عبد الله القصيمي، أو الشيخ عبد الله القصيمي، هذا الإنسان المؤمن الملحد، التقيّ الفاسق، الموقن المشكك، المقرّ بوجود الله والمنكر له، سيف يحارب أعداء الرسول العربي وخنجر في ظهره. قد نستغرب هذا الوصف المتناقض وكيف يجتمع في إنسان واحد، لكن عندما نقرأ حياة القصيمي نكتشف بالفعل أن هذه الصفات هي صفات القصيمي الحقيقية، لذا في هذه المقالة سوف نستعرض حياة القصيمي الذي يُعدّ من أكثر المفكرين العرب جدلاً، وسنروي قصة انتقاله من وهّابي متطرّف متعصب لوهابيته، إلى مهاجم للفكر الديني، وكافر بالأديان كلها عموماً، والدين الإسلامي خصوصاً.
حياة مبكرة قاسية
ولد عبد الله بن علي القصيمي في قرية تُدعى "خب الحلوة" في منطقة القصيم في نجد في السعودية عام 1907.
الإنسان المؤمن الملحد، التقيّ الفاسق، الموقن المشكك، المقرّ بوجود الله والمنكر له، سيف يحارب أعداء الرسول العربي وخنجر في ظهره
عندما بلغ سن الرابعة، بدأ رحلة الشقاء، حيث انفصل والده عن والدته وعاش بعدها عند جدّه. وفي سن الخامسة، عمل في سوق للمواشي بسبب فقر جدّه، وعدم قدرته على تحمّل تكاليف المعيشة.
ونتيجة الظروف الصعبة التي عاشها القصيمي، قرر البحث عن والده. خلال رحلة بحثه، مكث في مخيم للّاجئين في الرياض، وكان هذا المخيم يعاني من كل أشكال الفقر والعوز. وفي أحد الأيام، وهو في المخيم، سمع بأن صديق والده يترأس وفداً قادماً من الشارقة إلى المخيم، فالتقى القصيمي بصديق والده وذهبا معاً إلى الشارقة حيث والده. لكن بعد لقاء القصيمي بوالده، أصيب بخيبة أمل كبيرة، حيث وجد والده متعصباً خشناً بخشونة مذهبه الوهّابي، ولا يحمل أي معنى من معاني العطف والحنان. انتسب القصيمي إلى مدرسة داخلية في الشارقة، عام 1917، وبعد خمس سنوات توفي والده في عام 1922.
في سنواته اللاحقة منذ تعلمه في الأزهر، ثم تبني الفكر الوهابي إلى الإلحاد، شهدت حياة القصيمي مراحل مختلفة نستعرضها من خلال كتبه لتتبين المسيرة والتحول لديه.
كتب القصيمي تلخّص تحوّله الفكري
لاستعراض التحوّل الفكري للقصيمي، من وهّابي متطرف إلى ملحد، يكفي استعراض كتبه بترتيبها الزمني، إذ تقسم حياته إلى قسمين؛ القسم الأول كان فيه وهّابياً متطرفاً، والقسم الثاني كان فيه كافراً بكل الأديان العربية مع وجود فتره انتقالية بين القسمين تمثّل بداية الشك داخل عقل القصيمي.
بإلقاء نظره سريعة على كتب المرحلة الأولى وتاريخ إصدارها، نرى مدى تطّرف القصيمي وتعصّبه لمذهبه الوهّابي، فخلال تسع سنوات كتب ثمانية كتب حاول في غالبيتها مدح مذهبه والدفاع عنه. سافر القصيمي إلى مصر للتعلّم في جامع الأزهر، عام 1927، لكنه لم يستسغ التعليم الأزهري لما فيه مما يناقض فكره الوهّابي، فنشب خلاف بينه وبين الشيخ الدجوي، أحد علماء الأزهر، والذي كان يميل إلى الصوفية ويتبرّك بقبور الأولياء.
وبسبب خلاف القصيمي مع الشيخ الدجوي، ألّف القصيمي كتاباً يردّ فيه على الشيخ الدجوي، ويهزأ به وبأفكاره، مبرزاً وهّابيته على أنها مقبرة البدع التي جاء بها الدجوي، وقد أطلق على كتابه اسم "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية"، كما ردّ على علماء الأزهر عموماً حيث أصدر كتاب "شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام"، وكلا الكتابين صدرا في عام 1931، وعلى إثرهما تم فصله من جامعة الأزهر.
أكمل القصيمي في الدفاع عن وهابيته بعد فصله من الأزهر، حيث أصدر العديد من الكتب، مثل كتاب "الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم"، وكتاب "مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها" عام 1934، وقد ردّ على كتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل، في كتاب "نقد كتاب حياة محمد"، وكتب أيضاً كتاب "الثورة الوهابية" عام 1936، إلى أن ألّف "الصراع بين الإسلام والوثنية" عام 1937، والذي يشكّل ذروة دفاعه عن الوهابية، وهذا الكتاب يتألف من ثلاثة أجزاء في 2،500 صفحة، ويقال إن الملك عبد العزيز قرأه بنفسه، وقد استحسنه سكّان القصيم الموافقين للتيار الوهّابي، وقالوا إن القصيمي بهذا الكتاب دفع مهر الجنّة.
أشعل حرباً بفكره، فمن المشايخ من وصفه بالمرتد وحلّل قتله، ومنهم من دعا لقراءة كتبه مثل أنسي الحاج الذي كان يقول جملته الشهيرة: "اقرؤوا القصيمي... لا تقرؤوا شيئاً إلا القصيمي".
واختتم القصيمي مرحلته الأولى بكتاب "كيف ذلّ المسلمون"، الذي يُعدّ بداية التفكير النقدي لديه وبداية انقلابه على الموروث، وقد اتّهم المؤرخُ السوري الدكتور المنجد، القصيميَ، بأنه كان يطمع بأن ينال جاهاً أو مالاً بهذا الكتاب، لكن ارتدّ عليه الأمر بالسخط، ما دفعه لكتابة أكثر من كتاب على النحو نفسه.
وبعد إصداره كتاب "كيف ذلّ المسلمون" عام 1940، لم يُصدر أي كتاب حتى عام 1946 حين أصدر كتاب "هذه هي الأغلال". بعدها انهالت عليه الردود من كل حدب وصوب، فردّ عليه الشيخ إبراهيم السويح ردّاً قاسياً، إذ وصفه في كتاب له أسماه "بيان الهدى من الضلال في الردّ على صاحب الأغلال"، قائلاً إنه من هواة القعر، وإنه يدلس على الناس ويسعى إلى فساد الأمة، وقد أكد الشيخ في كتابه أيضاً أن الخلل في تصور القصيمي للأمور شيء مفروغ منه، ولا يحتاج إلى إثبات، وقد اتهم الدكتور المنجد، القصيمي، مرةً أخرى، بأنه ألّف كتاب "هذه هي الأغلال" لأنه يعاني من عقد نفسية، ويسير على خطى الشيوعيين.
ويستغرب محمد أحمد الغمراوي، وهو كاتب مصري، في تقديم كتاب "الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال على ما فيه من زيغ وكفر وضلال"، كل الاستغراب من أن تكون كتب القصيمي صادرةً عن مسلم، ويعتقد أن من كان له موطئ قدم في الإسلام لا يمكن له أن يكتب مثل هذا الكلام.
وفي برنامج "مختلف عليه"، صرّح إبراهيم عبد الرحمن -وهو صديق القصيمي- بأن القصيمي لم يكن يخاف من التهديد والعقاب أبداً، وقد تعرّض ثلاث مرات للاغتيال من قبل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد كتابه "هذه هي الأغلال".
لم يشكّل كتاب "هذه هي الأغلال" للقصيمي، سوى البداية، إذ انهال منه بحر من النقد اللاذع الموجه إلى الفكر الديني العربي بعده، فأصدر كتباً كثيرةً تمثّل بركاناً غاضباً، مغيراً على كل المقدسات والموروثات العربية، منها كتاب "العالم ليس عقلاً" عام 1961، وكتاب "أيها العار إن المجد لك" عام 1961، وكتاب "عاشق لعار التاريخ" عام 1963، وغيرها الكثير.
وقد أثنى الكاتب والشاعر اللبناني أنسي الحاج، ثناءً شديداً على كتب القصيمي، خصوصاً بعد إصداره كتابَين هما: "هذا الكون ما ضميره؟" و"كبرياء التاريخ في مأزق"، ويراهما دعوةً للثورة على الجمود الفكري، ويقول إنه لم يقرأ كهذين الكتابين في الفكر العربي، وإن هذين الكتابين يحرّضان على العصيان الفكري.
ألّف القصيمي أيضاً كتاباً يُعرف باسم "العرب ظاهرة صوتية"، عام 1977، الذي يسخر به من العادات العربية، ويصف العرب بأنهم مجرد متحدثين وخطباء يستمرون في الكلام، إلى أن يظنوا أن ما قد قالوه قد فعلوه حقاً، حيث يقول فيه: "إن العرب ليظلّون يتحدثون بضجيج وادّعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى لَيذهبون يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه، وأنه لم يبقَ شيء عظيم أو جيّد لم يفعلوه لكي يفعلوه... إنّ مِن آصل وأرسخ وأشهر مواهبهم أن يعتقدوا أنهم قد فعلوا الشيء لأنهم قد تحدثوا عنه".
وقد أكد الكاتب والشاعر السعودي أحمد الواصلي، في لقاء له في برنامج "مختلف عليه"، على ضرورة معرفة السياق التاريخي لكتب القصيمي، حيث قال إن القصيمي في كتبه الأخيرة كان يهاجم الحكّام العرب بشكل أو بآخر، خصوصاً الحكّام المصريين، فيذكر أن القصيمي هاجم جمال عبد الناصر بعد نكسة عام 1967، بإصداره كتاب "عاشق لِعارِ التاريخ"، وهاجم السادات في كتابه "فرعون يكتب سِفر الخروج".
وأضاف الواصلي أن كتاب القصيمي "الكون يحاكم الإله"، هو ليس موجّهاً إلى الله بمفهومه العام، بل هو موجّه حصراً إلى الإله العربي، الذي كان يراه القصيمي متجبراً ومتغطرساً ومستغلاً جهلَ الشعوب أيام البداوة، والآن بعد الاكتشافات العلمية أصبح حقاً على الكون أن يحاكم هذا الإله.
وفي النهاية يختتم القصيمي حياته بكتاب "يا كلّ العالم لماذا أتيت"، والذي يُعدّ زبدة تفكيره. يمكن أن تُعنوَن كتب المرحلة الثانية من حياة القصيمي كما وصفها أحمد الواصلي: "القصيمي ابن الليبرالية العربية".
لقد فعل النفط العربي ما لم يفعله العرب
لو أردنا التطرق إلى الانتقادات والأفكار اللاذعة التي يوجهها القصيمي إلى الفكر الديني العربي، فنحن بحاجة إلى عشرات المقالات بل المئات، فالقصيمي في كل كتاب يحشد جحافل من الانتقادات لمواجهة الفكر العربي الإسلامي، حيث يرى أن الفكر الديني الإسلامي عبر التاريخ لم ينجح في التسويق لأفكاره ولم يلقَ قبولاً من الآخرين، لكن النفط العربي فعل هذا، ويؤكد أن وجود النفط العربي هو من أعطى أهميةً للعرب ولدينهم الإسلامي، فقد كان أكثر كفاءةً من الأنبياء والرّسُل والقرآن، حيث قال في كتابه "أيها العار إن المجد لك"، ما يلي: "شكراً لك أيها النفط، أيها النفط العربي، يا أقدر من كل نبوّة عربية وموهبة عربية على زرع الأيمان في القلوب التي لا تزرع فيها إلا الصحراء التي لا تنبت إلا القحط".
ويستهزئ القصيمي في كتابه "العرب ظاهرة صوتية"، من الإنسان العربي بشكل مباشر وقاسٍ، حيث يقارن بين دور الإنسان العربي والنفط العربي في الترويج للثقافة العربية والإسلامية حيث يقول: "لماذا أيها النفط العربي جئت بديلاً من الإنسان العربي؟ لماذا جئت بهذه الضخامة والقوة والانتصارات وجاء الإنسان العربي بهذه الضآلة والعجز والهزائم؟".
طلق الأديان أم توفي وهو يرتّل القرآن؟
كانت المشيئة أن يكون القصيمي مثيراً للجدل دائماً، فحتى بعد وفاته كثر الجدال حوله، فقد قامت مجلة إيلاف الإلكترونية بعقد مقابلة مع السيدة آمال عثمان، المسؤولة الإدارية عن قسم كبار السنّ في مستشفى فلسطين في مصر الجديدة، قالت خلالها إن القصيمي قد قضى أيامه الأخيرة في المستشفى بتلاوة القرآن الذي كان بجانبه طول الوقت، وأضافت مجلة "إيلاف" أن ابن القصيمي قال أيضاً إن والده قضى أيامه الأخيرة في قراءة القرآن.
لاستعراض التحوّل الفكري للقصيمي، يكفي استعراض كتبه بترتيبها الزمني، إذ تقسم حياته إلى قسمين؛ القسم الأول كان فيه وهّابياً متطرفاً، والقسم الثاني كان فيه "كافراً"
فيما نفى صديقه ابراهيم عبد الرحمن، هذا الادّعاء، وأكد أن القصيمي حسم خياره الفكري منذ زمن، وأنه طلّق الأديان العربية ثلاثاً، وغير صحيح ما أُشيع حول عودته للإسلام في آخر أيام حياته.
وبعيداً عن الخلاف، توفي القصيمي في التاسع من كانون الثاني/يناير عام 1996، في مستشفى في القاهرة، وقد نشرت الكثير من الصحف العربية مقالات في رثائه.
يمكن أن نلخّص حياة القصيمي بجملة "من شيخ مؤمن متطرف إلى إنسان كافر ملحد بالأديان العربية"، هو الذي بالرغم من وفاته لا يزال الجدل حوله قائماً، فقد أشعل حرباً بفكره، فمِن المشايخ من وصفه بالمرتد وحلل قتله، ومنهم من دعا لقراءة كتبه مثل أنسي الحاج الذي كان يقول جملته الشهيرة: "اقرؤوا القصيمي... لا تقرؤوا شيئاً إلا القصيمي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...