لا أستبعد وجود ألف كتاب وكتاب مصدراً لحكايات شهرزاد طوال "ألف ليلة وليلة". هضمت الراوية الأسيرة الفاتنة تراث الشرق وتمثّلته، كما شاء لها كاتبو الليالي. حكاية واحدة، مثل حكاية الجارية تودّد مع هارون الرشيد، تشغل خمساً وعشرين ليلة، وتحتاج إلى مصادر متعددة شديدة التخصص في علوم الفقه واللغة والهندسة والفلسفة. وقد سرقتني "ألف ليلة وليلة"، فأنهيت قراءتها في خمسة أشهر متصلة، وتأكد لي أن هذا العمل السردي هو الأعظم على الإطلاق، وأنه جدير "بأن يكتب ولو بالذهب".
لا تخيفني مقولة متوارثة عن حتمية موت مَن يتمّ قراءة كتاب الليالي. لقد أتممته، وأراجعه من وقت إلى آخر، وقدّرت أنني لم أكمله، فليس بوسع أحد الإحاطة به، لاختلاف مخطوطاته، وتعدد طبعاته. لم أجد في طبعتيْ الشيخ محمد قطة العدوي (القاهرة، 1836)، ووليم حي مكناطن (كلكتا بالهند، 1839) حكاية "علي بابا والأربعين حرامي"، توجد فقط إشارة إلى أربعين لصّاً، على لسان جوان الكردي، أحد أفراد جماعة أحمد الدنف، في قصة "علي شار والجارية زمرد".
طمأنني عبد الفتاح كيليطو، ولكن بعد انتهاء مغامرة لم تنته بموتي، كأنه يمدّ إليّ حبل النجاة بعد تجاوز الخطر؛ ففي كتابه "العين والإبرة"، يقول إن القارئ لن يموت بسبب الليالي، لغزارة الطبعات والترجمات والشروح والإضافات، "وسيظل هناك أبداً نصٌّ آخر من الليالي قابلاً للكشف والقراءة. إن الإدانة المتطيرة تتلاشى داخل تعرجات كتاب عُدّ، بحق، كتاباً لا نهائياً".
لا يرد في مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز "عشت لأروي" ذكرٌ لأي كتاب عربي، باستثناء "ألف ليلة وليلة"، يستدعيها بضع مرات، وقد قرأها صبياً، "في طبعة للكبار لم تحذف منها بعض الفقرات الحرجة"، وبهَرته عوالمُها، "حتى إنني تجرأت على التفكير في أن العجائب التي ترويها شهرزاد، كانت تحدث فعلاً، في الحياة اليومية، في عصرها"، وقد علمه كتاب الليالي أنه "يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها". سحره الكتاب، "وأكثر قصة أعجبتني فيه -إحدى أقصر القصص التي قرأتها وأبسطها- ستبقى تبدو لي الأفضل ما تبقى من حياتي".
سرقتني "ألف ليلة وليلة"، فأنهيت قراءتها في خمسة أشهر متصلة، وتأكد لي أن هذا العمل السردي هو الأعظم على الإطلاق، وأنه جدير "بأن يكتب ولو بالذهب"
لا يخطئ قارئ الليالي مصادر وأصولاً فارسية وهندية في حكاياتٍ يجري بعضها في الصين، وفي أماكن غير معلومة. كما ينطوي "ألف ليلة وليلة" على أصول أخرى، عربية، لم تنل اهتماماً كافياً من دارسي الليالي، منها مثلاً كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي.
دارسو الليالي قارنوا الطبعات والترجمات، ونقّبوا عن أصول غير عربية للحكايات، وتحرّوا مسارح الأحداث في بغداد والبصرة والقاهرة والإسكندرية والشام والقدس والقسطنطينية وبلاد فارس والهند، وفسّروا الانتماء العرقي والمذهبي لكاتبي الليالي وعلاقته بالتحامل على المجوس والبرامكة والزنج. أما دارسو ابن الجوزي، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي (السادس الهجري)، فربما أتعبتهم غزارة إنتاجه مصنفاتِه البالغة نحو ثلاثمئة، فانتقوا منها، ورأوا في كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" منجماً للنوادر والطرائف، وإن كان بعضها يكتنز الكثير من الحكمة، ويدعو إلى التدبر. ربما رأوا ذلك فقط في هذا الكتاب النادر.
الباحثون عن المفارقات والنكات والمساخر فاتتهم سريالية الكثير من حكايات ابن الجوزي. هذه الأجواء السريالية لا يرويها خيال قاصّ محترف، بل تطلقها ألسنة أناس يبتكرون علاقات مستحيلة، ويغيرون طبائع شخصيات، ويرفعون مقامات آخرين، وينسفون المسافات بين الأزمنة والأمكنة:
"قال بعضهم: مررتُ بسوق وقد اجتمع فيه قوم على رجل يضربونه، فقلت: ما ذنب هذا؟ قالوا: شتم معاوية بن أبي سفيان، صديق النبي صلى الله عليه وسلم ومَن صلى معه أربعين سنة على طهر واحد، وكان من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان، وسمّي خال المؤمنين لأنه كان أخا حواء من أمها وأبيها".
"قال الجاحظ: دخلت واسط، فبكّرت يوم الجمعة إلى الجامع، فقعدت، فرأيت على رجل لحيةً لم أرَ أكبر منها، وإذا هو يقول لآخر: اِلْزم السُّنة حتى تدخل الجنة، فقال له الآخر: وما السُّنة؟ قال: حب أبو بكر بن عفان، وعثمان الفاروق، وعمر الصديق، وعلي بن أبي سفيان، ومعاوية بن أبي شيبان. قال: ومَن معاوية بن أبي شيبان؟ قال: رجل صالح من حملة العرش، وكاتب النبي صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته عائشة".
"قال بعضهم: مررت على قوم اجتمعوا على رجل يضربونه، فقلت لشيخ منهم: ما ذنب هذا؟ قال: يسبّ أصحاب الكهف، قلت: ومن أصحاب الكهف؟ قال: لست مؤمناً؟ قلت: بلى، ولكني أحب الفائدة. قال: أبو بكر وعمر ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاوية هذا رجل من حملة سرادق العرش، فقلت له: يعجبني معرفتك بالأنساب والمذاهب، فقال: نعم، خُذ العلم عن أهله، فقال واحد منهم لآخر: أبو بكر أفضل أمْ عمر؟ قال: لا، بل عمر، قال: وكيف علمت؟ قال: لأنه لما مات أبو بكر جاء عمر إلى جنازته، ولما مات عمر لم يجئ أبو بكر لجنازته".
لا يجرؤ على رسم هذه العلاقات إلا مصوّر واثق، يرسم لوحاته الزيتية بالسكين لا الفرشاة، ويبدو أن هواه أموي؛ فجعل معاوية شقيقاً لحواء، وتراوحت طبيعته بين حملة العرش، وانتمائه إلى المهاجرين والأنصار معاً، وصحبته للنبي زمناً أطول من عمر الرسالة نفسها. أجواء يوجد طيف منها في حكايات "ألف ليلة وليلة": حاسب كريم الدين، وجودر بن عمر المصري، وعلي الزيبق المصري، وجلنار البحرية وابنها بدر سالم، والصائغ حسن البصري مع منار السناء، ومغامرات السندباد البحري، وغيرها.
أغلب الظن أن كاتب "الليالي" نقل حكاية الحمار والمغفّل عن ابن الجوزي، واحتفظ ببعض اصطلاحاتها مثل "المغفلين، المغفل"، التي ربما لا ترد في الليالي، كما منحها نفَسَاً مصرياً يخفف فصاحة الإمام ابن الجوزي
لكن في الليالي وفي كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" حكاية لا أدري أيهما أخذها عن الآخر. ابن الجوزي يرويها بضمير المتكلم:
"حكى لي بعض الإخوان أن بعض المغفلين كان يقود حماراً، فقال بعض الأذكياء لرفيق له: يمكنني أن آخذ هذا الحمار ولا يعلم هذا المغفل، قال: كيف تعمل ومقوده بيده؟ فتقدم فحلّ المقود وتركه في رأس نفسه، وقال لرفيقه: خذ الحمار، واذهب، فأخذه، ومشى ذلك الرجل خلف المغفل والمقود في رأسه ساعة، ثم وقف، فجذبه فما مشى، فالتفت فرآه، فقال: أين الحمار؟ فقال: أنا هو، قال: وكيف هذا؟ قال: كنت عاقّاً لوالدتي، فمُسختُ حماراً، ولي هذه المدة في خدمتك، والآن قد رضِيت عني أمي فعدت آدميّاً، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكيف كنت أستخدمك وأنت آدمي؟ قال: قد كان ذلك. قال: فاذهب فى دعة الله. فذهب ومضى المغفل إلى بيته، فقال لزوجته: أعندك الخبر؟ كان الأمر كذا وكذا، وكنا نستخدم آدميّاً ولا ندري، فبماذا نُكفِّر وبماذا نتوب؟ فقالت: تصدَّق بما يمكن. قال: فبقي أياماً، ثم قالت له: إنما شغلك المكاراة فاذهب واشترِ حماراً لتعمل عليه. فخرج إلى السوق، فوجد حماره يُنادى عليه، فتقدم وجعل فمه في أذنه، وقال: يا مدبر، عدتَ إلى عقوق أمك".
أغلب الظن أن كاتب الليالي نقل هذه الحكاية عن ابن الجوزي، واحتفظ ببعض اصطلاحاتها مثل "المغفلين، المغفل" التي ربما لا ترد في الليالي، كما منحها نفَسَاً مصرياً يخفف فصاحة الإمام ابن الجوزي القائل على لسان الزوجة: "كنا نستخدم آدميّاً"، "إنما شغلك المكاراة"، وفي مصر لا يقال: "آدمي" للمفرد، بل "بني آدم"، وصارت الخطاب بعد تمصيره: "نستخدم بني آدم"، "جلس في الدار مدة من غير شغل".
كما تحولت الحكاية من تندّر وفكاهة يصطنعها "بعض الأذكياء"، إلى سرد يغلب عليه الوعظ الشهرزادي، فالرجل عند ابن الجوزي مُسخ حماراً لعقوقه أمه. أما في الليالي فوُضعت الحكاية على لسان امرأة تجيد الحكي، ولا تعوزها التفاصيل، فتوضّح طبيعة العقوق بأنه كان سكران، وأمه دعته إلى التوبة، فضربها بالعصا، "فدعتْ عَليَّ فمسخني الله تعالى حماراً"، وحين يجد حماره في السوق لا يتكلف الفصاحة بالقول "يا مدبر"، وإنما يتعمد تقريع الحمار: "ويلك يا مشؤوم، لعلك رجعت إلى السكر وضربت أمّك. والله ما بقيت أشتريك أبداً".
حكاية بروايتين تدلل على الفرق بين إطلاق نكتة وإبداع الدراما. بين كتابة محكمة لفقيه، وسردٍ شفاهي يعنيه الوفاء بشرطه الفني. ولعل الحكاية في الليالي، المنشورة، هي النسخة الأخيرة بعد نموّها عبر أجيال من المؤلفين، قبل توثيقها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...