في ذلك الرصاص واليورانيوم، لمدة طويلة.

إن ما تثيره هذه الدراسة الحديثة ليس مجرد تسليط الضوء على "التلوث البيئي" بل أرشيف حرب محفور داخل العظام، بمعنى أن السكان لا يجسدون فقط آثار الحرب التي اندلعت، بل في أجسادهم يسكن ما خلفته تلك الحروب من جسيمات معدنية ثقيلة وإشعاعية

في الواقع، يمكن أن تُسبب المعادن الثقيلة، مثل الرصاص واليورانيوم، آثاراً صحية ضارة خطيرة، بخاصة مع التعرض لفترات طويلة، إذ يعتبر أي تعرض للرصاص ساماً ويرتبط بمشاكل في النمو العصبي، والصحة العصبية العامة، وصحة القلب والأوعية الدموية.

أما بالنسبة إلى اليورانيوم، فهناك عدد أقل من الدراسات حول الآثار الصحية المرتبطة به، ومع ذلك، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى ارتباطه بالسرطان والخلل في الجهاز المناعي والتشوهات الخلقية.

تدعم هذه النتائج أبحاثاً سابقة أثبتت أن من يقومون بزيارة المناطق المتضررة من الحرب قد يكونون أكثر عرضة لخطر الإصابة بمشاكل الصحة الإنجابية، ناهيك بعددٍ لا يُحصى من المشاكل الصحية الأخرى المرتبطة بالقصف في الفلوجة الذي أعقب الغزو الأمريكي عام 2003، ثم احتلال داعش لها، هذا وقد تبيّن أن التعرض لمخلفات الحرب، الذي تفاقم بسبب نقص الفيتامينات، قد يؤدي دوراً في المشاكل الصحية، لا سيما وأن تخلص الجسم من الرصاص مثلاً يستغرق عقوداً.

وعليه، إن ما تثيره هذه الدراسة الحديثة ليس مجرد تسليط الضوء على "التلوث البيئي" بل أرشيف حرب محفور داخل العظام، بمعنى أن السكان لا يجسدون فقط آثار الحرب التي اندلعت، بل في أجسادهم يسكن ما خلفته تلك الحروب من جسيمات معدنية ثقيلة وإشعاعية.

باختصار، يمكن القول إن آثار الحرب لا تنتهي بل تبقى محفورة في عظام الناس. 

وفي مدينة الفلوجة العراقية، يبدو أن السكان يتوارثون المعادن الثقيلة كما يتوارثون الحكايات عن الحرب والدمار، في مشهد يختصر مأساة العديد من الشعوب العربية التي تئنّ أجسادها من ندوب لم تُشف بعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image