يستعين السبعيني أبو حسن الداعور بأبنائه وأحفاده لتنظيف ما تبقى من منزلهم الذي دمره الاحتلال في المنطقة الشرقية لمخيم جباليا شمال قطاع غزة.
وكان البيت قبل اجتياح المخيم في 12 أيار/ مايو 2024، يتكون من 4 طوابق مساحة كل منها 150 متراً مربعاً، يسكنها 30 فرداً من العائلة.
أما اليوم، وبعد استهداف المنزل، لم يتبق سوى غرفتين ومرحاض. "حين عدنا إليه ووجدنا الدمار الهائل الذي حلّ به. صرنا نفكر فقط بشكل المأوى الجديد للعائلة. وبعد رحلة من البحث قررنا أخيراً تنظيف ما تبقى من البيت إلى حين إيجاد بديل"، يقول الداعور لرصيف22.
وكان الجيش الإسرائيلي قد اجتاح المخيم لمدة ثلاثة أسابيع، متّبعاً سياسة الأرض المحروقة، ومخلفاً دماراً واسعاً في المخيم ومحيطه.
المخيم، الذي أنشأ إبان النكبة عام 1948، يعد أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة. وصل تعداد لاجئيه عام 2023 إلى 116 ألف نسمة يعيشون في مساحة لا تتجاوز 1.4 كيلومتر مربع.
في هذا البقعة المكتظة، مارس الاحتلال جرائم بشعة بحق المدنيين، في بيوتهم الآمنة وأحيائهم ومراكز إيوائهم ومدارسهم. فكيف يحاول أهالي جباليا استعادة الحياة بعد انسحاب الجيش وفي ظل استمرار حرب الإبادة والتجويع؟
المخيم… منطقة منكوبة
إن حجم الدمار الذي تعرض له المخيم في منازله وشوارعه وبناه التحتية، يجعل الحياة فيه مجدداً مسألة صعبة للغاية.
وبالإضافة إلى هذا الدمار، ارتكب الجيش جرائم تمثل أبرزها في نبش المقابر التي اضطر المواطنين لاستحداثها في الشوارع لدفن شهدائهم بعدما امتلأت المقابر الرسمية.
لجأت إلى خيار بناء الخيمة فوق بيتي المدمر، لأن الأرض تعرف صاحبها وهي أحن الأماكن عليه
إضافة إلى تدمير سوق المخيم الشعبي الذي كان يعتبر مركزياً بالنسبة لكل سكان منطقة شمال قطاع غزة.
إثر ذلك، أعلن رئيس لجنة طوارئ البلديات شمال غزة ناجي سرحان في وقت سابق بأن مخيم جباليا بات منطقة منكوبة.
وبين أنه تم تدمير 50 ألف وحدة سكنية وجرف شبكات الصرف والطرقات، وتدمير المدارس ومرافق وكالة الغوث و35 بئراً للمياه.
رغم كل ذلك يصرّ الناس على العودة إلى الحياة في المخيم. يحملون المياه من مناطق بعيدة ويوفرون الطعام بصعوبة ويساعدون بعضهم بعضاً في تنظيف المنازل وإنشاء الخيام.
وينشغل بعضهم في البحث عن جثث الشهداء التي نبشها الاحتلال. كما يسعى التجار لإعادة حركة البيع والشراء إلى الشوارع عبر افتتاح بسطات صغيرة قرب ركام محالهم المدمرة.
خيمة فوق المنزل
عاد راشد أبو شرخ لتفقد منزله فور الانسحاب الإسرائيلي في "بلوك 4" في مخيم جباليا. فوجده، كما كل المنازل المحيطة، وقد تحول إلى ركام ورماد.
يقول لرصيف22: "كانت صدمة العمر. تعب أكثر من 30 سنة، و"تحويشة" الأيام الطويلة راحت فجأة، ودون أي مبرر".
ويردف: "أنا وإخواني وأبنائي مسالمون ولا علاقة لنا بأي تنظيم أو حزب فلسطيني ليبرر استهداف منازلنا. لكنا اعتدنا ذلك من الاحتلال الذي يتعمد القتل والتدمير لكل ما هو فلسطيني بهدف دفعه نحو التهجير".
في اليوم التالي، قرر راشد وأبناؤه الثلاثة الذين سكنوا نفس البيت، تنظيف أرض البيت ورفع الركام، وبناء خيمة ليعيشوا فيها.
ويشرح أبو شرخ أنه من الصعب على الإنسان الذي اعتاد العيش في منزل مكتمل الخدمات وتتوفر به مقومات الحياة أن يتأقلم مع حياة الخيمة، التي لا ماء فيها ولا خصوصية ولا راحة ولا شيء يقي الحرّ ويطرد الحشرات.
ويختم: "لجأت إلى خيار بناء الخيمة فوق بيتي المدمر، لأن الأرض تعرف صاحبها وهي أحن الأماكن عليه".
ترميم مراكز الإيواء
تعيش عائلة محمد الكفارنة (48 عاماً) حالة مشابهة. فبعد أن اجتاحت القوات الإسرائيلية بلدة بيت حانون الحدودية التي تقع أقصى شمال شرقي قطاع غزة لدى بدء العملية البرية، نزح الكفارنة إلى مدرسة تتبع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في قلب مخيم جباليا واستقر بها نحو 8 أشهر.
هناك عاش مع أسرته المكونة من 11 فرداً داخل غرفة ضيقة لا تتجاوز مساحتها 25 متراً مربعاً، لكنها مع الوقت صارت بيتهم ومأواهم الوحيد.
وأصبح مخيم جباليا، بسوقه ومساحاته، حاضناً لتفاصيل حياتهم اليومية. حتى أن العائلة كونت علاقات وصداقات جديدة مع أهل المخيم.
حتى هذا اليوم، لم نجد أثراً لجثمان ابني، هو والعديد من الشهداء. ثم إن غياب معدات الحفر وآليات النبش الثقيلة يصعّب المهمة. والناس يبحثون عن جثث أبنائهم بأيديهم وبما توفر من أدوات بدائية
"حينما أنذر الاحتلال بإخلاء المخيم، كنت أنا وأسرتي داخل المدرسة ورفضنا الإخلاء. صمدنا تحت القصف لمدة يومين. لكن حين وجدنا أن الدبابات اقتربت كثيراً من الجهة الخلفية للمدرسة، قررنا النجاة بأنفسنا. ولم نحمل من أمتعتنا شيئاً، فالوضع كان حرجاً للغاية"، يقول الكفارنة لرصيف22. مشيراً إلى أنهم مكثوا خارج المخيم مدة ثلاثة أسابيع، وحين انسحب الجيش الإسرائيلي أسرعوا لتفقده فوجدوا المدرسة التي كانت تأويهم وقد أحرقت بشكل كامل وهدم جزء منها.
قرر الكفارنة ومعه عدد كبير من النازحين في نفس المدرسة البدء في تنظيفها من آثار الحريق والدمار والسكن فيها مجدداً.
"استغرق التنظيف أربعة أيام من العمل الشاق. وكان ثمة غرف تدمرت جدرانها، لكن النازحين استبدلوا الجدران بقطع النايلون والقماش"، يقول الكفارنة.
دمرت قوات الاحتلال خلال الاجتياح دورات المياه في المدرسة والبئر الرئيسية التي كان يعتمد عليها النازحون للحصول على الماء بشكل يومي.
"نحاول جلب المياه، يومياً، من منطقة تبعد عنا حوالي 5 كيلومترات. نستخدم عربات تجرها حيوانات في سبيل ذلك. كما أنشأنا مراحيض بدائية للاستعمال المؤقت".
البحث عن جثت الشهداء
في أحد شوارع المخيم، دفنت عائلة خليل عدداً من أبنائها الشهداء الذين سقطوا بعدما قصفت طائرات الاحتلال منزلهم فوق رؤوسهم قبل نحو 5 أشهر.
ولدى عودة العائلة إلى المنطقة بعد الانسحاب الإسرائيلي، وجدت أن القبور قد جرفت ولا أثر للجثث.
بدأ أفراد العائلة بالبحث بين أكوام الرمال التي جمعتها الآليات الإسرائيلية في المنطقة، وعلى مدار أيام، حتى الجثث التي تمزقت ونُكّل بها.
وفي حين وجدت عائلة خليل جثث أبنائها، ظلت عائلات أخرى تبحث عن جثت أبنائها في شوارع المخيم حتى اللحظة، منها عائلة الشهيد محمد أبو رفيع.
تقول والدته رهية (42 عاماً) لرصيف22: "طوال فترة النزوح، لم أفكر بالبيت أو أي شيء كنا نملكه.الأمر الوحيد الذي استحوذ على تفكيري هو قبر ابني الشهيد، خاصة بعدما سمعت أن الآليات الإسرائيلية تجرف كل شوارع المخيم".
وتضيف بنبرة متحسرة: "حتى هذا اليوم، لم نجد أثراً لجثمان ابني، هو والعديد من الشهداء. ثم إن غياب معدات الحفر وآليات النبش الثقيلة يصعّب المهمة. والناس يبحثون عن جثث أبنائهم بأيديهم وبما توفر من أدوات بدائية".
ويقول لرصيف22 إبراهيم محمود (35 عاماً) أحد سكان المنطقة القريبة من القبور: "كانت القبور منبوشة، فاحت منها رائحة كريهة. فور وصولنا إلى المكان، دلتنا الرائحة، وتعاوننا في البحث عن الجثث. ما وجدناه منها أعدنا دفنه مجدداً".
بسطات فوق ركام المتاجر
من القطاعات التي تعمد الجيش الإسرائيلي تدميرها بشكل كامل خلال اجتياحه مخيم جباليا، كان القطاع التجاري.
فقد دُمر السوق الذي يضم عشرات المحال بشكل كامل، وأحرقت معظم الشوارع المحيطة به، والتي عادةً كانت تشهد حركةً تجارية نشطة خلال أيام الحرب.
"يحظى سوق مخيم جباليا برمزية لدى سكان كل مناطق محافظة شمال قطاع غزة. هو المكان الذي يقصدونه لشراء حاجاتهم، لا سيما في أوقات المناسبات"، يقول لرصيف22 التاجر أحمد الشريف الذي يملك محلاً لبيع الأحذية داخل السوق وقد أحرق بشكل كامل خلال الاجتياح.
الكثير من أصحاب المحال التجارية المدمرة عادوا إلى العمل فوق أنقاض محالهم، فأقاموا بسطات لبيع المواد الغذائية والملابس والأحذية وبعض أنواع الحلوى وغيرها
ويردف: "الهدف من كل هذا الدمار هو قتل الروح والحياة فينا. وهذا ما لا يستطيع عليه الاحتلال، لأن أهالي قطاع غزة خاصة أبناء مخيم جباليا قادرون على العودة إلى لحياة مجدداً، وتحت أي ظرف". مبيناً أن الكثير من أصحاب المحال التجارية المدمرة عادوا إلى العمل فوق أنقاض محالهم، فأقاموا بسطات لبيع المواد الغذائية والملابس والأحذية وبعض أنواع الحلوى وغيرها.
الشاب تيسير المقيد عاد هو الآخر لبيع الحلوى والعمل في سوق مخيم جباليا.
"كنت طوال أيام الاجتياح أنتظر بفارغ الصبر لحظة افتتاح بسطتي مجدداً. كنت أعلم أن الحياة ستعود سريعاً لشوارع المخيم لأن أهله مقبلون عليها ولا يستطيعون العيش خارجه، ويفضلون المبيت فوق رماله على الخروج منه"، يقول لرصيف22.
ويختم: "إن عودة مظاهر الحياة إلى المخيم بعد كل هذا الدمار هي بمثابة رسالة بأن الأهالي هنا مصرون على العيش رغم كل الظروف. ويتطلعون دائماً إلى إنهاء حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من 8 أشهر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...