شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
شواطئ المدن السورية تغصّ بالصرف الصحيّ... هل تجدي المناشدات بإنقاذ البحر؟

شواطئ المدن السورية تغصّ بالصرف الصحيّ... هل تجدي المناشدات بإنقاذ البحر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأربعاء 26 يونيو 202412:48 م

عندما تقترب من شواطئ مدن الساحل السوري لتستمتع برؤية البحر وتسمع صوته الرخيم، لن تعيش الرومانسية المنعشة أو تشعر بتحسن المزاج وأنت تستنشق رائحة كريهة للصرف الصحي تغص بها الأمواج، فتضطر وأنت تشاهد هذا المنظر إلى الهروب من رذاذ البحر الملوث المتطاير، أما الحال على الشواطئ الريفية فهو مختلف تماماً، فالماء أكثر طهارة ونقاوة، ورائحته مشبعة بملح البحر والسمك، ولكن مع ذلك هو معرض لوصول التلوث الشديد إليه.

خلال جولة لرصيف22 على شاطئ مدينة اللاذقية، ثمة مواطن يتوسط الصخور التي تصد أمواج البحر، وما إن نظرنا إليه وشاهدنا حتى سبقنا في الكلام، وكأننا سألناه عن حال البحر.

كل مياه الصرف الصحي الناتجة عن مدن المنطقة الساحلية تصرّف إلى البحر دون أي معالجة.

يتحدث الخمسيني ياسر محمد (أبو جهاد) بحرقة عن البحر والمكان الذي يرتاده دائماً للترفيه عن نفسه، ولكنه يزداد حزناً كلما شاهد منظر الصرف الصحي الذي يلوث لون شاطئ المدينة ويغير رائحته. ويتساءل بغضب ممزوج بالعتب عن عدم حل هذه المشكلة وعن التأخير في إنجاز محطات المعالجة للصرف الصحي التي طالما سمع عنها، حامداً الله أن الشواطئ الريفية بعيدة عن هذا التلوث.

ولم تختلف شكاوى عمر صهيوني (أبو رامي) ذي الأعوام الستة والستين، إذ يحكي عن منزله الذي يقع في منطقة الأزهري القريبة من شاطئ المدينة، فرائحة الصرف الصحي تشتد في فصل الصيف ولا تغادر منطقة سكنه، وكغيره من أبناء حيه لا يشعر بالسعادة عند الجلوس على شرفة المنزل، وفكر ببيع منزله أكثر من مرة والانتقال إلى الضواحي البعيدة عن البحر للهروب من الرائحة الكريهة.

مصبات مباشرة

يتحدث الدكتور المهندس عضو الهيئة التدريسية في المعهد العالي للبحوث البيئية حسين جنيدي لرصيف22، عن أن كل مياه الصرف الصحي الناتجة عن مدن المنطقة الساحلية تصرّف إلى البحر دون أي معالجة، من خلال مجمعات ومحاور مباشرة إلى البحر، حيث يمكن مشاهدة مصباتها في الكثير من المواقع.

من الشواطئ السورية الملوثة بالصرف الصحي

أما بخصوص مياه الصرف التي تنجم عن المطاعم والمنشآت السياحية الموجودة بالقرب من الشاطئ، فهي الأخرى تصب في البحر ومن خلال مصبات تبتعد قليلاً عن الشاطئ عبر قساطل، ولكن تبقى مصدراً لا يستهان به للتلوث.

ويشير جنيدي إلى أن مصبات الصرف الصحي الواصلة إلى البحر مكشوفة وواضحة على الشاطئ، وباستثناء ذلك توجد بعض المصبات العائدة لمنتجعات سياحية تبتعد قليلاً عن الشط وتصرّف في عمق المياه البحرية عبر قساطل، "وبالتالي فإن كل المياه العادمة للمدن الساحلية تُصرف إلى البحر، أما التجمعات السكانية الريفية الأخرى فهي بعيدة، وبالتالي تُطرح فضلاتها إلى الوديان والأنهار، وخصوصاً بعد توقف محطات المعالجة بسبب انقطاع الكهرباء ومصاعب التشغيل".

ووفق قوله، فإن المشكلة تنقل من مكان تولدها إلى مكان يبتعد قليلاً، في حين أن الحمل الريحي وطبيعة التيارات البحرية في شرق المتوسط تعمل على وصول هذه الملوثات إلى الشواطئ التي تقع إلى الشمال.

من الشواطئ السورية الملوثة بالصرف الصحي

عشرات المصبات إلى البحر

ولمعرفة الواقع الحالي للصرف الصحي في محافظة اللاذقية، ربط مدير مؤسسة الصرف الصحي في المحافظة المهندس منذر علي انتهاء مشكلة مصبات الصرف الصحي في مياه البحر بإنجاز محطة المعالجة المركزية الواقعة في منطقة رأس الشمرا في ريف اللاذقية الشمالي على مساحة نحو 190 دونماً، فكان من المفترض أن تتحول جميع مخلفات المدينة إلى محطة الضخ ومن ثم إلى هذه المحطة، لمعالجتها ثم صرفها إلى مياه البحر.

لكن هذه المحطة لم ينتهِ العمل فيها لعدة أسباب، منها تعاقب الشركات التي كانت ستنفذها (أميركية وفرنسية وإيرانية)، والأحداث التي تعرضت لها سوريا، فضلاً عن تكلفتها العالية جداً، "ولو أنجزت هذه المحطة لتحولت جميع منصرفات المصبات إلى محطة الضخ (مكان تجميع المياه الآسنة) ومن ثم إلى محطة المعالجة المركزية، ولكن توقفت الأعمال مع بداية الأحداث التي تعرضت لها سوريا"، يضيف علي.

كل المياه العادمة للمدن الساحلية تُصرف إلى البحر، أما التجمعات السكانية الريفية الأخرى فهي بعيدة، وبالتالي تُطرح فضلاتها إلى الوديان والأنهار، وخصوصاً بعد توقف محطات المعالجة بسبب انقطاع الكهرباء ومصاعب التشغيل

ويشتد التلوث عند المصبات صيفاً على حد قوله، لأن المياه لا تتمدد كما يحصل في فصل الشتاء، فتختلط بمياه الأمطار التي تهطل بغزارة على الساحل وتنخفض نسبة الملوثات حينها، علماً أنه لا يوجد حجم تقديري بأرقام رسمية لملوثات الصرف الصحي لمدينة اللاذقية.

وأوضحت مصادر خاصة في مؤسسة الصرف الصحي في اللاذقية لرصيف22، أنه تم التعاقد على تنفيذ محطة معالجة منصرفات مدينة اللاذقية مع شركة فرنسية عام 1996 لكنها لم تلتزم بالتنفيذ وأنهي العقد معها عام 2006، وبعدها في عام 2008 تم الإعلان والتعاقد على تنفيذ المحطة مع شركة إيرانية، وبلغت تكلفة تنفيذها حينها ملياراً و800 مليون ليرة سورية (40 مليون دولار)، ولكن تعثرت الشركة بالتنفيذ مع بداية الأحداث في سوريا عام 2011، وأخذت تماطل بسبب تعرض البلاد للحرب.

من الشواطئ السورية الملوثة بالصرف الصحي

ولا يزال العمل في المحطة متوقفاً حتى الآن، لتستمر المصبات بقذف الصرف الصحي إلى البحر مباشرة دون أية معالجة، مسببة تلوث البيئة البحرية على طول شاطئ مدينة اللاذقية.

ولا يختلف الواقع كثيراً في محافظة طرطوس، حسبما يوضح مدير مؤسسة الصرف الصحي في المحافظة المهندس منصور منصور لرصيف22، ويؤكد أن مياه الصرف الصحي حالياً تصرف إلى البحر مع وجود 13 مصباً على طول شاطئ المحافظة، علماً أنه توجد محطة معالجة مركزية للمحافظة وهي جاهزة من ناحية البنية التحتية، إلا أن الشركة المنفذة لم تستكملها بسبب الظروف الراهنة، وحالياً ما تزال "قيد المتابعة" وفق المعلومات المتوافرة.

ملوثات كيميائية وجرثومية

وبالعودة إلى الباحث حسين جنيدي، يشير إلى أنه في كثير من الحالات نجد انتقالاً للعوامل الممرضة ضمن السلسلة الغذائية وصولاً إلى قمة الهرم الغذائي ألا وهو الإنسان، الأمر الذي يزيد من التهديدات الصحية الناجمة عن مياه الصرف الصحي، إذ إن منتجات البحر تكون عرضة لحمولات الجراثيم التي تقذف بها محاور الصرف الصحي ومصباته إلى البيئة البحرية، مع ما يرافق ذلك من مخاطر التلوث الكيميائي والجرثومي، ويحدث هذا بسبب غياب منظومات معالجة المياه في المنطقة الساحلية للمدن الكبرى وهي اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة، الأمر الذي يدفع إلى صرف مياه المجارير باتجاه البحر.

وعلى الرغم من أن المناطق في البيئة البحرية التي تصل إليها مياه الصرف الصحي لا تحتوي على مزارع أسماك اصطناعية، تبقى موئلاً للكثير من الأنواع السمكية التي تعيش في جنباته، وتتأثر بشكل كبير بالتغيرات الحاصلة نتيجة التلوث.

ويلفت جنيدي إلى الآثار الضارة المحتملة للملوثات الناجمة عن نفايات المجاري، وهي تعتمد على حجم التصريف والتركيب الكيميائي والتركيزات في النفايات السائلة، كما أن الآثار الضارة ترتبط بكمية الملوثات التي تدخل البيئة المائية ونوعية هذه الملوثات، سواء كانت من المواد الصلبة أو المحتوى العضوي أو المعادن الثقيلة وغيرها.

عناصر ثقيلة

يتحدث الباحث البيئي في محافظة طرطوس الدكتور محمد صالح لرصيف22، عن إجراء عدة دراسات من جامعة تشرين في اللاذقية، ومراقبة دورية من مديرية البيئة في طرطوس لتلوث بعض مناطق مياه الشاطئ السوري والكائنات فيها بالعناصر الثقيلة وهي الكاديوم والزرنيخ والرصاص والزنك والكروم والنحاس، وحُددت بعض المواقع في شاطئ طرطوس، وبعد أخذ العينات وتحليلها أظهرت ارتفاع تركيز عنصر التوتياء.

يحكي أبو رامي عن رائحة الصرف الصحي التي تشتد في فصل الصيف ولا تغادر منطقة سكنه، وكغيره من أبناء حيه لا يشعر بالسعادة عند الجلوس على شرفة المنزل، وفكر ببيع منزله أكثر من مرة والانتقال إلى الضواحي البعيدة عن البحر للهروب من الرائحة الكريهة

وقد بينت نتائج الدراسة كما ينوّه صالح ارتفاع قيم الشوارد لمياه الآبار ومياه بحيرة الباسل وحوض الغمقة في المنطقة، ما يشير إلى الأثر السلبي لمصبات الصرف الصحيعلى نوعية تلك المياه التي تصبح غير صالحة للري.

وإضافة إلى مياه الصرف الصحي غير المعالجة، هناك الصرف الزراعي وما يصل إلى تلك الأحواض والمجاري والأنهار ومنها إلى البحر، من مواد عضوية ومبيدات وأسمدة زراعية.

من الشواطئ السورية الملوثة بالصرف الصحي

كل هذا وفق الباحث يشكل عوامل ضغط على مياه الأحواض سواء العذبة أم المالحة، ويتطلب جهوداً استثنائية لتقييم حجم ونسبة الضرر الذي أصاب المياه البحرية والكائنات الموجودة فيها، ويحتاج إلى برنامج دعم دولي لمعالجة آثار هذه الملوثات المتراكمة خلال السنوات الماضية.

ويختم صالح بضرورة إقامة محطات معالجة للصرف الصحي على نهاية الشبكات قبل وصول منصرفات المدن إلى البحر، مع إعادة تأهيل المكبات العشوائية الواقعة ضمن الحرمات البيئية للشاطئ والمحميات والغابات، بالإضافة إلى افتتاح مركز لمعالجة النفايات الصلبة.

ويتحدث عن ضرورة إعادة تأهيل الكوادر البيئية في الوحدات الإدارية ورفع كفاءتها وخاصة في دراسات الجدوى البيئية، ورفع قدراتها في تأمين مصادر التمويل اللازمة لإدارة بيئية نظيفة، وتوطين الصناعات المتعلقة بقطاع الصرف الصحي، مع ضرورة إيجاد موقع بديل لمعمل الإسمنت في طرطوس للتخفيف من تلوث الهواء في المحيط، وتحويل الموقع إلى نشاط اقتصادي غير مضر بالبيئة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image