شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مسلسل

مسلسل "عمر أفندي"… كيف حقق النجاح بإمكانيات إنتاجية متواضعة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 18 سبتمبر 202401:25 م

كثيراً ما تحمل الأسئلة الثقافية المجرّدة (الأدبية والسينمائية)، التي تحاول تفسير اللحظة الراهنة عربياً، استنكاراً واضحاً تجاه الحنين الزائد إلى الماضي. على سبيل المثال، تسخر من انتشار الصور الفوتوغرافية القادمة من الزمن السحيق لتقول كيف كان هادئاً، كما تسخر من البرامج التي تتغزّل في فناني هذا الزمن الجميل والعصر الذهبي، وكل تلك الأوصاف التي تجعل مجرد مقارنة هذا الزمن فنياً أو غيره، مع اللحظة الحالية محض سخرية، لأنها تتجاهل تغيّر الظرف التاريخي الزماني والمكاني الذي أصبح يحتاج إلى وجهة نظر أكثر تركيباً وصعوبةً، كما تحتاج إلى إيقاع أسرع مما يجب. بينما في أوقات قليلة جداً، يأتي الحنين إلى الزمن الماضي بشكل إيجابي وخفيف يفتح مسارات اجتماعيةً وسياسيةً أو حتى عاطفيةً أعمق من المقارنة المباشرة، تماماً كما حدث في مسلسل منصة "شاهد" الأخير "عمر أفندي".

ملصق مسلسل "عمر أفندي"

يحكي المسلسل قصة عمر، الذي يعثر على سرداب سرّي يعود به إلى زمن بعيد، يكتشف من خلاله ماضياً لا يعلم عنه شيئاً، ويدفعه فضوله للعيش في حياة مزدوجة في زمانين مختلفين، يبدو فيهما بشكل لاواعٍ يعيد اكتشاف نفسه، دون أن ينشغل بالزمن ذاته، كما تحتاج تلك الأسئلة الثقافية الكبيرة. وتالياً لا يضع خطاب المسلسل الزمن الماضي والحالي في مقارنة مباشرة للتفضيل أو السخرية أكثر مما يجعل بطله يتجاوز هذا التساؤل أساساً، وربما تلك كانت إحدى نقاط القوة للعمل، فهو يتجاوز الأسئلة الكبيرة، للمضي أكثر مع بطله الذي يحاول أن يجد ذاته دون أي مقارنة بين العالمين، فيحاول أن يعيش سعيداً وربما هذا هو سؤاله الأهم.

لا يضع خطاب المسلسل الزمن الماضي والحالي في مقارنة مباشرة للتفضيل أو السخرية أكثر مما يجعل بطله يتجاوز هذا التساؤل أساساً، وربما تلك كانت إحدى نقاط القوة للعمل

المسلسل من تأليف مصطفى حمدي، الذي نجح مؤخراً في حجز مكان له بعدد جيد من الأعمال التي لاقت نجاحاً لافتاً، وبجانبه المخرج عبد الرحمن أبو غزالة في عمله الأول كمخرج. والمسلسل هو العمل الأول الذي يجمعهما معاً عموماً. وربما لذلك يمكن الوقوف هنا على نقاط الضعف والقوة للعمل الذي هرب من خلاله الصنّاع إلى النجاح بإمكانات إنتاجية متواضعة. المسلسل نال استحساناً في فترة هادئة نسبياً على مستوى الأعمال الفنية الجديدة، إلى الدرجة التي جعلت منتج المسلسل إيهاب منير، يقول إنهم قرروا التحضير لتصوير جزء ثانٍ منه: "يهمنا في التوقيت الحالي وجود سيناريو قوي يتجاوز نجاح الموسم الأول. تتم حالياً دراسة الخطوة وسبل تقديمها بأفضل صورة". لماذا حدث كل ذلك النجاح الكبير؟ نحاول هنا الوقوف قليلاً للإجابة أو التفكير في الإجابة على الأقل.

كيف يتورط المشاهد في حب البطل دون أن يشعر؟

يقرر المخرج أن يتعرف المشاهد على بطله في لقطة طويلة تفصيلية منذ الحلقة الأولى. يستيقط البطل متأخراً، بعد الغطس طويلاً في أحلامه، يهرول إلى الخارج، يأخذ تفاحته من الخادمة ويخرج سريعاً، يركب سيارته التي تفصله عن صراخ الشارع، يسمع المشاهد معه صوت الموسيقى الهادئ بينما يرى ضجيج الشارع والسيارات، فيبدو البطل منعزلاً تماماً عن الشارع والناس حوله، من اللحظة الأولى.

أبطال مسلسل "عمر أفندي"

في مقابل عمر أفندي البوهيمي، نشاهد زوجته ووالدها، يجلسان في اجتماع شركتهما الفخمة؛ تبدو هي من طبقة أرستقراطية مختلفة تماماً، وسريعاً ما يظهر التعارض بين كل منهما بالرغم من زواجهما، وسريعاً ما ندرك الخلاف بينه وبين جميع من حوله، فهو حين يدخل حياته الجديدة يترك الرسم الذي يحبه، ووالده. في مشاهد سريعة، نشاهد عمر في الدور الأرضي من المنزل الواسع غير المريح بصرياً، شارداً وحزيناً بينما زوجته تقف في بلكونة الغرفة من فوق. مشهد بصري يبدو كاشفاً من اللحظة الأولى للاختلاف الجوهري بينهما، أو تحديداً كاشفاً لغربة عمر عن عالمه الذي توقع أن يحبّه قبل سنوات.

يموت الوالد في مشهده الأول، ونكتشف أن لديه سرّاً عظيماً، هو السرداب الزمني الذي يرجع به إلى أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، تحديداً إلى العام 1943، العام الذي كان لحظةً فاصلةً سياسياً واجتماعياً عالمياً: مصر تحت الاحتلال الإنكليزي، وإرهاصات حرب عالمية أولى وتمهيد للثانية... وهو العام ذاته الذي بدأ فيه مشروع مانهاتن الذي غيّر موازين القوى بصناعة القنبلة الذرية، وظهرت فيه بوادر أول حاسوب إلكتروني وبوادر ظهور الإنسلوين، وربما بوادر اختراعات أخرى باتت من أهم الأشياء التي غيّرت الإنسان المعاصر، إيجابياً وسلبياً بالطبع.

اختار المسلسل على خلاف الحبكات الديستوبية الكئيبة، أن يصبح وسيلة تنفيس هادئةً وحالمةً وخفيفةً ومضحكةً تماماً، تتساءل عن الإنسان، ولا تتجاوزه. تحتاج تلك النظرة إلى دقة متناهية للتحرك الذي يجعل العمل أكثر عمقاً واحتكاكاً باللحظة الحالية والماضية. كيف قدّم هذه الفكرة بشكل جماهيري يحافظ على إعجاب الجمهور العام والنقّاد؟ هذا التساؤل هو الأكثر أهميةً.

بشكل عام هذا التساؤل يبدو مشغولاً دائماً بالخطاب، وسيلة النجاة في العالمين. كيف يتحدث الناس؟ وما الذي يجعل لكناتهم مغريةً للضحك، بل للغطس أكثر في المشاعر؟ لذلك كانت نقطة القوة غير المباشرة في العمل هي محاولات تفكيك مشاعر الأبطال دون الوقوف على أي شيء آخر.

وبعيداً عن النمط النسبي في الحطي دون التطور الدرامي أحياناً أو الموسيقى التي كانت في بعض المشاهد في غير موضعها، استطاع العمل الحفاظ على الخط الكوميدي غير المزعج، الذي أظهر موهبةً استثنائيةً من البطل المساعد مصطفى أبو سريع/دياسطي، وأوجد البطل أحمد حاتم في مساحة جديدة عليه يحتاج أن يتدرب عليها أكثر، ولم يهرب تماماً من السؤال الإنساني الرقيق على مدار الحلقات الـ15 من المسلسل عن الحب.

إنساني مفرط في إنسانيته

في الحلقة ما قبل الأخيرة من مسلسل "عمر أفندي"، تسأل البطلة زينات/آية سماحة، بطل العمل عمر/أحمد حاتم، أن يحكي لها عن العالم الذي جاء منه، فيخبرها بأن الناس هم ذاتهم في العالمين، ولا يوجد اختلاف شكلي بينهما، لكن الناس في عالمه أكثر استعجالاً، "يأكلون بسرعة ويعملون بسرعة ويحبّون بسرعة ومطلوب منهم تحقيق أشياء لم تُفرض عليهم".

ربما تفاوت الإيقاع المعيشي بين العالم القديم والعالم الحالي الذي اختار المسلسل أن يحكي قصته من خلالهما، هو محطة التحليل الخطابي للحديث عن المسلسل. إيقاع يمكن رصده في أغلب عناصر العمل، وتفسيره من خلاله. السرعة في عالم ما قبل العام 1940، والسرعة في عالم ما بعد العام 2020، كانت نقطة تنفيث أحب الجمهور من خلالها هذا العمل الذي يهربون به ومن خلاله من واقع أشد قسوةً على الجميع.

"عمر أفندي" مسلسل هادئ، حالم، مغرٍ تماماً للغطس في قلبه وسط لحظة سوداء، عالمياً ومحلياً. لا يبدو هذا الأمر هروباً تماماً، لأنه يطرح سؤالاً محورياً يبحث فيه البطل عن الحب ويتجاهل السياق الزمني 

قبل عامين تقريباً، كانت إحدى المقالات في موقع هافينغتون بوست التي نقلتها "إنتربرايز"، تتساءل حول الأشياء التي نفتقدها جميعاً. طرح المحرر تساؤلاً مركزياً للتحقيق: هل دمّرت التكنولوجيا الرومانسية؟ يخبرنا في إجابته أنه يمكن الجزم بأن فترة التسعينيات كانت أيام الرومانسية الأخيرة، إذ كانت تمثل العقد الأخير من الحب من دون إنترنت.

الشباب في وقتنا الحاضر والذين اعتادوا على استخدام وسائل الاتصال قد لا يمكنهم استحضار المشاعر التي كانت لدينا عندما كنا نفتقد شخصاً ولا يمكننا الاطمئنان عليه. وأصبح الشعور بالاشتياق والشغف الذي كان ينتج عن طول المسافات، أمراً مستحيلاً في عالمنا اليوم، إذ يمكنك الاتصال بمن تريد من خلال ضغطة زرّ. لذلك كان أحد الدروس التي يمكن أن نتعلمها حول الرومانسية في سنوات النضج، هو أنه بينما كان الحب على الدوام أمراً معقداً، لم تساهم التكنولوجيا في حل تلك التعقيدات بأي حال من الأحوال.

لقطة من مسلسل "عمر أفندي"

إذاً: ما الذي جعل هذا الخطاب غير المحبب أساساً موضعاً للإعجاب؟ يبدو أن ذلك التساؤل هو الأكثر إغراءً للحديث عن المسلسل. ببساطة لأنه عاطفي في المقام الأول؛ فالبطل الذي لا يجد مفرّاً من تسديد دين والده بالحفاظ على أسرة المرأة التي أحبها الوالد وتكفّل بمصروفاتها، يتورط هو نفسه في حب ابنتها. للحفاظ على الأسرة يجد عمر نفسه في موقف المسؤول عن أسرة أبسط منه مادياً بينما في عالمه الحقيقي يتورط في علاقة تتجاوزه مادياً وتجعله في عدم تكافؤ وحزيناً طوال الوقت. في العلاقة الجديدة يتصالح ذاتياً مع والده الذي رفض زواجه من الأسرة التي تفوقه مادياً، ويخلق هذا الصراع منذ اللحظة الأولى انشغالاً إنسانياً متجاوزاً الأزمنة، ويجعل الجميع متورطين عاطفياً مع البطل مثلما يتورط مع صديقه الذي يحب جارته. يخلق العمل خطاباً عاطفياً خفيفاً يمكن من خلاله الحديث اجتماعياً وسياسياً دون الوقوف تماماً أمام المقارنة المباشرة بين الأزمنة ويحمل إجابةً شاملةً: الحب هو طوق النجاة الوحيد في كل زمن.

بدت نقطة القوة الأخرى في العمل أنه بالرغم من تخيّل التكلفة الإنتاجية الكبيرة التي كان يحتاجها، فإننا نجد أن المخرج إلى جانب الإنتاج اعتمد على التنقل في أغلب مشاهد العمل بين منطقة وسط البلد الخديوية، وبين القناطر الخيرية كمناطق خارجية بسيطة التكلفة مقنعة للتخيل البصري في زمن الأربعينيات التي تدور فيها القصة. وهو ما جعل استمرار العمل فيها مغرياً إنتاجياً خصوصاً في ظل إعجاب الجمهور العام وعدد غير قليل من النقاد بالقصة ذاتها.

"عمر أفندي" مسلسل هادئ، حالم، مغرٍ تماماً للغطس في قلبه وسط لحظة سوداء، عالمياً ومحلياً. لا يبدو هذا الأمر هروباً تماماً، لأنه يطرح سؤالاً محورياً يبحث فيه البطل عن الحب ويتجاهل السياق الزمني، ويتورط فيه الجميع، لذا استطاع أن يحصد الإعجاب الجماهيري، دون الهروب من الظرف الحالي. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard