شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كما لم نرَه من قبل… الجنوب الشرقي للمغرب عام 2125

كما لم نرَه من قبل… الجنوب الشرقي للمغرب عام 2125

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 12 يناير 202510:35 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

"نذكّر السادة الركاب بأنّ القطار المنطلق من مراكش سيتوقف في مدينة طاطا’’؛ كان هذا إعلاناً صوتياً للرحلة المتجهة إلى الجنوب الشرقي للمغرب، عبر تقنية ذكية مصطنعة، وبأربع لغات مختلفة: العربية، الأمازيغية، الإنكليزية، والفرنسية. ويستغرق زمن عبور القطار فائق السرعة، بين المدينتين، ساعةً ونصف ساعة، في رحلة مريحة للغاية، ومعززة بمرافق ترفيهية وشاشات تفاعلية تمزج بين أصالة الماضي وتراثه وجرأة المستقبل.

نحن في عام 2125، حيث يقف الجنوب الشرقي شامخاً.

المغرب العميق

بينما ينطلق القطار، يستمتع الركاب بمشاهدة لوحات يتناغم فيها وهج الشمس مع بريق التكنولوجيا، بين سفوح جبال الأطلس الكبير والصغير إلى تخوم الصحراء، وتمدّ المسافرين في الرحلة بالتنوع الثقافي والطبيعي والعلمي الذي تتميز به أقاليم الجنوب الشرقي ومدنه، بوصفها أغنى المناطق المغربية، من ورزازات وتنغير إلى الرشيدية وميدلت، وصولاً إلى زاكورة.

في هذا الزمن الذي ترسم حدوده الرمال، حيث تعيد الجغرافيا اكتشاف نفسها، لم يعد هناك حضور للسردية الاستعمارية، سردية "المغرب غير النافع" التي ظلّت تلاحق المنطقة في ما مضى، كما أصبح تذكّر هذا الجيل الجديد للعزلة التي عاشتها الأجيال الماضية، يُختزل في تبسمات وضحكات، تتبعها أحاديث عابرة من قبيل:

ـ "يا للمحرومين!".

ـ "لقد مرّوا في ظروف قاسية".

ما عاد لأبناء الجنوب الشرقي وبناته شيء في هذه الحقبة الزمنية، ليناضلوا أو يترافعوا من أجله، باستثناء مشاركتهم في سباق الحضارة الإنسانية، بعد أن صارت جميع مدن الجنوب الشرقي مختبراً حيّاً للحلم والابتكار، وانتقلت قراه النائية لتصير قرى ذكيةً تربط في ما بينها المتروات، وصارت قبلةً للسياحة الثقافية والبيئية، لوجود مراكز عالمية للثقافة يتكامل فيها الإبداع المحلي والوطني مع الثقافات العالمية.

ما عاد لأبناء الجنوب الشرقي وبناته شيء في هذه الحقبة الزمنية، ليناضلوا أو يترافعوا من أجله، باستثناء مشاركتهم في سباق الحضارة الإنسانية، بعد أن صارت جميع مدن الجنوب الشرقي مختبراً حيّاً للحلم والابتكار

أحد تلك المراكز "The Deep Morocco"، "المغرب العميق"، وهو قطب كبير وضخم أُنشئ في مدينة جديدة كي يدعم ويستضيف مختلف الفعاليات الثقافية الدولية. والمثاقفة أهم شيء يحدث فيه، حيث يعيش المشاركون تجارب رقميةً وافتراضيةً، يحاكون فيها الرقصات القديمة باستخدام نظارات متطورة للواقع الافتراضي. من يرغب في التعلم، يستخدم تقنيات التعلم الآلي، بإنشاء مقطوعات جديدة مستوحاة من القديمة. نشاهد مثلاً انسجام رقصة "أحواش" مع رقصة "الباليه"، أو رقصة "أحيدوس وكناوة" مع "التانغو والفلامنغو.

نشاهد مثلاً طفلاً يستطيع الدخول إلى ساحة أحواش افتراضية من خلال نظارة ذكية، ومشاهدة تفاصيل الرقصة كما لو كان حاضراً فيها قبل ردح من الزمن. أما الآن، في القرن 22 ومطلع القرن 23، فأُفقدت بالرغم من كل هذا، الآلة والزمن بعدهما الإنساني، وأصبحت الرقصات مجرد عروض رقمية.

ثورة الثروات والتراث

لم تختفِ الواحات والنخيل في زاكورة وسكورة، بل ظلّت تكتسب أدواراً جديدةً، حيث يُستخدم التمر، إلى جانب إنتاجه الغذائي، في تصنيع مواد حيوية صديقة للبيئة، بينما تُحوَّل بقاياه إلى طاقة نظيفة، ما يجعل زاكورة نموذجاً عالمياً في الابتكار البيئي.

في الأزمان السالفة، كانت المآثر التاريخية لوحات نابضةً بترانيم التاريخ، حيث كانت المنطقة تحظى بلقب طريق الألف قصبة، من ورزازات إلى أرفود عبر تنغير، الجزء الأكبر منها راكم خلال العقود الأخيرة تعميماً مكثفاً لإعادة ترميمه، بعد أن أعيدت القصور من تحت أنقاض تاريخها وأطلالها التاريخية، بعضها أصبح متاحف وقاعات سينمائيةً، والبعض أنشئت فيه فنادق فخمة ومستشفيات متطورة، والباقي مدارس وجامعات كبرى تستقطب العديد من الطلاب، وتقدّم لهم تخصصات مختلفةً ومرتبطةً بالبيئة الصحراوية مثل دراسات المناخ وإدارة المياه والابتكار الزراعي… وهذا كله بفضل الاستثمارات الضخمة للبحث العلمي.

أحدث هذا، بمساهمة الذكاء الاصطناعي، طفرةً في عالم الفلاحة، مع ظهور روبوتات ذكية تُعرف بـ"الروبو الفلاح"، يوجّهها الفلاحون، فتحرث الأرض بحرفية، وتغرس البذور بدقة، وتحصد المحصول بكفاءة، لتضع مستقبل الزراعة في أفق جديد يتماهى مع التكنولوجيا والإبداع، وتحولت إلى أيدٍ عاملة لا تتعب.

يستحضر جيل هذا الزمن، جيل القرون الماضية الذي واجه واقعاً قاسياً، لأنّ أرضه بكل مدنها وغناها، افتقرت إلى جامعة مستقلة واحدة تحتضن أحلام أبنائه، وكانوا يضطرون إلى ترك جذورهم بحثاً عن العلم والمعرفة في مدن لا تحمل الروح نفسها.

وكما حافظت السينما على وجهتها العالمية آنذاك، حيث عُرفت ورزازات بهوليوود إفريقيا، حافظ أيضاً مركب "نور" للطاقة الشمسية، الذي أطلق عام 2016، في المدينة نفسها، على تقدّمه العالمي، كأكبر مركب للطاقة الشمسية في العالم، حيث لم تكن بعدها فقط مجرد مصدر للطاقة، بل صارت رمزاً للتعايش مع الطبيعة وإدراك أهمية استدامة الموارد، ومصدراً بديلاً لحضارة نظيفة، مبتكرة، ومتطورة تقنياً.

ولأنّ المواصلات استفادت كثيراً من هذه الثورة، تستفيد أيضاً المنطقة وساكنتها، من بواطن أراضيها عبر مناجمها الغنية بالمعادن، مثل الكوبالت، الفضة، الحديد، المنغنيز، الزنك، النحاس، الرصاص، الذهب، والبارتين… في كل من مناجم بوازار، إميني، البليدة، إميضر، وعقا، وأخرى في الراشيدية وميدلت.

وعودةً إلى قرون اكتشاف هذه الثروة، يُحكى أنها تركت المنطقة كلها متأزمةً، أمام رداءة قطاع الصحة والتعليم، وغياب مرافق وشبكة طرقية مائية-كهربائية في جلّ ربوع دواوير الجنوب الشرقي، ويُتداول أيضاً أن الأمر الوحيد الذي يتبقّى بعد أن تنثر الرياح كل شيء، هو غبار الشاحنات التي كانت تمرّ بهم وهي محمّلة بالمعادن النفيسة.

نساء لا حدود لهنّ

"كان من الممكن أن يلتفت إلى نساء المنطقة في الماضي، ولو بالقليل من الاهتمام والاحتفاء، بتضحياتهنّ في أعالي جبال الأطلس الكبير الشرقي أو في صحارى وكثبان الجنوب الصحراوي، ولو بتوفير رحلة جوية لهنّ على متن طائرة يشاهدن منها جبال المغرب، النافع وغير النافع"؛ هكذا هي ردود نساء هذا الحاضر، وهنّ يسترجعن الأرشيف الرقمي لصور نساء الماضي وكيف عشن، ومن بينها صور لنساء يحملن كومات الحطب على ظهورهنّ بين الجبال، وصور أخرى لشابات فتيات يستخدمن الحمير لحمل المياه ونقلها.

انتقلت صلابة هؤلاء النساء إلى النساء الواقفات على عتبة العصر الجديد، اللواتي لا حدود لطموحاتهنّ. لسن فقط حاضنات للتراث، بل صانعات للمستقبل. فها هنّ اليوم يتصدرن مراكز القرار في الاقتصاد، السياسة، والتعليم. وفي جامعات المنطقة، يدرسن العلوم والفنون والهندسة، ويقدن البحث العلمي في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية. كما لا تنتهي مسيرة نساء الجنوب الشرقي عند حدود العلوم والتكنولوجيا، فهنّ حافظات للأصالة، وناقلات للتراث من جيل إلى جيل.

في عالم السياسة، واصلن التقدم نحو المساواة والحقوق، وجهودهنّ لم تقتصر على حدود الوطن فحسب، بل امتدت إلى خارجها، حيث يكسبن الدعم لقضايا النساء في الشرق الأوسط وإفريقيا، ويؤثرن في كل حركة نسائية تحلم بعالم أكثر عدلاً، مبرهنات على أنّ القوة الحقيقية تأتي من الانسجام بين الماضي والمستقبل، ومن القدرة على الابتكار.

انتقلت صلابة هؤلاء النساء إلى النساء الواقفات على عتبة العصر الجديد، اللواتي لا حدود لطموحاتهنّ. لسن فقط حاضنات للتراث، بل صانعات للمستقبل. فها هنّ اليوم يتصدرن مراكز القرار في الاقتصاد، السياسة، والتعليم.

كوارث متحكّم فيها

لم تعد تتكرر كوارث الزمن القديم، كاللحظات العصيبة التي شهدتها مدن الجنوب الشرقي مثل ورزازات وطاطا اللتين عرفتا مأساةً إنسانيةً، سنة 2024 من اليوم السابع من شهر أيلول/ سبتمبر، بانهيار مبانٍ طينية، وغمر أخرى بالمياه، وانقطاع الطرق بسبب انسداد قنوات الصرف الصحي، لحقتها وفيات ومفقودون خاصةً في نواحي طاطا.

صار كل هذا مجرد ذكرى مؤقتة، قلة فقط من تتحدث عنه، بعد أن أصبحت السيول التي تجوب الأراضي مورداً ثميناً يدار بعناية ودقة، إذ تمرّ عبر قنوات مبتكرة تشبه الكبسولات، فتحافظ على المياه وتحميها من التلوث. يحدث هذا في محطات مجموعة من الوديان والأنهار، أحدها وادي درعة الذي ينبع من جبال الأطلس الكبير في المغرب في اتجاه الجنوب الشرقي حيث يلتقي نهر إميني مع وادي دادس، بينما تقوم أنظمة أوتوماتيكية بتنقيتها وتصفية الشوائب بشكل دقيق.

بعض هذه المياه النقية مخصص للشرب، حيث سيُوزع على المناطق السكنية لتلبية احتياجات السكان. أما البقية فتتدفق إلى الغابات والواحات الكثيفة، وكذلك الأراضي الفلاحية التي ستستفيد منها بشكل مستدام، لدعم الزراعة، وتغذّي الأرض بمواردها الثمينة، ولم تعد مشكلتا الفيضانات أو الجفاف مفكراً فيهما.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image