تلقيت اتصالاً لحضور ورشة عمل حول البيئة في منطقة بني تجيت، وهي جماعة قروية في إقليم فجيج شرق المغرب، وتقع على بعد 300 كلم من مدينة مكناس. لم أتردد ووافقت على الحضور والعمل، رغم التعليقات التي تلقيتها من أصدقائي حول صعوبة الجو والحرارة المفرطة هناك بالإضافة إلى صعوبة المواصلات.
لم أتمكن من العثور على حافلة تأخذني إلى هذه المنطقة مباشرة. بعد عدة محاولات واتصالات، قررت خوض التجربة، فأخذت حافلة من مدينة أكادير جنوب المغرب، حيث كنت موجودة وقتها، إلى مدينة الراشيدية، عاصمة جهة درعة تافيلالت. الرحلة كانت طويلة نوعاً ما، إذ استقللت الحافلة في الساعة السابعة مساءً ووصلت في اليوم التالي في الثامنة والنصف صباحاً. بعدها أكملت الطريق بسيارة إلى بني تجيت واستمرت الرحلة حوالي ثلاث ساعات.
لقد كان الماء متوفراً هنا بكثرة، ولكن لسوء التدبير أصبح قليلاً جداً اليوم.
هناك التقيت السيد سي عبد الكريم بوغود، رئيس جمعية دويرة السبع للتنمية المحلية، الذي كان في الورشة لعرض فيلم وثائقي عن التقنيات التقليدية لتدبير المياه النادرة بمنطقة دويرة السبع. كان اندفاع هذا السيد واضحاً جداً في عينيه. جلست معه وهو يحكي لي بكل حب عن هذه التقنيات التي يمارسها أهل القرية للحفاظ على الماء. أعجبت بكل ما تحدث عنه، وازداد اهتمامي بالموضوع عندما رأيت كيف يعمل المجتمع المحلي معاً للحفاظ على هذا المورد الحيوي.
انطلقت في اليوم التالي إلى قرية دويرة السبع، المسماة أيضاً أيت السبع، والتي تقع على بعد حوالي 30 كيلومتراً من مدينة بني تجيت (ثمانية كيلومترات منها غير معبدة). تساؤلات عديدة كانت تراودني حينها ومن بينها: "كيف يستطيع الناس العيش في ظروف قاسية كهذه؟"
"لقد كان الماء متوفراً هنا بكثرة، ولكن لسوء التدبير أصبح قليلاً جداً اليوم"، يقول عبد الكريم بحزن. ويتابع: "من فضلكم، لا تهدروا الماء، وتذكروا جيداً أنه في يوم ما كان الماء وفيراً هنا أيضاً، ولكن انظروا اليوم ماذا حدث". بهذه الكلمات عبّر بأسى عن الحال التي آلت إليها القرية.
مناخ دويرة السبع
تُعد الظروف المناخية في المنطقة قاسية للغاية، فتتأثر بتداخل المناخين المتوسطي والقاري، وتتميز بارتفاع درجات الحرارة خلال الصيف وبالبرد القارس خلال الشتاء، بالإضافة إلى وجود تفاوت كبير بين درجات حرارة الليل والنهار. تتميز التساقطات المطرية في هذه المنطقة بالقلة، فمعدلها جد هزيل مقارنة بالاحتياجات والمتطلبات المائية، بالإضافة إلى عدم انتظام التساقطات في الزمن والمجال.
وأنا أتجول في هذه القرية، انبهرت بسحرها وجمالها. شكل الجبال كان كأنه لوحة مرسومة، الألوان والمدرجات والمنازل الصغيرة والصخور بدت وكأنني أرى لوحة فنية أمامي. لكن الحرارة كانت فعلاً مفرطة، فكنت أتوق للعودة والجلوس داخل أحد البيوت.
أدوات تقسيم حصص المياه
يقول عبد الكريم: "تُشرف لجنة مكونة من أربعة أشخاص على تدبير الماء وتطبيق القانون المرتبط به. هؤلاء الأشخاص يتمتعون بدراية تامة بحصص وحقوق المستفيدين من الماء النابع من عين السبع، وكذلك على علم بممتلكاتهم من الأراضي الفلاحية. يجب أن يتميز أعضاء هذه اللجنة بالهيبة والوقار والحكمة والصبر والعدل، وأن يكونوا مرتبطين بالمسجد والأذكار. يترأس هذه اللجنة شخص ذو هيبة ووقار يحظى بثقة واحترام الجميع. هؤلاء الأشخاص غالباً ما يكونون من حملة القرآن أو لديهم ارتباط قوي بالدين".
تُشرف لجنة مكونة من أربعة أشخاص على تدبير الماء وتطبيق القانون المرتبط به. هؤلاء الأشخاص يتمتعون بدراية تامة بحصص وحقوق المستفيدين من الماء النابع من عين السبع، وكذلك على علم بممتلكاتهم من الأراضي الفلاحية
يضيف: "أما بالنسبة لأدوات تقسيم حصص الماء، فهي تتكون من عمود خشبي ومسامير وحجرة تشبه مطرقة صغيرة، بالإضافة إلى خيط لأخذ القياسات. تُستخدم هذه الأدوات لتحديد حصص ونصيب كل مستفيد، حيث يقابل كل كمية من الماء عدد معين من الأصابع، ويعتبر الأصبع وحدة للقياس. فكل جزء من الأجزاء المكونة للحصص يقابله عدد من الأصابع أو عدد من السنتيمترات، ويحدد بمسامير على العمود الخشبي الذي يجري تغييره كلما تآكل. هذا العمود يكون دائماً بجانب الصهريج ليجده كل من يأتي في الصباح لأخذ حصته".
يواصل عبد الكريم حديثه: "تتم عملية توزيع مياه السقي صباح كل يوم وقبل شروق الشمس بواسطة العمود الخشبي وتثبيت المسامير للفصل بين حصص المستفيدين، وكذلك لتحديد المدة الزمنية لكل حصة بالساعات والدقائق. عندما تبدأ عملية السقي، يفتح المستفيد الأول مجرى المياه ثم يتوجه إلى حقله، وبين الفينة والأخرى يرجع المستفيد الى الصهريج أحياناً للتأكد من نسبة المياه المتبقية".
بالنسبة للانتقال من الصيف إلى الخريف، يقول عبد الكريم: "هذه هي العملية المعقدة قليلاً."، ويضيف: "السبب في الانتقال من الصيف إلى الخريف مرتبط بالمزروعات، لأن هناك مزروعات لا تستطيع الانتظار طويلاً بين فترات السقي. مثلاً، في الصيف تكون دورة السقي كل خمسة وعشرين يوماً، أما في الخريف فتكون كل سبعة عشر يوماً. بمعنى أن المزروعات التي تكون في الصيف، مثل الذرة، لا تستطيع أن تصبر خمسة وعشرين يوماً دون سقي. لهذا السبب يتم تقليل مدة الدورة بحيث تصبح دورة سقي الذرة مثلاً، كل سبعة عشر يوماً".
باعتبار الأصبع كوحدة للتقسيم منذ القدم، وهو ما يعادل 2 سم، فعندما يكون الصهريج ممتلئاً عن آخره ينقسم إلى الأجزاء التالية المكونة لنصيب كل الحقوق:
طريقة التقسيم هذه غير معروفة على نطاق واسع في المغرب، لكن أهالي دويرة السبع يسعون لنقلها لمناطق أخرى كيف يستفيد منها الناس، ويعتبرونها تجربة نموذجية في تدبير الندرة. أما بالنسبة لكمية المياه التي يمكن توفيرها، فلا يمكن إعطاء تقدير دقيق بشكل عام، ولكن خلال فترة الخريف، هذه التقنية يمكن تساعدهم على توفير حوالي الثلث من المياه حسب قول عبد الكريم.
ضبط التوقيت
"قديماً، لم تكن هناك وفرة في الساعات أو الهواتف. كانت هناك ساعة الحائط أو ساعة اليد القديمة، وكان الناس يعتمدون على ساعة المسجد الكبيرة"، يقول عبد الكريم. ويواصل: "كان لزاماً على كل من أراد التوجه إلى الصهريج للإشراف على ضبط توقيت حصته من الماء أن يمر أولاً على المسجد لضبط عقارب ساعته على ساعة المسجد، التي كانت تعتبر المنبه والحكم بالنسبة لنا لتفادي النزاعات والاختلافات".
نظراً لقلة صبيب ماء العين، وبسبب تسرب المياه في التربة عبر السواقي، لجأ السكان منذ القدم إلى بناء صهريج لتجميع مياه العين من غروب الشمس إلى طلوعها. وبذلك يصبح صبيب الماء كافياً وجريانه قوياً يمكن أن يصل إلى أطراف شاسعة من الأراضي.
يُغلق مخرج المياه من الصهريج مع غروب الشمس، فيُعتبر سماع أذان المغرب هو المؤشر لهذا الوقت. وتتساوى الحقوق والواجبات بين المستفيدين، إذ يتم التناوب بينهم على مسؤولية إغلاق الصهريج.
الحفاظ على الموروث التقليدي
لحماية هذا الموروث التقليدي والتقنيات التي يستعملها السكان للحفاظ على الماء، تم تحرير دليل "التقنيات الغابرة لتدبير المياه النادرة". ويقول عبد الكريم: "هدفنا هو الحفاظ على هذا الموروث ونقله للأجيال المقبلة. في الأصل، يتقن الناس الكبار النظام، لذلك هذه مبادرة منا للحفاظ عليه وضمان استمراريته. جمعنا حصص كل ذوي الحقوق، وربما هناك من هاجر من القرية منذ مئة سنة ولكن حقوقهم لا تزال محفوظة هنا. حتى لو نسوها، فإن هذه الوثيقة تعتبر دليلاً مرجعياً للسكان أينما كانوا ليعرفوا حقوقهم وحصصهم وما يملكون من أراضٍ. هذا هو الهدف الأساسي، الحفاظ على النظام وحقوق الناس لأنها الأهم".
استمتعت بالمناظر التي كانت تحيط بي، حيث كان النخل يزين جانبي الطريق والمنازل الصغيرة تلمع بجمالها. كل هذه المشاهد زعزعت كياني، وأشعرتني بالأسى لما تسببت فيه التغيرات المناخية من تدهور. هنا، تبدو الحياة في حاجة ماسة للماء، كأنها صرخة تطلب الإغاثة
يضيف: "المشروع قمنا به بالشراكة مع السفارة الفرنسية هنا في المغرب، وأنشأنا هذا الدليل إلى جانب فيلم وثائقي"، ويؤكد: "لا زلت أحتفظ بالوثيقة المرجعية التي جمعتها في إطار بحث أجريته منذ أكثر من ست عشرة سنة قبل وفاة الكبار. وتعتبر الوثيقة الأم التي اعتمدتها عند تحرير هذا الدليل، وصححنا ما يجب تصحيحه لأن الناس بطبيعتها تنسى. ولا زلت أحتفظ بهذه الوثيقة في منزلي".
حياة في حاجة ماسة للماء
لن أنكر أبداً أنني ذهلت بما رأيته في تلك القرية. وفي طريقي للعودة إلى بني تجيت، كان منظر الجبال مدهشاً، مكللاً بصخورها. كانت الأرض كأنها تئن وتصرخ: "أريد الماء، أحتاج الماء". بينما كنا في الطريق، شاهدنا ثعلباً صغيراً يركض بسرعة، هارباً من السيارة إلى الجهة الأخرى من الطريق. ساورني شعور غريب، كأنني طفلة تكتشف شيئاً جديداً لأول مرة. انطلقت من حماستي، وبدأت أصرخ: "انظروا، انظروا!" وفي تلك اللحظة، همست لنفسي: "انظري كيف يمكن للطبيعة أن تؤثر في الإنسان".
في طريقنا للعودة، قررت أن أخوض تجربة جديدة وأن أختار مساراً مختلفاً. هذه المرة، بدأت رحلتي من بني تجيت إلى مدينة الرشيدية بالسيارة، ثم صعدت إلى طائرة متجهة إلى الرباط، ومن هناك استقللت حافلة إلى مدينة أكادير.
أثناء الرحلة، مررنا بدوار قدوسة، الذي يقع في جماعة وادي النعام، إقليم الرشيدية، جهة درعة تافيلالت. كنت مفتونة بمشهد سد قدوسة، الذي بدا وكأنه لوحة فنية حية. ظل الجبال، وانعكاس ألوان السماء على الماء، منحا المنظر جمالية رائعة لا تُنسى.
استمتعت بالمناظر التي كانت تحيط بي، حيث كان النخل يزين جانبي الطريق والمنازل الصغيرة تلمع بجمالها. كل هذه المشاهد زعزعت كياني، وأشعرتني بالأسى لما تسببت فيه التغيرات المناخية من تدهور. هنا، تبدو الحياة في حاجة ماسة للماء، كأنها صرخة تطلب الإغاثة. كما جاء في قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه