
إيمي ناشد (22 عاماً) ، ليلي مجدي (22 عاماً) ، ورحمة محمد دسوقي (22 عامًا)، ثلاث شابات مصريات يدرسن اللغة الإسبانية في كلية الآداب في جامعة القاهرة. كان بإمكانهنّ الاكتفاء بكتابة أسمائهنّ في قوائم الخرّيجات، إلا أنهن اخترن طريقاً مختلفاً؛ أن يفكّرن في غيرهنّ، وأن يجعلن من مشروع تخرجهنّ أكثر من مجرد مطلب أكاديمي.
ومن هنا أطلقن مبادرةً فريدةً تحت اسم Señas Universales، وهو قاموس لغوي للإشارات باللغة الإسبانية، موجّه إلى فئة الصمّ والبكم، ليمنحها نافذةً جديدةً للتواصل بلغة ثالثة، تتجاوز الحواجز.
تُدرك الطالبات الثلاث أهمية اللغة التي يدرّسنها، باعتبارها واحدةً من أكثر اللغات انتشاراً في العالم. ووفقاً لتقرير صادر عن معهد "سرفانتس" الإسباني في عام 2024، يُقدّر عدد الناطقين بالإسبانية عالمياً بأكثر من 600 مليون شخص، منهم ما يزيد عن 500 مليون يتحدثونها كلغة أمّ، ما يجعلها ثاني أكثر لغة انتشاراً في العالم من حيث عدد المتحدثين الأصليين، بعد الصينية المندرينية. وتُعدّ الإسبانية لغةً رسميةً في 21 دولةً، معظمها في أمريكا اللاتينية بجانب إسبانيا، وتشهد انتشاراً متزايداً في الولايات المتحدة، حيث يُتوقع أن يتجاوز عدد الناطقين بها هناك 70 مليون شخص بحلول عام 2060.
انطلقت فكرة مشروع ‘Señas Universales‘ من سؤال بسيط: هل يستطيع الأشخاص من ذوي الإعاقات السمعية والنطقية أن يتعلموا لغة إشارة بلغة غير لغتهم الأمّ؟
شابات آمنّ بأن التغيير يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وأنّ اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل حاجة إنسانية وجسر للاندماج. من هذا الإيمان وُلدت مبادرة "Señas Universales" (لغة الإشارة العالمية)، بهدف تسهيل التواصل بين المجتمعات، ودعم دمج الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية والنطقية على المستويَين المحلي والدولي.
لا تقتصر المبادرة على كونها منصةً تعليميةً فحسب، بل تمثّل دعوةً مفتوحةً لكسر الحواجز الثقافية، وتمكين من بقيت أصواتهم مهمّشةً من أن يُسمَعوا، ومنحهم فرصةً لتعلّم لغة جديدة.
رصيف22 تحدثّ مع صاحبات المبادرة، عن بداية الفكرة. تقول إيمي: "انبثق المشروع من سؤال بسيط: هل يستطيع الأشخاص من ذوي الإعاقات السمعية والنطقية أن يتعلموا لغة إشارة بلغة غير لغتهم الأمّ، كما نتعلم نحن لغات أجنبيةً في الكلية؟ أردنا أن نتيح لهم الفرصة ذاتها".
وعن سؤالهنّ عمّا دفعهنّ لاختيار لغة الإشارة بالتحديد، تجيب رحمة: "اخترنا لغة الإشارة كمجال لمشروعنا لأننا نطمح من خلاله إلى نشر الوعي بها، وجعلها متاحةً وسهلة التعلم للجميع، ما يسهم في تحقيق رؤية أكثر شمولاً للمجتمع". وتكمل: "أما اختيارنا اللغتين العربية والإسبانية بالتحديد، فذلك لأنّ اللغة العربية هي لغتنا الأمّ، وأما الإسبانية فهي لغة التخصص التي ندرسها في قسم الترجمة في كليتنا، وهي لغة محكية في كثير من دول العالم ولغة جميلة".
الحقّ في المعرفة
وتضيف ليلى لرصيف22: "نؤمن بأنّ لغة الإشارة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان، يضمن المساواة للأشخاص ذوي الإعاقات السمعية والنطقية في التعليم والعمل. كما تؤدي دوراً محورياً في تعزيز التنوع الثقافي، إذ تمتلك كل جماعة لغوية إشارية قواعدها وتقاليدها الخاصة، ما يجعلها لغات قائمةً بذاتها، لها نحوها وصرفها الكاملان، تماماً كاللغات المنطوقة".
وتضيف: "من خلال هذا القاموس، نطمح إلى كسر حواجز التواصل، ونشر الوعي الثقافي واللغوي، بتعريف المتعلّمين على ثقافة الصمّ كلغة وهوية، وليس فقط كحالة خاصة. نريد خلق بيئة أكثر احتراماً وتفهّماً، تعزز التضامن وتدفع الأفراد لتعلُّم لغات الآخرين وفهم تحدياتهم".
وتشدد إيمي على البُعد التوعوي للمبادرة، وعلى رغبتهن في مخاطبة المجتمع بأسره للفت الانتباه إلى قضايا ذوي الإعاقات السمعية والنطقية، والاعتراف باحتياجاتهم/ نّ، وحقّهم/ نّ علينا في تعلّم لغة الإشارة، حتى لا يشعروا/ ن بالعزلة أو التهميش.
يطمح المشروع إلى كسر حواجز التواصل، وتعزيز الوعي الثقافي واللغوي من خلال تقديم ثقافة الصمّ كلغة وهوية متكاملة، لا كمجرد حالة خاصة
وتأمل صاحبات المبادرة في أن يُسهم المشروع في فتح المجال أمام تدريس لغة الإشارة العربية في الخارج، والإسبانية في الداخل، بما يعزز التفاهم الثقافي بين المجتمعات، مع الحرص على أن يكون القاموس منصّةً إلكترونيةً مجانيةً، ومتاحةً للجميع، وسهلة الوصول في أي وقت، ما يمنح المستخدمين/ ات فرصةً عمليةً للتعلّم، ويساعد على الحدّ من سوء الفهم في التواصل اليومي.
الاستثمار في اللغة
سيشكّل القاموس أيضاً وسيلة تواصل فعّالةً لأبناء وبنات المهاجرين من فئة الصم والبكم، خصوصاً في المجتمعات التي لا يتقنون لغتها المنطوقة. ومن هنا تنبع أهميته، إذ يخاطب فئةً غالباً ما تُهمَّش ولا يُلتفت إلى معاناتها.
وتوضح رحمة: "ستساعد هذه المبادرة الأطفال وأسرهم على تعلّم لغة الإشارة الخاصة بالمجتمع الجديد، ما يسهم في تسهيل التواصل مع الآخرين. كما أنّ تقديم اللغة بطريقة مبسطة ومنظّمة يساهم في تجاوز عائق اللغة المنطوقة السائدة، ويعزز فرص الاندماج، وهو حق للجميع. فكما يحتاج الشخص السليم إلى تعلّم لغة المجتمع الجديد ليعيش ويعمل فيه، فإنّ الصمّ والبكم أيضاً يستحقّون هذا الحق".
بحسب بيانات المعهد الوطني الإسباني للإحصاء (INE)، يُقدّر عدد الأشخاص الصمّ أو الذين يعانون من ضعف في السمع في إسبانيا، بنحو 1.23 مليون شخص حتى عام 2020، أي ما يعادل 2.6% من إجمالي السكان.
وتُظهر الأرقام أنّ فئة الأطفال والمراهقين تشكل نسبةً ملحوظةً، إذ تم تسجيل 8،700 طفل تتراوح أعمارهم بين عامين و15 عاماً، بالإضافة إلى 28،200 شاب/ ة بين 16 و34 عاماً، في المقابل، تمثل الفئة العمرية فوق 64 عاماً ما نسبته 74.5% من إجمالي الأشخاص المصابين بضعف السمع.
تُسهّل المبادرة على الأطفال وأسرهم تعلّم لغة الإشارة، مما يعزز التواصل والاندماج في المجتمع ، ويمنح ذوي الإعاقة السمعية حقاً أساسياً في التعبير والتواصل
أما في ما يتعلق باستخدام لغة الإشارة، فتُقدّر أعداد مستخدمي اللغة الإسبانية للإشارة (LSE)، بأكثر من 27،000 شخص، وهو رقم تضاعف خلال العقد الماضي، بنسبة نمو فاقت 100%، ما يعكس تطوراً لافتاً في الوعي المجتمعي بأهمية التعليم والدمج الاجتماعي لفئة الصمّ.
تشير أحدث نتائج "المسح الوطني للإعاقة، الاستقلالية وحالات الإعالة في المراكز" (EDAD-Centros)، الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء (INE)، في نيسان/ أبريل 2024، إلى وجود ما مجموعه 357،894 شخصاً من ذوي الإعاقة المقيمين في مراكز متخصصة في إسبانيا؛ مثل دور الرعاية والمراكز التعليمية المتخصصة ودور الرعاية، من بينهم نسبة غير محددة ممن يعانون من إعاقات سمعية.
وبرغم أنّ هذا المسح يُعدّ الأحدث من نوعه، إلا أنه لا يقدّم تفاصيل عن عدد ذوي الإعاقة السمعية المولودين خارج البلاد أو أصولهم الجغرافية، بخلاف بيانات المعهد الوطني للإحصاء (INE)، عام 2008، التي كانت قد كشفت عن أن 22،187 شخصاً من هذه الفئة وُلدوا خارج إسبانيا، ما شكّل حينها نحو 1.8% من إجمالي ذوي الإعاقة السمعية.
وتتوزع أصولهم الجغرافية على النحو التالي: 51.8% من دول أمريكا اللاتينية، 28.5% من دول الاتحاد الأوروبي، 13.3% من دول إفريقيا، و5.6% من أوروبا الشرقية. وعليه، لا تزال بيانات العام 2008 المصدر الوحيد الذي يقدّم تصوراً نسبياً عن جذور هذه الفئة، بما يشمل مهاجرين من أصول عربية، خصوصاً القادمين من القارّة الإفريقية.
المهاجرون الصمّ
تُظهر هذه النتائج أنّ فئة الصمّ وضعاف السمع من أصول مهاجرة تمثّل نسبةً ملموسةً في المجتمع الإسباني، ما يستدعي اعتماد أدوات دمج مخصصة تراعي حاجاتهم اللغوية والثقافية.
رصيف22 التقى بفاطمة، وهي أمّ لمراهق أصمّ يُدعى عبد الرحمن (15 عاماً)، أضاء على جانب حيوي من هذه التجربة. فقد انتقلت فاطمة مع أسرتها إلى مدريد قبل ستة أعوام، بحثاً عن بداية جديدة وفرص أفضل.
وبينما كانت الهجرة تحدياً للجميع، بدت أكثر قسوةً على عبد الرحمن، الذي وجد نفسه في بيئة جديدة، بلغة إشارة مختلفة تماماً عن تلك التي نشأ عليها. لم يكن عليه التأقلم مع ثقافة جديدة فحسب، بل كان عليه أيضاً أن يعيد تعلم وسيلة تواصله الأساسية، في ظل شحّ الموارد التعليمية المخصصة لفئته.
تقول فاطمة عن مبادرة "Señas Universales": "أنا سعيدة حقاً بأنّ هناك شابات فكّرن في فئة مثل فئة عبد الرحمن، فغالباً ما تُهمل هذه الفئة ولا يُلتفت إلى معاناتها أو حقوقها. عبد الرحمن مثل إخوته تماماً، من حقه أن يتعلم لغةً جديدةً، وأن تتوفر له الأدوات المناسبة لذلك. أعتقد أنّ فكرة هذا القاموس الإلكتروني رائعة، وكم كنت أتمنى لو وُجدت مثل هذه الوسائط عندما انتقلنا إلى إسبانيا، لكانت قد ساعدتنا كثيراً".
تجربة عبد الرحمن تسلّط الضوء على الحاجة العميقة لمبادرات من هذا النوع، لا تقتصر فقط على تعليم لغة الإشارة، بل تسهم في خلق فرص للانتماء والتواصل والاندماج. فالمشروع لا يكتفي بترجمة الإشارات، بل يفتح نوافذ لفهم الآخر ويُعيد الاعتبار لحق أساسي: أن يُفهَم ويَفهم، حتى وإن لم يستخدم الكلمات المنطوقة.
… والإنكليزية أيضاً
وعند سؤالنا إيمي، ورحمة، وليلى، عن تجربتهنّ مع المشروع، منذ الفكرة وحتى التنفيذ، يؤكدن أنّ الهدف لم يكن فقط مساعدة ذوي الإعاقات السمعية والنطقية على تعلّم لغة ثانية تسهّل عليهم التواصل مع الآخرين، بل أيضاً إيصال رسالة أوسع لنشر الوعي بحقوق هذه الفئة المهمّشة، ويكشفن عن رغبتهنّ في توسيع المشروع مستقبلاً ليشمل أيضاً لغة الإشارة الإنكليزية، بما يعزز من أثره على مستوى عالمي.
لم تكن هذه التجربة عابرةً بالنسبة لهنّ؛ إذ تصف إيمي هذه الرحلة قائلةً: "بعد العمل على مشروع القاموس، تغيّرت نظرتنا تماماً إلى لغة الإشارة. لم نعد نراها مجرّد بديل للّغة المنطوقة، بل لغة حقيقية، مليئة بالتعبير والعمق الثقافي. وأدركنا أن التواصل لا يعني فقط تبادل الكلمات، بل بناء جسر إنساني يتجاوز الفوارق ويُشعر الإنسان بالانتماء والتقدير".
وتختم إيمي ورحمة وليلى حديثهنّ برسالة موجهة إلى فئة الصمّ والبكم: "لكل شخص يواجه صعوبةً في إيصال صوته للعالم، نقول: الإصرار في قلوبكم يتحدث بصمت، ويصنع فرقاً لا حدود له".
الدمج بالابتكار
ما يمنح مشروع ليلى، إيمي، ورحمة، قيمةً إضافيةً هو استهدافه فئةً غالباً ما تُهمّش برغم حجمها الكبير وأهميتها المجتمعية. ففي مصر، لا تزال دراسة أُجريت عام 2007، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، تُستخدم كمصدر مرجعي، حيث تقدّر نسبة الإصابة بضعف السمع بنحو 16.02% من إجمالي السكان، وتُستخدم في البلاد اللغة المصرية للإشارة (Egyptian Sign Language - ESL)، وهي لغة إشارة مستقلّة يستخدمها أفراد مجتمع الصمّ، إلا أنها لا تحظى باعتراف رسمي من قبل الدولة حتى اليوم، كما ورد في قاعدة بيانات (DBpedia)، المستندة بدورها إلى تقرير منظمة الصحة العالمية ذاته.
أما على مستوى العالم العربي، فتُشير تقديرات منظمة الصحة العالمية في تقرير لها صدر عام 2020، إلى أنّ معدلات الإصابة بضعف السمع تتراوح بين 1.2 و18 لكل 1000 مولود حيّ، مع تسجيل نسب مرتفعة في دول مثل العراق. وتُظهر دراسات محلية أنّ أكثر من 21،000 شخص في تونس يستخدمون لغة الإشارة، بينما تُقدّر أعداد مستخدمي لغة الإشارة السعودية بنحو 100،000 شخص وفق تقارير إعلامية محلية.
ولهذا، لم يكن مشروع "Señas Universales" مجرد قاموس إلكتروني، بل كان حجر أساس لجسر أصبح وسيلةً للتواصل بين عالمين: عالم صامت يبحث عن الفهم، وآخر ناطق بحاجة إلى الإنصات. عبر اللغة الإشارية، وباللغتين العربية والإسبانية، نقلت المبادرة رسالتها بعيداً عن التعليم والتكنولوجيا، إلى قلب التواصل الإنساني.
ولم تنتظر المؤسِّسات والدول للبدء بالتغيير، بل كان التأسيس على يد شابات مصريات بحثن في زاوية جديدة تناسب روح العصر ولغته بهدف تذكير الجميع بأن لكل فرد صوتاً، وحاجةً إلى مساحة يعبّر بها عن نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.