لم يتوقع أدهم عزقول أن يقتلع أشجار التفاح التي غرسها مع والده في بلدة قنوات شمال السويداء، لتصبح حطباً لموقده بعد خمسة عشر عاماً من الجهد والرعاية. كان يأمل بأن يأكل من ثمارها أولاده وأحفاده لكن آماله خابت، ولم تقدم شجيرات التفاح مردوداً جيداً، وبعد صبر سنوات اقتلعها كما فعل مزارعون مثله في قرى عرمان وشهبا وصلخد.
ظاهرة اقتلاع أشجار التفاح التي يزيد عمرها عن عشرين عاماً تكررت خلال الأعوام الماضية في المحافظة الواقعة جنوب سوريا، وفق عزقول (48 عاماً)، وهو مدرس موسيقى ومهتم بالزراعة من قرية قنوات، ويرى بأن هذه الظاهرة هي نهاية المطاف لتجربة زراعة التفاح في مناطق يقل ارتفاعها على 1200 متر، بعد سنوات من رعايتها دون الحصول على إنتاج زراعي جيد يعوض التعب والتكلفة.
في كل موسم كنا نواجه خسارة كبيرة مثل ثمار صغيرة أو إنتاج قليل.
يقول عزقول لرصيف22: "بعد أن نجحت زراعة التفاح في منطقة ظهر الجبل وجبل عرمان، حاول المزارعون ونحن منهم التوسع في مناطق أقل ارتفاعاً، وزرعت عشرات الدونمات من قبل الأهالي بشكل يشبه العدوى. هذا الحقل الذي تزيد مساحته عن خمسة دونمات زرعته مع والدي، وخدمنا أشجاره لأكثر من 15 عاماً، من مبيدات حشرية وأسمدة وحراثة، ودفعنا ملايين الليرات، وفي كل موسم كنا نواجه خسارة كبيرة مثل ثمار صغيرة أو إنتاج قليل أو تكرار الإصابة بحشرات لم نعهدها، ولا نحصل على العوائد المرجوة".
بدوره يتحدث المزارع نضال شروف (62 عاماً)، وهو موظف متقاعد ويمتلك عدة بساتين في قرية عرمان، أنه عاش ذات التجربة هو ومزارعي منطقة خراب عرمان التي أخذ معدل الأمطار السنوية فيها ينخفض، لدرجة أنهم في سنوات لم يحصلوا على إنتاج يعوض تكاليف المبيدات والأسمدة ولا حتى الحراثة، وكانوا أول من اتخذ قرار اقتلاع الأشجار وتبديلها بشجيرات العنب، كما كان الحال قبل زراعة التفاح.
يضيف شروف لرصيف22: "مئات الأشجار اقتلعت واستبدلناها بالعنب، ومع تغير الظروف المناخية تأذت زراعة التفاح، ولم يعد الوارد المائي كافياً فانخفض في سنوات عدة عن 200 ميلليمتر، وسادت أجواء أكثر دفئاً لا تناسب شجرة التفاح. بمتابعة الرعاية اكتشفنا الخطأ وأن التوسع بزراعة التفاح مغامرة غير محسوبة النتائج، بمعنى أننا زرعنا أرضنا بالغيرة وبتقليد عشوائي دون الاهتمام بتحليل التربة واستشارة مختصين".
سنوات من الخسارة
الفكرة نفسها أكدها لرصيف22 المزارع زياد المقت (58 عاماً) من عرمان، مبيناً أنه اقتلع أشجار بستان عمره 25 عاماً، وينوه بأن معدل الأمطار السنوي لمنطقة جبل عرمان هو 600 ميلليمتر، ومنذ عدة سنوات لم يصلها أكثر 300، وهو معدل يشكل خطراً كبيراً على هذه الزراعة، وفي منطقة الخراب المعدل تدنى إلى درجات أقل بكثير، "بالتالي فإن البساتين على ارتفاعات أقل أخذت مساحاتها تتضاءل، وقرار القلع يعتبر تصحيحاً لخطأ قديم هو الزراعة العشوائية للتفاح، فالتخوف من القادم أمر مشروع".
يضيف المقت وهو ممرض متقاعد، أن الشجرة الواحدة التي عمرها ما بين 25 و 30 عاماً في جبل عرمان، وصل إنتاجها في سنوات تحقق فيها معدل مناسب للأمطار إلى 270 كيلوغراماً من أجود أنواع التفاح، لكن ليصل الفلاح إلى تلك المرحلة يحتاج إلى عدد معين من رشات المبيدات، ولا تقل كلفة الرشة الواحدة عن مليون ليرة (نحو 70 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق الموازي) لحقل لا تزيد مساحته عن 25 دونماً، ومثلها للأسمدة، في حين لم يزد سعر الكيلوغرام الواحد من التفاح في الموسم الفائت عن 4 آلاف ليرة، ومن تمكّن من تخزين إنتاجه في البرادات باعه بسعر 10 آلاف ليرة (أقل من دولار واحد).
يتحدث المقت عن سنوات من الخسارة وتراجع في الإنتاج تصل نسبته إلى 40 بالمئة حتى في البساتين المرتفعة، ومن وجه نظره فإن هذه الزراعة بحاجة للدعم خاصة مع صعوبة التسويق، وما سببته الحرب من غلاء وارتفاع في التكاليف، مما قد يجعل فلاحين يهملون زراعتهم، وهذا خطر جديد يضاف لما سبق ويهدد زراعة التفاح بشكل عام، التي بدأت منذ سبعة عقود كزراعة منتجة حققت أرقاماً إنتاجية عالية، جعلت كل المزارعين مندفعين لزراعة أكبر قدر من الأشجار دون الاسترشاد بآراء المختصين، وهذا ما دفعوا ثمنه سنوات جهد وتعب ويحصدون نتيجة خسارتها اليوم.
عدوى زراعة التفاح
تعتبر الزراعة النشاط الاقتصادي الأول لمحافظة السويداء، وأي تجربة ناجحة تثير فضول المزارعين، فيعيدونها بما يشبه الغيرة، وهذا واقع حال معروف في المحافظة الصغيرة.
وبالعودة إلى تاريخ زراعة التفاح وانتشاره، فإن نجاح التجربة الأولى التي قام بها سليمان أبو سعدى أول مزارع للتفاح في المحافظة في منطقة ظهر الجبل، قدمت للأهالي براهين عن صوابية إعادتها، وحافزاً للمزارعين في المناطق المرتفعة مثل الرحى والكفر وجبل عرمان ومياماس وسالة وشهبا وقنوات. وبسلوك غير منظم بدأ كل فلاح يتعلم ممن سبقه طريقة زراعة ورعاية الشجرة التي اعتبرت أهم زراعة بعلية، تطورت بازدياد واضح للدعم الحكومي، واتسعت المساحات بشكل جيد جداً عاماً بعد عام.
مئات الأشجار اقتلعت واستبدلناها بالعنب، ومع تغير الظروف المناخية تأذت زراعة التفاح، ولم يعد الوارد المائي كافياً وسادت أجواء أكثر دفئاً. بمتابعة الرعاية اكتشفنا الخطأ وأن التوسع بزراعة التفاح مغامرة غير محسوبة النتائج، بمعنى أننا زرعنا أرضنا بالغيرة وبتقليد عشوائي
خمسة عقود كانت كفيلة بإيصال عدد الأشجار وفق إحصائية وزارة الزراعة لعام 2003 إلى أكثر من مليونين و400 ألف شجرة زرعت على مساحة تجاوزت 10 آلاف هكتار، لكن الإنتاج فعلياً بدأ بالتذبذب خلال العقد الأخير، مثلاً بلغ خلال موسم 2017-2018 نحو 33 ألف طن بانخفاض 50 طناً عن الموسم الذي سبقه. في حين بلغ عام 2022 نحو 59 ألف طن.
وقد بدأ يظهر التراجع جلياً بنسب مختلفة لعدة أسباب، أولها تراجع معدل الأمطار السنوي وارتفاع درجات الحرارة، كون زراعة التفاح إحدى أهم الزراعات البعلية التي تعتمد على ري الأمطار الشتوية وساعات البرودة. وعام 2023 ووفق إحصائيات مكتب التفاحيات في وزارة الزراعة، بلغ الإنتاج نحو 42 ألف طن، وكان عدد الأشجار الكلي نحو ثلاثة ملايين ونصف شجرة، المثمرة منها لا تتجاوز مليونين وتسعمئة ألف.
خطر التوسع غير المدروس
وفق المهندس الزراعي منير صيموعة رئيس مكتب التفاحيات، فإن التقليد العشوائي من قبل الفلاحين وعدم التفاعل مع إرشادات الوحدات الزراعية، هي أخطاء دفع الفلاحون ثمنها وقتاً وعملاً وكلفاً مالية كبيرة، فعلى سبيل المثال كان للفلاحين تجارب للزراعة في الأراضي السهلية والمنخفضة مثل منطقة خراب عرمان والقريا وشهبا وقنوات، وذلك على حساب زراعة العنب بعد انتشار حشرة الفلكسترا التي أصابت جذور شجيرات العنب التي اقتلعت وحل التفاح مكانها.
يضيف صيموعة لرصيف22: "تُفضل زراعة التفاح الشتاء البارد والصيف المعتدل والرطب، وتحتاج الى 500 حتى 800 ميللمتر من الأمطار الموزعة خلال السنة، وبالنسبة لساعات البرودة فإن التفاح يحتاج نحو 1300 ساعة تحت سبع درجات مئوية وهو الصفر البيولوجي لهذه الأشجار. جميعها شروط تتحقق في المناطق المرتفعة، لكن ارتفاع درجات الحرارة خلال الموسم يؤثر على براعم الحمل للسنة التالية، بالإضافة لكمية الامطار وتوزعها وضعف الخدمات، مما يزيد ظاهرة المعاومة، ليكون لدينا إنتاج مثلاً هذا العام وفي العام التالي نحصل على ثمار صغيرة الحجم بمواصفات سيئة".
يخبرنا المهندس صيموعة بأن تجربة الزراعة في المناطق المنخفضة أظهرت آفات لم تكن ملحوظة في المناطق المرتفعة، وزاد انتشار حفار الساق والإصابة بالتقرحات نتيجة الظروف المناخية. ونتيجة الأوضاع الاقتصادية انتشرت بدورها ظاهرة قلع أشجار التفاح، وتوجه المزارعون الى إعادة الزراعة بالعنب أو الزيتون، لكن للأسف أيضاً بطريقة عشوائية تطورت بفعل الأزمة التي تعيشها البلاد، مما قد يكرر خطأ التوسع بدون أسس علمية صحيحة.
لم يتوقع أدهم عزقول أن يقتلع أشجار التفاح التي غرسها مع والده في بلدة قنوات شمال السويداء، لتصبح حطباً لموقده بعد خمسة عشر عاماً من الجهد والرعاية. كان يأمل بأن يأكل من ثمارها أولاده وأحفاده لكن آماله خابت، ولم تقدم شجيرات التفاح مردوداً جيداً
ويضيف: "بعض الفلاحين صبروا لأكثر من عشر سنوات دون مردود، والبعض استمروا بإنتاج بسيط وراقبوا الأشجار تموت، والبقية قاوموا حتى النهاية، وهي تجربة استهلكت نحو 30 عاماً، بالتالي لا بد من التأني باختيار البدائل سواء كانت العنب أو اللوزيات، والتفاعل مع الارشادات الزراعية واختبارات التربة إذ لا تكفي معرفتنا أن هذه المناطق كانت مزروعة بالعنب واللوز من قبل، والرجوع لأصحاب الاختصاص والجهات البحثية".
وينبّه بالقول: "في حال استمرار الظروف المناخية سنشهد انخفاضاً في الإنتاج أو ميل الشجرة للمعاومة حتى في المناطق المرتفعة، وفي هذه الحالة سترتفع تكاليف الإنتاج، لذا لا بد من التأكيد على الالتزام بالإدارة المتكاملة للمحصول وفق الدليل المعمم من وزارة الزراعة، ووفق الكشوف الأولية فإن نسبة الإنتاج لهذا العام لا تتجاوز 30 إلى 40 بالمئة من الحالة الطبيعية، بالتالي لا بد من تغيير نهج الممارسات الزراعية لنتمكن من التكيف مع هذه الظروف، والعودة لأساليب حصاد مياه الأمطار، والعناية بالتقليم الصحيح والتسميد، والالتزام بخطة التشجير، لأن الاستثمار بالأشجار هو استثمار طويل الأمد، ولا بد من الانطلاق على أساس متين للمحافظة على الزراعة في المحافظة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...