المسنّون في خيام اللجوء الأوروبية… انتظار لا يتبدد بأقراص الأرق

المسنّون في خيام اللجوء الأوروبية… انتظار لا يتبدد بأقراص الأرق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ما الذي يدفع أمّاً في عقدها الخامس، أو رجلاً على أعتاب السبعين، إلى أن يلقيا بنفسيهما في مخاطر طرق الهجرة الملتوية وغير الشرعية؟ أليس الحلم الذي داعب من سبقوهما من مهاجرين ومهاجرات، بالخلاص من أنظمة ديكتاتورية ومفاسد اقتصادية تحول دون تحقيق الطموحات؟ أليست الرغبة في العيش في بلد حضاري تحكمه قوانين تساوي بين الناس على مسطرة العدل الواحدة، هي الدافع؟

إنها دنيا "العالم المتقدّم"، التي داعبت خيال مواطني ومواطنات "العالم الثالث" في جغرافيتهم المحروقة والمشتعلة على الدوام. إلا أنّ هذه الأحلام ذاتها، ما إنّ تحطّ رحالها في القارة الأوروبية، حتى تصطدم بصخرة الواقع "البيروقراطي" الذي يحاصر سلامتك الشخصية والنفسية، ويجبر المهاجرين/ ات، مع مرور الوقت، على تحويل مشاعرهم/ نّ إلى ضغينة، والندم على قرار الهجرة إلى الشمال.

رصيف22، التقى عدداً من المهاجرين/ ات الذين يعتقدون أنهم وقعوا في فخ الإجراءات البيروقراطية المعقدة، وأصبحوا عالقين بين قرارات المكاتب الحكومية، في انتظار تصريح أو إذن بالبقاء قد لا يأتي أبداً.

"أتناول نصف حبّة من الأقراص المنوّمة يومياً، كي أقضي ليلةً هادئةً دون معاناة الاستيقاظ المتقطع والكوابيس"

"أشعر وكأنني عالقة بين عالمين، فلا أنا في وطني ولا أنا في بلد جديد"؛ هكذا تصف إحدى السيدات السوريات البالغة من العمر 55 عاماً، حياتها في مخيمات اللجوء في هولندا، حيث مضى حالياً أكثر من سنتين بين انتظارها رفع قرار تجميد الملفات للّاجئين السوريين، وحصولها على قرار الإقامة أو ربما رفض طلبها. 

أقراص "الزوبيكلون"

"أتناول نصف حبّة من الأقراص المنوّمة يومياً، كي أقضي ليلةً هادئةً وأنام دون معاناة الاستيقاظ المتقطع والكوابيس"؛ هكذا تجيب أم عمار عند سؤالي عن حالِها، وتتابع: "ماذا عساي أقول؟ مرّ عامان لم أرَ فيهما أولادي. كلّ ليلة أحلم بأنهم مرضى، أو في حاجة إلى شيء، أو أنهم جائعون، وأنا عاجزة عن تقديم أي مساعدة لهم".

بعد وصولها إلى الأراضي الهولندية، والنجاة من مصائد غابات البلقان التي قطعتها سيراً على الأقدام، وتغلّبها على أمواج البحر العالية التي كادت أن تغرقها، تجد "أم عمار" نفسها في مواجهة هذا السؤال: هل كان الأمر يستحقّ ذلك كله؟ 

من باب التخفيف عليها من بعض الهموم، نقترح على أمّ عمار، أن تجد ما يملأ وقتها ويشعرها ببعض الراحة، مثل أن تبحث عن عملٍ مسلٍّ ومناسب لها أو حتى قضاء بعض ساعات العمل التطوعية مع مجموعة من المنظمات المحلية، إلا أنها تقاطع الاقتراح قائلةً: "منذ سنتين وأنا أتنقّل وأشارك في أعمال تطوعية، لكن في كل مرة أعود فيها وأرى باب غرفتي في المخيّم، أعود إلى حقيقة أني وحيدة، وأنّ أولادي وحيدون، ولا أعلم إلى متى سيستمر هذا الحال".

بعد سقوط بشار الأسد، في كانون الأول/ ديسمبر 2024، اتخذت هولندا خطوات عدة تتعلق بطلبات اللجوء السورية، حيث أعلنت وزيرة الهجرة الهولندية، مارجولين فابر، عن وقف مؤقت لمدة ستة أشهر لمعالجة طلبات اللجوء من المواطنين السوريين. وقالت فابر، إنّ هذا الوقف يعني أنّ دائرة الهجرة ستتوقف عن تقييم الطلبات لمدة ستة أشهر، في ظل الضبابية حول تأثير سقوط نظام بشار الأسد، وما إذا كانت العودة آمنةً للناس.

يتخوف اليوم معظم اللاجئين السوريين من زيادة مدة التجميد لطلبات اللجوء المقدمة، وربما يشكل هذا الموقف خطراً أشدّ على الفئات الأضعف ومن هم تحت سن الرشد وكبار السنّ، وذلك نتيجة زيادة الفترات المتوقعة للمّ الشمل، وتالياً سنوات من عدم الاستقرار والتفكك الأسري. 

أتألّم بلغتي

على الرغم من الجهود المبذولة لتحسين مراكز الإيواء وتوفير الخدمات بشكل دائم، إلا أنها لا تزال غير ملائمة لاحتياجات كبار السنّ، حيث يعيش العديد منهم في أماكن مزدحمة، تفتقر إلى الخصوصية أو وسائل الراحة الأساسية. يقول أبو أحمد (68 عاماً)، القادم من سوريا: "أعاني من التهاب المفاصل، لكن لا يوجد سرير طبي مناسب لي، كما أنّ الطقس البارد يجعل الألم أشدّ. الأطباء هنا لا يمكنهم فعل الكثير سوى إعطائي بعض المسكّنات".

ويتابع أبو أحمد: "أمضي أحياناً ما يقارب الساعتين في الباص من أجل الوصول إلى عيادة الطبيب، ومع ذلك تنتهي المعاينة ببعض المسكّنات وليس بحلّ جذري للمشكلة". 

هناك الكثير من الحالات المشابهة لحالة أبي أحمد، حيث ينتظر المرضى أياماً يتقلبون فيها على فراش الألم قبل الحصول على حبّة أو حبّتين من أدوية الالتهاب التي لطالما اعتادوا تناولها في دولهم، أو حتى رؤية طبيب مختصّ يعالج الداء، فقد تحصل على موعد لدى طبيب مختص ربما بعد عشرة أيام وأحياناً أكثر، وذلك لمحدودية الأطباء في أوروبا.

كما يواجه كبار السنّ، صعوبةً في تعلّم اللغة الهولندية والتواصل مع الآخرين، ما يزيد من إحساسهم بالوحدة والانعزال والعجز التام عند ترجمة بعض الرسائل البريدية أو وصف حالة مرضية، في غياب القدرة على التواصل، ما يعيق اندماجهم في المجتمع، حيث يشكّل الإحساس بالعزلة أيضاً أحد أكبر التحديات التي تواجه كبار السنّ اللاجئين إذ ويجدون أنفسهم في بيئة جديدة، بلا أصدقاء أو عائلة. 

يتحسر أبو أحمد: "في بلدي، كنت أقضي يومي مع الجيران وأقربائي. هنا، لا أحد يعرفني، ولا أعرف أحداً. لكن والحمد لله نحاول أن نبني صداقات جديدة لنا في مراكز اللجوء، كوننا كلنا نعاني من الوجع نفسه".

يواجه كبار السنّ صعوبة في تعلّم اللغة الهولندية، مما يعيق تواصلهم مع الآخرين ويُفاقم شعورهم بالعزلة والعجز

ويختم أبو أحمد تصريحاته لرصيف22، قائلاً: "لا أريد سوى أن أمضي أيامي الأخيرة بسلام مع عائلتي. لا أريد أن أموت هنا، في انتظار ورقة". هكذا يجيب أبو أحمد عند سؤالي إياه عن مطالبه، فمع تفاقم الأزمة وزيادة عدد طلبات اللجوء وتوقف البت بالطلبات، أصبح من الضروري إعادة النظر في آليات التعامل مع الفئات الهشة مثل كبار السن، وربما توفير مراكز رعاية مناسبة لهم، وضمان لمّ شمل أسرهم بسرعة. هذه ليست مجرد مطالب إنسانية، بل حقوق يجب أن تُكفل من قبل الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمعات المستضيفة، لضمان حياة كريمة لكبار السنّ، حتى لا يكون انتظار ورقة هو آخر ما يشغل بالهم في سنواتهم المتبقية.

"النخوّة" لا تكفي

بدورها، توضح تماضر جروس، المسؤولة الاجتماعية عن اللاجئين في مخيمات اللجوء، في حديثها إلى رصيف22، أنها وزملاءها يتعاملون مع كبار السن من خلال زيارتهم بشكل يومي للاطمئنان عليهم. وتشير إلى أنّ المجتمع العربي يوفر ما تصفه بـ"النخوة" لمساعدة كبار السنّ، وهي قيمة ذات جذور ثقافية في المجتمعات العربية التي تبجّل كبار السنّ، وتغمرهم بالاحترام والعطف.

كما تلفت تماضر، إلى أنّ بعض كبار السنّ، نتيجة الاكتئاب وعدم تقبّل الواقع الجديد، قد يلجؤون إلى إدمان الكحول أو المخدرات، ويميلون إلى الانعزال عن محيطهم الثقافي الداعم.

وفي ما يتعلق بالحلول المقترحة للتعامل مع أزمة كبار السنّ من اللاجئين/ اللاجئات، تقترح تماضر: "أنا أؤيد إعطاء أولوية أكبر لتأمين السكن السريع للمسنّين، خاصةً أنّ هناك منازل مخصصةً لهم في هولندا تُصبح شاغرةً عند انتقالهم إلى دور الرعاية. وربما تسهم الأنشطة الترفيهية في تخفيف العبء النفسي عنهم، كونها تساعدهم على التفاعل والاستمتاع بوقتهم. كما أحبّذ الاستمرار في زيارتهم والاهتمام بهم، لأنّ كبار السّن يجدون صعوبةً بالغةً في طلب المساعدة".

"يشعر كبار السنّ من المهاجرين/ات بأنهم بلا فائدة، فكثير منهم عملوا طوال حياتهم، لكنهم يجدون أنفسهم اليوم بلا نشاط يُذكر سوى الانتظار"

وعن أبرز التحديات التي يواجهها كبار السنّ من اللاجئين العرب في هولندا، توضح تماضر، أنّ الإرهاق النفسي وصعوبة فهم النظام البيروقراطي الهولندي الذي يتّسم بالبطء في الردود والإجراءات، من أهم المعوقات. كما أنّ اندماجهم غالباً ما يكون بطيئاً جداً، بسبب صعوبة تعلّم اللغة، إذ يتحدث معظمهم لغتهم الأمّ أو اللغة العامّية المتداولة في بلدانهم، ما يجعل الترجمة الفورية غير فعالة في كثير من الأحيان. يُضاف إلى ذلك، أنّ فرصهم في التعليم محدودة، فهم اعتادوا العمل طوال حياتهم، لكنهم يجدون أنفسهم اليوم بلا نشاط يُذكر سوى الانتظار، ما يعمّق شعورهم بالعزلة ويزيد من صعوبة اندماجهم في المجتمع.

صدمة عاطفية 

أما عن حالتهم الصحية، فتذكر تماضر، أنّ بعض المقيمين من كبار السنّ في مراكز اللجوء يطلبون أحياناً استشارات صحيةً، وهو أمر لا يدخل ضمن صلاحيات العاملين الاجتماعيين. كل ما يمكنهم فعله هو إرشادهم إلى كيفية حجز موعد مع طبيب أو التواصل مع فرق الإسعاف الأولي عند الحاجة.

وتضيف: "قد لا يدرك كبار السنّ النظام الصحي المتّبع في هولندا، فهنا لا يمكن الحصول على الأدوية حسب الرغبة، بل هناك سياسة واضحة. يعتمد النظام العلاجي على تحفيز الجهاز المناعي ليقوم بالدفاع عن الجسم. لذلك يعتاد الأطفال منذ الصغر على تقوية مناعتهم بشكل طبيعي. فمثلاً، يُشجّعون على ارتداء السراويل القصيرة، والخروج للّعب في الهواء الطلق حتى في فصل الشتاء وشعرهم مبلل. وغالباً ما يُقال: إذا كان الشخص يعاني من ألم، يُكتفى بإعطائه الباراسيتامول، حبتين كل أربع ساعات. لا يُفضّل استخدام المسكّنات القوية".

كما تشير تماضر، إلى عقلية الاعتماد المتجذرة في الثقافة العربية لدى كبار السنّ من اللاجئين، إذ نشأوا ضمن منظومة تقوم على رعاية الأبناء لوالديهم عند الكبر. لكن عند وصولهم إلى هولندا، يواجهون صدمةً ثقافيةً بسبب النظام القائم على الاستقلالية، حيث يُتوقع من كل فرد أن يكون مسؤولاً عن نفسه بعد سّن الثامنة عشرة، حتى في الأمور المالية والتأمين الصحي.

وهذا ما يجعل من الصعب على كبار السنّ التأقلم، خاصةً في حال عدم وجود عائلاتهم معهم، ما قد يؤدي إلى شعورهم بالعزلة. وتروي تماضر، عن إحدى الحالات التي واجهتها: "رجل مسنّ أضرب عن الطعام والشراب لمدة أربعة أيام بسبب حالته النفسية الصعبة، فهو ينتظر منذ أكثر من سنتين ونصف حصوله على منزل من البلدية بعد نيله الإقامة، ليتمكن من لمّ شمل عائلته الكبيرة المكوّنة من زوجته وثمانية أطفال لا يزالون خارج سوريا. تأخّر الإجراءات وصعوبة تأمين السكن زادا من معاناته، فاختار الإضراب، لكنه توقف عنه لاحقاً بعدما أدرك أن احتجاجه لن يُغيّر شيئاً. تم إبلاغ الجهات المعنية والمنظمات، لكن لم يُقدّم له حل سريع، واقتصر الدعم على متابعة حالته الصحية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image