يوم الرابع من تموز/يوليو عام 2011، كانت ثورات الربيع العربي في أوجها، وفي خضم الأحداث المُلتهبة آنذاك، نشرت الصحف خبراً لا يتعدى المئة كلمة عن وفاة المطربة سعاد محمد.
اللافت وقتها أنّ تلك الفنانة كان من الملائم إحياؤها (فنياً) باستعادة أغنيتها "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"؛ تلك القصيدة للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، التي كانت أشهر ما يتم إلقاؤه في ميادين العالم العربي حينها. لكنّ هذا لم يحدث، فلا الأغنية استُعيدت، ولا خبر وفاة سعاد محمد شغلَ الرأي العام!
"مظلومة يا ناس"!
ولدت سعاد محمد في حي "تلة الخياط" ببيروت، لكن نظراً لتعدد عمليات الحصر السكاني التي تعرض لها لبنان خلال فترة الاحتلال الفرنسي سنجد اختلافاً على العام الذي ولدت فيه، فهناك من يقول إنها من مواليد عام 1929، بينما يرى آخرون من أبنائها أنها ولدت في شباط/نوفمبر عام 1933.
لكن المتفق عليه هو رحلة سعاد محمد إنسانياً وفنياً، فقد ذاقت مرارة اليُتم مبكراً، حين توفي والدها الشيخ محمد المصري وهي في عامها الأول، تاركاً زوجته تعيل إلى جانب سعاد ستة أبناء آخرين، وهم: مصطفى، وأحمد، وشفيق، ورضا، وشفيقة، وهدية.
قبل وفاته بسنوات قلية، سُئلَ عبد الحليم حافظ عن رأيه في سعاد محمد، فأجاب: "صوتها حلو جداً، بس فيه حاجة ناقصة. أنا مش عارفة إيه هي. صوتها فيه إحساس، لكن فيه حاجة، هل مفيش جاذبية مع الناس؟ ماعرفش، مش قادر أحط إيدي على الشيء المفقود لحد دلوقتي"!
تقول الكاتبة زينب عبد اللاه في كتابها "في بيوت الحبايب"، إن أم سعاد كانت تقوم ببعض الأعمال اليدوية مثل التطريز، بينما انخرط الأبناء الكبار في بعض الأعمال لتربية الأشقاء الأصغر.
من حُسن حظ سعاد محمد، وهي ربما المرة الوحيدة التي ستقرأ فيها جملة حُسن الحظ بجانب اسمها، أنَّ عائلتها كانت صديقة للموسيقي سعيد سلام، والد المطربة نجاح سلام، والذي كان وقتها رئيساً للدائرة الموسيقية في إذاعة لبنان، وحين رأى في سعاد حلاوة الصوت، درّبها على الغناء، واصطحبها إلى منزل الفنانة صباح، ليستمع إليها الملحن الكبير الشيخ زكريا أحمد.
حين وصلت سعاد محمد للثانية عشرة من عمرها، اصطحبها شقيقها مصطفى إلى مصر، بناء على طلب زكريا أحمد، ولسوء الحظ، ذهبت في رحلة إلى القناطر، فأصيبت بالتيفود، فاضطر شقيقها إلى العودة بها مجدداً إلى لبنان.
لم يخفت الحلم، رغم سوء الحظ، وحين أتمت الخامسة عشرة، عادت إلى مصر، لتفتح لها السينما أبوابها، حين رشحتها المنتجة آسيا داغر لبطولة فيلم "فتاة من فلسطين"، والذي كان أول فيلم عن نكبة 1948.
وبعد أربع سنوات، تم الدفع بها لبطولة فيلم "أنا وحدي" للمخرج هنري بركات، لكن ظلت سعاد محمد الذي يشهد الجميع بتفرد صوتها لا تريد إلا الغناء، فقاطعت السينما، وركّزت على الطرب، وكانت أولى أغنياتها "مظلومة يا ناس"، للشاعر محمد علي فتوح ، الذي سيصبح زوجها لاحقاً، ومن تلحين السوري محمد محسن.
باتت أغنية "مظلومة يا ناس"، بطاقة هوية سعاد محمد لدى الجمهور العربي. الجميع يُثني على صوتها، فيصفها رياض السنباطي بـ"قيثارة السماء"، ويلقبها المستمعون بشادية العرب، حتى إن البعض بالغ في مدحها، وقال إن أم كلثوم تحاربها لأنها تهدد عرش كوكب الشرق، وهي شائعة دائماً ما اقترنت بالأصوات القوية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. لكن بعيداً عن تلك الشائعة، التي يدحضها عمق العلاقة بينها وبين أم كلثوم، ظلت سعاد محمد أسيرة الشعور بالظلم الذي أقرَّ به الكثيرون، دون معرفة السبب!
لغز حيّر الجميع
قبل وفاته بسنوات قلية، سُئلَ عبد الحليم حافظ عن رأيه في سعاد محمد، فأجاب: "صوتها حلو جداً، بس فيه حاجة ناقصة. أنا مش عارفة إيه هي. صوتها فيه إحساس، لكن فيه حاجة، هل مفيش جاذبية مع الناس؟ ماعرفش، مش قادر أحط إيدي على الشيء المفقود لحد دلوقتي"!
الأمر ذاته تكرر مع الموسيقار رياض السنباطي، الذي لحّن لسعاد محمد كثيراً، وربما حلم أن يجعل منها امتداداً لتوأمه الفني أم كلثوم، لكنه هو الآخر حين سُئِل عنها في أحد لقاءاته، أجاب: "سعاد للأسف الجمهور بيسمعها وبيبقى مبسوط جداً، لكن بينساها بسرعة، ماعرفش ليه ماعندهاش شوية حظ؟ الحظ السعيد مش موجود عندها، رغم إن صوتها قادر وبيقول كل حاجة، ماعرفش أيه السر في كده"!
هناك تفسير فني حاول التأسيس له الكاتب علي الأمير في كتابه "أهل المغنى"، فقال: "البعض يُنحي باللائمة على سعاد نفسها، عندما سعت لأن تُصبح النسخة الكربونية لأم كلثوم، فراحت تغني 'الأطلال'، و'أنساك'، و'هو صحيح الهوى غلاب'، فلا هي أصبحت أم كلثوم، ولا بقيت سعاد محمد (...) حتى على مستوى الاسم، اختارت سعاد محمد المصري أن يكون اسمها المستعار فيروز، فظل اسمها سعاد، وغاب اسم فيروز عن جمهورها".
من جهتها أيضاً، عبَّرت سعاد محمد بمرارة عن عدم شهرتها بالشكل الذي تستحقه، وفي أحد لقاءاتها المتأخرة، قالت إنها تغني منذ عام 1948، ورغم مرور كل هذه السنوات لم تأخذ حقها إعلامياً.
ربما هنا حاولت سعاد محمد وضع يدها على مكمن الأزمة بأن الإعلام هو السبب، لأنه، حسبما روَت، لا يذكر اسمها إلا في أخبار لا تخص الفن، أو كما قالت: "في المجلات مابيكتبوا عني إلا قليل. ولو كتبوا عني بيقولوا سعاد محمد جابت أولاد (...) المفروض ما تقولوا عني الحاجات الخاصة (...) هي سعاد محمد بس اللي عندها أولاد؟!".
مالت سعاد!
يبدو أن اهتمام الصحافة بإنجاب سعاد محمد لم يكن في سنواتها الأخيرة فقط، ففي يوم 5 أيار/مايو من عام 1964، نشرت مجلة "الكواكب" أن "سعاد رُزِقت بتوأمين من زوجها الجديد (...) سعاد كانت في الإذاعة باستوديو 10 حين شعرت بآلام الوضع، وكانت تسجل أغنية من تلحين محمود مندور، وفجأة صرخت، وأسرع زوجها يستدعي الإسعاف، لكنها وضعت توأما في الإذاعة، ثم نُقلت إلى المستشفى لتضع الثاني"!
من المعروف أن سعاد محمد تزوجت الشاعر محمد علي فتوح خمسة عشر عاماً، وأنجبا ستة أبناء وبنات، ثم انفصلا في هدوء، وكان زواجها الثاني من المهندس المصري محمد بيبرس، وأنجبا أربعة أبناء، وبعدها تزوجت من رجل أعمال لبناني، لكن زواجهما لم يدم طويلاً، وانتهى دون إنجاب.
ربما لكثرة الزواج والإنجاب مالَ البعض لتفسير عدم الشهرة الكاسحة التي تستحقها سعاد محمد، والذي لا يبدو منطقياً. هذا ما أشار إليه الكاتب أشرف بيدس في كتابه "أبيض وأسود"، بقوله: "طَغَت الحياة الاجتماعية لسعاد محمد على مسيرتها الفنية، وحدَّدت كثيراً من مساراتها، وربما إنجابها لـ10 أطفال يفسر ابتعادها المتكرر عن الساحة الفنية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجد وقتا كافيا لمباشرة أعمالها الفنية من مقابلة مؤلفين وموسيقيين والاتفاق على الحفلات ومتابعة أعمالها السينمائية بصورة جيدة وسط هذا العدد من الأطفال، فلو كل طفل احتاج 3 سنوات رعاية فهي تحتاج إلى 30 عاماً حتى تستطيع التفرغ الكامل للفن"!
أي حظ عَثِر هذا الذي يجعل سعاد محمد تُطرب الآذان بأغنيتيها "أوعدك"، و"وحشتني" فتحقق بهما النجاح المناسب وقت صدورهما، ثم تختفي الأغنيتان، ويعودا ليكونا سبب شهرة مطربين لاحقين
ثم يُضيف أشرف بيدس معلومة، هي ربما أقرب إلى الطُرفة غير المنصفة، بقوله إن الوحيد الذي لم يلحن لها من الكبار هو محمد عبد الوهاب، وحين سُئِلَ في حديث إذاعي عن السبب، قال: "لقد حاولت معها، وكل مرة أتصل بها أجدها يا إما حامل، أو والدة جديد"!
دمعة على خد الزمن!
ليست أغنية "مظلومة يا ناس" فقط هي التي تعبر عن مسيرة سعاد محمد، ففي البدايات أيضاً غنّت واحدة من أعذب أغنياتها بعنوان "دمعة على خد الزمن"، وياله من عنوان معبر عن تلك القيثارة.
أي حظ عَثِر هذا الذي يجعل سعاد محمد تُطرب الآذان بأغنيتيها "أوعدك"، و"وحشتني" فتحقق بهما النجاح المناسب وقت صدورهما، ثم تختفي الأغنيتان، ويعودا ليكونا سبب شهرة مطربين لاحقين، فالأولى فتحت طريق وائل جسار للنجومية، والثانية باتت علامة تميز خالد عجاج.
ومن العجب أيضاً أن سعاد محمد التي لا يمر مطلع عام هجري جديد إلا وتذاع أشهر أغنياتها في فيلم "الشيماء"، لكن تظل المشكلة التي أشار إليها السنباطي قائمة: نحبها ونردد الأغنيات معها، وربما نبكي تأثراً وهي تشدو: "كم ناشد المختار ربه"، و"طلع البدر علينا"، وبعدها ينتهي الفيلم وتتركنا في سلام، وإن تذكرنا الفيلم بعدها تجول في خاطرنا صورة بطلته سميرة أحمد!
"الشيماء" صدر عام 1972، وبعده بعامين فقط، ظهرت على الساحة مطربة جديدة، رأى فيها الجميع محاولة أخيرة لتعويض سعاد محمد عما فاتها من شهرة وحظ، وهي ابنتها نهاد فتوح، التي فازت في مسابقة "ستوديو الفن" برفقة ماجدة الرومي ووليد توفيق، وصمَّمت على المضي في طريقها الفني رغم اعتراض الأم، وسجّلت أكثر من عشرين أغنية حققت نجاحاً معقولاً، فأخبرت والدتها بأنها ستفعل كل ما يجعلها تعوّض ما فات النجمة الكبيرة.
لكن بعد سنوات، اتضح لنهاد أنّ أمها كانت مُحقة في اعتراضها على دخولها مجال الطرب، وصرّحت بمرارة: "الحقيقة لما واجهت المشوار بنفسي، لقيت إنه صعب كتير، صعب لدرجة إن الواحد مش من السهل أبداً إنه يوصل، بدليل إني من 1974 لهلأ، ومخدتش فرصتي، وعِشت نفس المشكلة اللي عاشتها ماما".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.