في بداية إحدى السنوات الأكاديمية الأخيرة، تحديداً في 24 أيلول/سبتمبر 2023، اقتحمت قوة خاصة إسرائيلية حرم جامعة بيرزيت واعتقلت ثمانیة طلاب، بينهم رئيس مجلس الطلبة عبد المجيد ماجد حسن، وأخربت محتويات مقر مجلس الطلبة بالكامل. وفي أيلول/سبتمبر 2024، تكرر المشهد عندما اقتحمت قوة مكونة من خمس آليات عسكرية كبيرة الحرم الجامعي، واعتدت على الحرس وصادرت محتويات مجلس الطلبة، تاركة خلفها منشورات تهديدية.
لم تكن هذه المداهمات سوى حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة؛ حيث وثقت جامعة بيرزيت تعرضها لعشرات الاقتحامات المتكررة، ويقبع العديد من طلبتها في السجون الإسرائيلية، إذ يبلغ عدد الطلبة المعتقلين من الجامعة أكثر من 80 طالباً. وتصف الجامعة هذه السياسة بأنها "سياسة ممنهجة لتخريب الحياة التعليمية في فلسطين".
هذا الواقع يعكس صورة أوسع؛ فالجامعات الإسرائيلية نفسها جزء بنيوي من آلة القمع. وعلى خلاف صورتها الرائجة كواحات ليبرالية للفكر، تكشف الباحثة مايا ويند في كتابها "أبراج العاج والفولاذ: كيف تحرم الجامعات الإسرائيلية الفلسطينيين حريتهم" أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية متغلغلة بعمق في مشروع الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. فهذه الجامعات تشارك في تطوير أنظمة الأسلحة والعقائد العسكرية المستخدمة في جرائم الحرب، وتقوم بتبرير استمرار استعمار الأراضي الفلسطينية. يمكن إجمال هذا التواطؤ المؤسسي في أربعة محاور رئيسية.
العلاقة الأمنية والعسكرية
لعقود، اندمجت الجامعات الإسرائيلية في المنظومة الأمنية والعسكرية للدولة حتى باتت امتداداً لها. منذ بدايات المشروع الصهيوني، اعتُبر تأسيس الجامعة العبرية في القدس عام 1918 -التي وضع حجر أساسها في 24 تموز/يوليو من نفس العام وافتتحت رسمياً عام 1925- خطوة استراتيجية لمنح الحركة الصهيونية موطئ قدم أكاديمياً في فلسطين.
وخلال حرب 1948، شاركت شخصيات أكاديمية من الجامعة العبرية مباشرة في العمليات العسكرية. فقد أنشأ ألكساندر كينان، طالب الميكروبيولوجيا في الجامعة العبرية، وحدة HEMED BEIT للحرب البيولوجية في شباط/فبراير 1948 بأمر من رئيس العمليات يجآيل يادين. كما عُين عالم الكيمياء الحيوية إفرايم كاتزير، من الجامعة العبرية، رئيساً لوحدة الأبحاث العسكرية HEMED في أيار/مايو 1948. هذه الوحدة نفذت عملية "Cast Thy Bread" السرية لتسميم آبار المياه بالتيفوئيد في القرى الفلسطينية والمناطق التي تستخدمها الجيوش العربية، في انتهاك لبروتوكول جنيف 1925.
تكشف الباحثة مايا ويند أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية متغلغلة بعمق في مشروع الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. فهذه الجامعات تشارك في تطوير أنظمة الأسلحة والعقائد العسكرية المستخدمة في جرائم الحرب، وتقوم بتبرير استمرار استعمار الأراضي الفلسطينية
في العقود التالية، تعمّقت الروابط مع الأجهزة الأمنية: برامج جامعية خاصة لتأهيل الضباط مثل برنامج هافاتزالوت في الجامعة العبرية لتدريب ضباط المخابرات، وبرنامج تزاميريت للطب العسكري. كما تطورت شراكات وثيقة مع مجمّع الصناعات العسكرية، حيث تتعاون جامعة بن غوريون مع شركات الأسلحة مثل إلبيت سيستمز ورافائيل عبر معهد الأمن القومي، وأسست جامعة تل أبيب مركز القوة الجوية والفضائية بالشراكة مع سلاح الجو الإسرائيلي عام 2022.
تطورت شركة رافائيل للصناعات الدفاعية من وحدة عسكرية تأسست عام 1948 باسم "جيش العلوم" (HEMED) وأعيد تنظيمها عام 1958. ولا تزال الجامعات تطوّر تقنيات عسكرية متقدمة من خلال الذكاء الاصطناعي وأنظمة الاستهداف المتطورة التي تُختبر في الأراضي المحتلة.
أما بخصوص المساهمة في إنتاج معرفة تبرّر الممارسات العسكرية، فقد طور الجيش الإسرائيلي تكتيك "الطرق على السطح" منذ 2006 لإسقاط قذائف تحذيرية على الأسطح قبل القصف الفعلي، رغم أن خبراء القانون الدولي ولجنة الأمم المتحدة وجدوا أن هذا التكتيك غير فعال ولا يمنح المدنيين وقتاً كافياً للفرار.
وهكذا لم تعد الجامعات مستقلة عن المنظومة الأمنية، بل غدت رافداً أساسياً لتطوير قدراتها التقنية والفكرية. تطوّر التعليم العالي جنباً إلى جنب مع المجمع العسكري–الصناعي، وساهمت في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الاستهداف العسكري، مما يجعلها شريكاً نشطاً يوفّر "الأدمغة" وراء القدرات العسكرية التقنية.
التخطيط الاستيطاني واستعمار المكان
منذ الانتداب البريطاني، استُخدمت الجامعات لترسيخ المشروع الاستيطاني على الأرض. كان اختيار موقع الجامعة العبرية على جبل المشارف بالقدس - التي وُضع حجر أساسها في 24 تموز/يوليو 1918 وافتتحت رسمياً في 1نيسان/أبريل 1925- مدروساً لزرع وجود أكاديمي يهودي دائم يفرض أمراً واقعاً في المدينة المقدسة. بدأت فكرة الجامعة من خلال شراء ممتلكات غراي هيلعلى جبل المشارف قبل الحرب العالمية الأولى.
بعد 1948، واصلت الجامعات الإسرائيلية خدمة خطط السيطرة على الأرض وتغيير ديمغرافية البلاد. فجامعة بن غوريون في النقب -التي تأسست في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1969 كـ"جامعة النقب" باعتراف حكومي رسمي، وأعيد تسميتها في 1973 تيمناً بديفيد بن غوريون بعد وفاته- وجامعة أريئيل في الضفة الغربية -التي تأسست عام 1982 كفرع إقليمي لجامعة بار إيلان وأُعلنت جامعة في 17 تموز/يوليو 2012 من قبل مجلس التعليم العالي في يهودا والسامرة- أُقيمتا لغرض تثبيت السيطرة الاستيطانية عبر توطين مزيد من اليهود وتقليص الوجود الفلسطيني في المنطقتين.
لم تكتفِ الجامعات برسم الخرائط، بل ساهمت في محو معالم المجتمع الفلسطيني السابق. توسعت الجامعة العبرية بعد 1967 على أراضٍ صودرت في القدس الشرقية، حيث صادرت السلطات الإسرائيلية 568 دونماً من أراضي قرية العيساوية الفلسطينية عام 1968 لصالح الجامعة العبرية. كما أُقيم حرم جامعة تل أبيب على أراضي قرية الشيخ مونّس المهجّرة، التي هُجر أهلها في 30 آذار/مارس 1948، حيث انتقلت الجامعة عام 1963-1964 إلى حرمها الحالي في منطقة "رامات أفيف" المبنية على أنقاض القرية. ولا يزال "البيت الأخضر" (ملك إبراهيم أبو كحيل، مختار القرية) الشاهد الوحيد المتبقي من القرية، والذي أصبح نادياً جامعياً دون أي اعتراف بتاريخه الفلسطيني.
كذلك سخّرت الجامعات خبراتها الأكاديمية لتكريس رواية "أرض بلا شعب" وتبرير مصادرة الأرض. وهكذا أصبحت الجامعات جزءاً من المشهد الاستيطاني ذاته، تشيّد أبراجها فوق أنقاض الفلسطينيين وتوفّر العمود الفقري المعرفي لشرعنة اغتصاب الأرض.
مشاركة الجامعة العبرية في ممارسات القمع واضحة من خلال السماح للشرطة الإسرائيلية باستخدام حرمها الجامعي لمراقبة وترهيب سكان العيساوية المجاورة، حيث سُجلت حالات استخدام مباني الجامعة كنقاط مراقبة بالكاميرات والمناظير المصوبة نحو الحي الفلسطيني.
وبذلك أدّت الجامعات الإسرائيلية دوراً مزدوجاً في مشروع القهر: دوراً فكرياً وتقنياً يوفّر الخبرة والرواية المطلوبة، ودوراً ميدانياً عبر احتلالها الحيّز المكاني نفسه. فلا عجب أن خلصت مايا ويند في كتابها "أبراج العاج والفولاذ: كيف تحرم الجامعات الإسرائيلية الفلسطينيين حريتهم" الصادر في شباط/فبراير 2024 إلى أن تلك الجامعات "مؤطرة لأغراض استعمارية" تعتمد عليها الدولة بقدر اعتمادها على جيشها.
قمع الطلبة الفلسطينيين وتقييد المعرفة
منذ 1948 واجه الطلبة الفلسطينيون داخل إسرائيل تمييزاً وكبحاً مستمراً في الجامعات. بقيت أعدادهم قليلة بفعل سياسات تمييزية هيكلية، حيث يمثل الطلاب العرب 17% من طلاب الجامعات الإسرائيلية، رغم أنهم يشكلون 21% من السكان. كما يواجهون عوائق منهجية تشمل الاختبار النفسومتري الذي يظهر فجوة ثابتة قدرها 94 نقطة لصالح الطلاب اليهود من أصل 800 نقطة، والقيود العمرية الدنيا للقبول (عادة 20-21 عاماً بعد انتهاء الخدمة العسكرية للطلاب اليهود)، والتمييز في المنح المالية المقصورة على من خدم في الجيش الإسرائيلي الذي يُمنع الطلاب العرب من الخدمة فيه.
وقد اشتدّت حملة القمع بشكل غير مسبوق منذ أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث أقدمت 36 جامعة وكلية إسرائيلية على اتخاذ إجراءات تأديبية ضد 124 طالباً فلسطينياً على الأقل، بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. تمثل الطالبات 79% من الحالات المتابعة قضائياً، وانتهت 47% من هذه الحالات بالفصل أو الإيقاف، معظمها بسبب التعبير عن التضامن مع غزة أو اقتباس آيات من القرآن الكريم.
وقد صدرت هذه الإجراءات تحت ذرائع "عدم الولاء" و"تمجيد الإرهاب"، وتمت بتأييد صريح من وزير التعليم الإسرائيلي يوآف كيش، الذي وجه رسالة رسمية للمؤسسات الأكاديمية تطالب بـ"إيقاف أي طالب أو موظف يدعم الأعمال الإرهابية الوحشية فوراً". في المقابل، لم يُعاقب أي طالب يهودي رغم انتشاره منشورات تحريضية ضد العرب، مما يؤكد أن حرية التعبير أصبحت مكفولة فقط لمن يتبنى الرواية الرسمية، أما الفلسطيني فيُجرَّم لمجرّد كلمة أو موقف.
منذ بدايات المشروع الصهيوني، اعتُبر تأسيس الجامعة العبرية في القدس عام 1918 -التي افتتحت رسمياً عام 1925- خطوة استراتيجية لمنح الحركة الصهيونية موطئ قدم أكاديمياً في فلسطين
كل ذلك خلق بيئة جامعية معادية للفلسطينيين، يُنظر فيها للطالب العربي كطابور خامس محتمل، ويكبت كثيرون هويتهم خوفاً من العقاب. لقد بات الحرم الإسرائيلي، وخاصة في زمن الحرب، انعكاساً مصغّراً للصراع؛ طرفٌ غالب له اليد العليا وصوت مسموع، وطرفٌ مغلوب مُهمَّش الصوت. ويأتي هذا القمع ضمن سياق أوسع لحرمان الفلسطينيين من حق التعليم: من منع طلاب غزة من الدراسة، إلى إغلاق جامعات الضفة خلال الانتفاضات، وصولاً إلى تدمير جميع جامعات غزة الـ12 بالكامل أو جزئياً منذ عام 2023، مع وصف اليونسكولذلك بأنه "غير مسبوق". تدرك إسرائيل أن التعليم سلاح، فتتعامل مع الطالب والأستاذ الفلسطيني كعدو ينبغي إخضاعه. وما صمت جامعاتها أحياناً ومشاركتها أحياناً أخرى إلا تكريسٌ لهذه الحقيقة المؤلمة.
ازدواجية الخطاب الأكاديمي والتملّص من المسؤولية
رغم ادعائها أنها واحة للديمقراطية وحرية الفكر، يكشف الواقعُ ممارساتِ الجامعات الإسرائيلية التمييزية الصارخة. تمنع إسرائيل طلاب غزة من الدراسة منذ عام 2000، حيث تفرض حظراً شاملاً على طلاب وأساتذة غزة من الدراسة أو زيارة الجامعات في الضفة الغربية، كما منعت عام 2007 ما يقارب 670 طالباً في غزة من متابعة التعليم العالي في الخارج. وتعرقل دخول من لا يرتضيهم الأمن من خلال قيود الحركة الصارمة.
أما بخصوص تدمير جامعات غزة، فقد التزمت معظم الجامعات الإسرائيلية الصمت المؤسسي تجاه تدمير جميع جامعات غزة الـ12 بالكامل أو جزئياً، مما حرم أكثر من 90,000 طالب جامعي من التعليم العالي. في المقابل، تكافئ هذه الجامعات من شارك في العدوان بإعفاءات ومزايا جامعية واسعة: منح مالية تصل إلى 6,000 شيكل، وإعفاء من الاختبار النفسومتري، وإعفاء من رسوم السكن الجامعي، وإعفاءات من الامتحانات النهائية.
وليس القمع داخلها انحرافاً عن "تقاليد ليبرالية" مزعومة، بل هو امتداد لدورها البنيوي في منظومة الاستعمار الاستيطاني؛ فمنذ تأسيسها استفادت تلك الجامعات من قمع الفلسطينيين وسلب أراضيهم وساهمت في إدامة الاحتلال، كما تظهر الأبحاث المفصلة لمايا ويند في كتابها "أبراج العاج والفولاذ". لذا لا يمكن إعفاء الجامعات من المسؤولية بحجة استقلالها الأكاديمي بعدما اختارت الاصطفاف مع الدولة ومشروعها على حساب القيم الجامعية العالمية.
من هنا جاءت دعوات المقاطعة الأكاديمية الدولية التي انطلقت مع تأسيس الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) في نيسان/أبريل 2004 للضغط على هذه المؤسسات المتورطة في القمع. لقد شكّلت الجامعات الإسرائيلية ركناً رئيسياً من أركان اضطهاد الفلسطينيين، حتى وهي تتظاهر بالانفتاح والموضوعية.
في المحصلة، ترسم هذه الوقائع صورة قاتمة مفعمة بالمفارقات: جامعة ترفع شعارات حقوق الإنسان وحرية الفكر لكنها تكرّس إقصاء الفلسطينيين، وتتفاخر بإنجازات علمية تحققت بفضل تعاونها الوثيق مع آلة الحرب والأمن. إنها حقاً أبراج عاجية من فولاذ، مزيج من ادعاء النبل الأكاديمي وسطوة القبضة الحديدية.
ومع ذلك يلوح بصيص أمل عبر أكثر من 1,300 أكاديمي إسرائيلي وقعوا رسالة "العلم الأسود" في أيار/مايو 2025 يدينون "جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية" المرتكبة باسمهم، وتضامن عالمي متنامٍ يدعم مقاطعة تلك المؤسسات حتى تلتزم بالعدالة. وترى مايا ويند أن تفكيك استعمار الجامعات الإسرائيلية ضرورةٌ لنيل الفلسطينيين حريتهم، وجزءٌ من النضال لاستعادة رسالة الجامعة الحقيقية: إنتاج معرفة تحرّر البشر وتكون منارة للحق بدلاً من أن تكون شريكاً في الظلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.