تعكس الحليّ الأمازيغية، بتنوع أشكالها وزخارفها ومعادنها، التفاعل المغربي بين مختلف الروافد الثقافية والحضارية، والقيم الجمالية للمجتمع، إذ تمّ العثور مؤخراً، على آثار حليّ مصنوعة من قواقع بحرية في مغارة "بيزمون" في الصويرة، وتُعدّ أقدم حليّ معروفة في العالم حتى الآن، وتعود إلى 150 ألف سنة.
وتُعرف الحليّ الأمازيغية في المغرب، بتعدد وظائفها، وأبرزها وظيفتها الجمالية المشتركة بين جميع المجتمعات ومختلف الحضارات، بالإضافة إلى الوظائف الأخرى الموازية، كالوظيفة المادية والسياسية والرمزية، وهذا ما يميّزها في الثقافة الأمازيغية.
كانت الحليّ عبارةً عن وسيلة ادّخار آمنة في المجتمع الأمازيغي، ففي سنوات الخصب والوفرة كان الأمازيغ يشترون الحليّ بشكل كبير، لتُباع لاحقاً في سنوات الجفاف والمجاعة التي عرفها المغرب.
تعكس الحليّ الأمازيغية التفاعلَ المغربي بين مختلف الروافد الثقافية والحضارية، والقيم الجمالية للمجتمع، إذ تمّ العثور مؤخراً، على آثار حليّ مصنوعة من قواقع بحرية في مغارة "بيزمون" في الصويرة
يرى الباحث في التراث عبد السلام أمارير، أنّ الحليّ في الثقافة الأمازيغية كانت لها وظائف تتجاوز ما هو جماليّ لتلامس بعض الانشغالات الأخرى؛ مثلاً في المجتمع التقليدي تستقبل نساء القرية المولود الجديد بالحليّ، إذ تُحْضِرُ كلّ منهنّ إما حبّةً من المرجان أو اللوبان (الطقش الأصفر)، أو قطعةً من الفضّة، ليتم بعدها نظم قلادة ووضعها في عنق المولود. كما أنّ الضيف في المغرب سابقاً كان يُستقبل بحليّ من الفضة بجانب التمر والحليب. ولا يقتصر حضور الحليّ على الإنسان فحسب، بل يتجاوزه إلى الحيوان، حيث يتم استقبال الدابّة الجديدة بطبقٍ من "الدوم" (النخيل القزم)، يوضع فيه إما الدقيق أو حبوب الشعير مع سوار من الفضّة والحنّاء.

ويؤكد أمارير، لرصيف22، أنّ الفضّة في الثقافة الأمازيغية عنصر مهم في طقوس عدة، وترافق الإنسان في مراحل مهمة في الحياة، كنوعٍ من التفاؤل والخير بما هو قادم. والمغاربة جميعاً يتفاءلون بالحليّ عموماً، وبالفضّة على نحو خاص. حتى القبائل المغربية غير الناطقة بالأمازيغية تشترك في هذا المعطى مع القبائل الأمازيغية، وتالياً المجتمع المغربي يحرص على استحضارها في العديد من الممارسات التي لها علاقة بطقوس الزفاف، الولادة، استقبال الضيوف وشراء الدواب، لأنّ حضور الفضّة من الناحية النفسية يخلق راحةً نفسيةً وطاقةً إيجابيةً مناسبةً لتفعيل مجموعة من المشاريع الاجتماعية والسياسية أيضاً.

وفي ما يخصّ الوظيفة السياسية للحليّ، يقول عبد السلام أمارير: "ذكرنا سابقاً أنها وسيلة آمنة للادّخار، وعليه فجميع الأشخاص الذين كانت لديهم مشاريع سياسية (القادة، شيوخ القبائل، أو السلاطين، إلخ)، كانوا ملزمين بامتلاك رصيد من الحليّ، للتمكّن من تمويل مشاريعهم السياسية، بالإضافة إلى كونها وسيلةً رمزيةً لبناء التحالفات، فالقبيلة إذا أرادت تقوية علاقاتها مع قبيلة أخرى، تستقدم معها مجموعةً من الحليّ، وتوضع أمام كبار القبيلة في أثناء النقاش".
ولهذا "نجد الفضّة في المجالس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي الخيط الناظم لمختلف الطقوس والعلاقات الاجتماعية والسياسية، وحضورها دائم لأنّه يستحضر حسن النية والمصلحة والصفاء بين مختلف المتعاقدين"، يردف أمارير.
تيسغنست (الخلالة)... القطعة الموحّدة للمغربيات
انطلاقاً من حليّ المرأة الأمازيغية، يمكننا التعرف على المنطقة والقبيلة التي تنتسب إليها، إذ تتميز الحليّ الأمازيغية بتعدد أشكالها وتصاميمها وتنوع معادنها وألوانها، وهذا الاختلاف نلمسه في مختلف القطع، من أطقم الرأس إلى أقراط الأذن، القلائد، الأساور والخواتم، لكن القطعة المميزة هي "الخلالة"، أو "المشبك"، نظراً إلى جماليتها وأصالتها العريقة، ويحتوي المتحف الوطني للحليّ في الرباط، على عشرات المشابك من مختلف مناطق المغرب.

يرى عبد السلام أمارير، أنّ الخلالة هي القطعة الموحّدة لجميع المغربيات من الريف إلى الصحراء، من ناحية التصميم، فالأخير هو نفسه سواء في الريف، أو الأطلس المتوسط، أو سوس أو في الجنوب، وحتى في الحواضر مثل فاس وطنجة... لكنها من ناحية الشكل تتمتع باختلافات زخرفية كثيرة.
ومن الناحية السيميولوجية، يرى أمارير، أنّ دراسات بعض الباحثين للحليّ الأمازيغية المغربية، وربطها بمعتقدات قديمة لبلاد الرافدين، فيها إسقاط وتجنٍّ، بحيث أنّ الباحث درس أساطير الشرق والغرب وأسقطها على ثقافتنا، أما بالنسبة له، فهو ينطلق من رؤية وتسمية الحرفيين لقطع الحليّ؛ ففي منطقة الريف مثلاً، تُسمّى الخلالة بشهد العسل (أغروم ن تيزيزوا)، بينما تسمّى أيضاً في منطقة سوس بـ"تاوكا"، أي يرقات النحل، وهذا النموذج للمشبك يشير إلى شهد العسل، كما يستلهم مشبك منطقة كلميم هو الآخر شكله من شهد العسل، وهذا الإجماع في الريف وسوس والجنوب، هو استلهام من حلاوة العسل.
ويضيف: "هناك بعض المشابك كمشبك تزنيت الذي تشكّل جوانبه بأشكال تسمّى بـ'تشرافين'، أي المحاريب التي تجمّل بها أضرحة الأولياء والمساجد، فضلاً عن بعض الأشكال الزخرفية البارزة في الخلالة المسمّاة بـ'تلقوبت' القبّة، كما نجد في مشابك منطقة درعة والجنوب الشرقي فتحتَين طويلتَين يسمّونهما 'الشرجم' (النوافذ)، وعليه فالحليّ الأمازيغية مستوحاة أيضاً من الهندسة المعمارية المحلية".
انطلاقاً من حليّ المرأة الأمازيغية، يمكننا التعرف على المنطقة والقبيلة التي تنتسب إليها، إذ تتميز الحليّ الأمازيغية بتعدد أشكالها وتصاميمها وتنوع معادنها وألوانها، وهذا الاختلاف نلمسه في مختلف القطع
وبخصوص هذا التنوع والاختلاف في الحليّ في المناطق الأمازيغية، كما في الحواضر المغربية، يقول عبد السلام أمارير، إنّ هذه التغيّرات لا تقتصر على الحليّ فحسب، بل تسجّل أيضاً على مستوى اللباس والطبخ والصناعات الخزفية، فلكل منطقة خصوصيتها في طريقة الصنع والتحضير. ويعتقد الباحث نفسه أنه لم يتم الوصول بعد إلى مرحلة فهم المبررات التاريخية والاجتماعية التي تفسر هذا التوزيع والاختلاف.
الفضّة معدن القرى... والذهب رمز الجفاف
تروَّج مجموعة من الأحكام الجاهزة والخطأ، التي سجّلها بعض الباحثين حول الحليّ المغربية، والتي أصبحت متداولةً، ومنها أنّ الذهب معدن المدن، والفضّة معدن القرى، لكون أهل الأخيرة لا يملكون الإمكانيات المادية لشراء الذهب. وفي هذا الصدد، يوضح أمارير، أنّ "المسألة لا علاقة لها بما هو مادي بل بما هو ثقافي في الأساس، لأنّ ساكنة القرى لم تكن تتفاءل بالذهب، والمجتمع المغربي عامةً يفضّل أن يمتلك الذهب كثروة، ولا يستحضره في الطقوس. ويستشهد هنا بطقس ليلة الحنّاء في المدن المغربية العريقة، حيث تحضر إسوارة من الفضّة (دبليج النقرة)، في طبق الحنّاء، لتزال بها حنّاء العروس، لأنّ المغاربة في ما مضى كانوا لا يتفاءلون باللون الأصفر (لون الذهب)، لأنّه يحيل إلى المرض ويرمز إلى الجفاف، وتالياً فاختيار الفضّة في المجال القروي له دلالات اجتماعية ورمزية لا مادية".

كما أعرب أمارير عن صدمته من بعض المراجع التي تقدّم الحليّ كملكٍ للرجل، لافتاً إلى أنّ المرأة في المجتمع المغربي كانت فاعلةً داخل البيت وخارجه، وكانت الحليّ ملكها، ففي المجتمع الأمازيغي مثلاً، وفي سوس خصوصاً، للمرأة، منذ التحاقها ببيت زوجها، الحق في ثروته من حليّ، ودواب، ومحصول ومال، والزوج ليس له الحق في انتزاع حقوقها، ولو في حالة الطلاق، خصوصاً الحليّ.
من الأخطاء المتداولة أيضاً حول الحليّ، أنّ حرفة صناعة الحليّ كانت حكراً على اليهود فحسب، وهنا يوضح أمارير أنّ اليهود المغاربة كانت لهم فعلاً مكانة مهمة جداً في صياغة الحليّ، لكن لم يكونوا وحدهم، بل بجانب المسلمين. مضيفاً أنه خلال القرن الـ15 كان في "تارودانت" حرفيون أمازيغ مسلمون، وفي فاس خلال القرن الـ16، كان هناك صُيَّاغ مسلمون ويهود للحليّ، وهذا ينطبق على مدن طنجة، تطوان ومراكش.
إذاً، وعلى الرغم من تراجع دور الحليّ الأمازيغية، ووظائفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي أصبحت تمارَس بطرائق أخرى، إلا أنّ رمزية الحليّ الفضّية لا تزال حاضرةً في بعض المناطق القروية في طقوس الزفاف والولادة، لارتباطها لدى الأمازيغ بالخير والتفاؤل بالقادم.
ويلزم الآن، ردّ الاعتبار للصائغ التقليدي لدوره في الحفاظ على تقنيات الصياغة المهددة بالانقراض، وصموده أمام الحليّ المستوردة والدخيلة على ثقافتنا، والبحث لهذه الحليّ الأمازيغية عن وظائف جديدة مسايرة للسوق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Batoul Zalzale -
منذ 7 ساعاتأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 10 ساعاتتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 14 ساعةغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ 4 أياميقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..
Toge Mahran -
منذ أسبوعاكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ أسبوعكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!