إذا كنتَ مشجّعاً متعصباً لكرة القدم، فيجب أن تعرف شيئاً هاماً: أنت جزء أصيل وفاعل في الدمار الذي ألمّ بالكوكب بعد الثورة الصناعية، وكونك ترزح تحت نير دولة من دول العالم الثالث، أو تجلس في منطقة نائية، وتستشيط غضباً كل يوم بفعل الحرارة الشديدة والجفاف والرطوبة وانقطاع الكهرباء، فهذا لن يعفيك من المسؤولية تماماً، لماذا؟ لأنك بدلاً من أن تضع طاقة الغضب لديك في مكانها الصحيح، ترتدي زياً موحّداً، وتهتف باسم كيان اعتباري لا يعبّر إلا عن مالكيه الحمقى والأثرياء، ودون أن تدري أن هذا التعصّب يستخدمه الأثرياء ليحوّلوا حياتك جحيماً، بالمعنى الحرفي للكلمة.
تشير دراسة من معهد ماكس بلانك، إلى أنه بحلول عام 2050، قد تصل درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى 50 درجة مئوية أثناء النهار، وهو ما يتفق مع تقرير منظمة الصحة العالمية، بأن الإجهاد الحراري المرتبط بتغيّر المناخ قد يتسبّب في 38 ألف حالة وفاة سنوياً، في جميع أنحاء العالم بين عامي 2030 و 2050، كنتيجة مباشرة لضربات الشمس والإجهاد.
كذلك في دراسة أخرى نشرتها دورية "Communications Earth & Environment"، توصّل العلماء إلى أن تجاوز الحد "المميت" لحالات "الإجهاد الحراري" سيكون أكثر شيوعاً بمقدار من 3 إلى 10 أضعاف بحلول عام 2100، ما يعني دماراً شاملاً لكل مقدرات الكوكب، وصدقني؛ كل حالات الوفاة تلك، ستكون من بين فقراء العالم والمشجّعين الأقل حظاً، ملاك الأندية الكبرى التي تبيع نفسك من أجلهم لن تتعرّق جباههم أصلاً.
إذا كنتَ مشجّعاً متعصّباً لكرة القدم، فيجب أن تعرف شيئاً هاماً: أنت جزء أصيل وفاعل في الدمار الذي ألمّ بالكوكب بعد الثورة الصناعية
الوجه القبيح
"كرة القدم لها بصمة كربونية عالية بطبيعتها، وعندما تأخذ في الاعتبار أن مشجعي كرة القدم يسافرون أحياناً جواً، فمن المحتمل أن يكون تأثير اللعبة على المناخ أكبر كثيراً مما نتصوّر". أندرو ويل فل، من مركز "تيندال" لتغير المناخ.
تشير التقديرات إلى أن صناعة كرة القدم تنتج وحدها ما يقرب من 30 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون كل عام، يُنتج منها نادي مانشستر سيتي ما يقرب من 1,300 طن وحده أيضاً، أي ما يوازي إجمالي الانبعاثات الناتجة عن دولة الدنمارك كاملةً، بشحمها ولحمها وصناعتها وسياراتها "الزينفو" الذكورية المزعجة.
وفي عام 2017، قامت جامعة "إسكس" البريطانية بحساب إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن السفر من وإلى الملاعب في موسم 2012/2013، وقُدرت النتائج بـ 56 طناً من ثاني أكسيد الكربون، وكلما كانت اللعبة أكثر انتشاراً، كلما زادت بصمتها الكربونية، وذلك لميل المشجّع الفطري إلى السفر أميالاً خلف فريقه الأثير، بل واعتبار تلك الرحلات جزءاً من هويته، وتعبيراً عن امتنانه وانتمائه لهذا الكيان الاعتباري المُبهم.
وعلى اعتبار أن رحلة العودة من نيويورك إلى لندن، تنتج ما يقرب من 1.2 طن من ثاني أكسيد الكربون، ما يعادل استهلاك سنة كاملة لشخص واحد في المملكة المتحدة، طبقاً لما أورده جورج مونبيوت في كتابه "الحرارة"، من هذا المنطلق، تصبح وسائل النقل اللاعب الأول في هذا السياق، إذ تنتج وحدها ما يقرب من 52% من إجمالي البصمة الكربونية للعبة الشعبية الأولى.
ولذلك، من الملاحظ أن الانبعاثات الكربونية تزداد زيادة مهولة في أعقاب البطولات الجماعية، وعلى رأسها كأس العالم، حيث أطلقت بطولة كأس العالم 2018، على سبيل المثال لا الحصر، ما يقرب من 2.1 مليون طن من الغازات الدفيئة، كذلك بطولة كأس العالم 2022 في قطر، التي أنتجت في شهر واحد ليس إلا، ما يقرب من 3.63 مليون طن من أشباه ثاني أكسيد الكربون، مع الأخذ في الاعتبار الغازات الناتجة عن إنشاء المرافق والاستادات الخاصة بالحدث، والطاقة المستخدمة للإضاءة والتدفئة والتبريد والطهي، والتنقل داخل المدينة الواحدة.
صناعة كرة القدم تنتج وحدها ما يقرب من 30 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون كل عام، يُنتج منها نادي مانشستر سيتي ما يقرب من 1,300 طن وحده أيضاً، أي ما يوازي إجمالي الانبعاثات الناتجة عن دولة الدنمارك كاملةً
بينما العالم يحترق
في كتابه "التاريخ الروماني"، يذكر المؤرخ وعضو مجلس الشيوخ الروماني، كاسيوس ديو؛ أن الإمبراطور نيرون كان جالساً فوق برج مرتفع أثناء حريق روما، وما إن ارتفعت ألسنة اللهب، حتى بدأ يغني مقطعاً من ملحمة شعرية لهوميروس تصف حريق طروادة، وتعرف باسم "إلوبرسيس"، ورغم تكذيب الكثيرين لتلك القصّة، واعتبارها مجرّد خيال محض لكاتب موهوم، إلا أنها تتكرّر أمامنا اليوم، مرةً أخرى وبالتفصيل.
فبينما يحترق العالم بفعل "الاحتباس الحراري"، يجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم، على رأس النظام الاقتصادي العالمي، المسؤول الأول عما ألمّ بكوكبنا، ليضع أنظمة جديدة تسير اللعبة، وتصبّ في مصلحة رأس المال والحسابات البنكية، دون النظر إلى المعاناة التي يتكبّدها فقراء العالم جرّاء هذا الدمار الشامل.
حيث قرر الفيفا زيادة عدد فرق كأس العالم للرجال من 32 إلى 48 فريقاً، وكأس العالم للسيدات من 24 إلى 32 فريقاً، وكأس العالم للأندية من سبعة إلى 24 فريقاً، وإنشاء بطولة جديدة هي "دوري الأمم الأوروبية"، ثم توسيع عدد فرق كأس الكونكاكاف من 12 إلى 16 فريقاً، وبطولة كأس الأمم الأفريقية وكأس آسيا من 16 إلى 24 فريقاً، ما من شأنه زيادة البصمة الكربونية لكرة القدم بالتبعية، خاصة مع زيادة المباريات والتنقلات، نظراً لزيادة الملاعب والجماهير.
وفي هذا الصدد؛ تشير أبحاث "بي بي سي سبورت" إلى أن توسيع قاعدة المباريات سيؤدي إلى سفر المشجعين والفرق لمسافة تقارب 2 مليار ميل جوي، ما ينتج عنه قرابة 500 ألف طن من الغازات الدفيئة سنوياً، وهي زيادة هائلة بالنظر للتقارير السابقة.
ولمعرفة الفارق، إليك هذا المثال: كانت انبعاثات الكربون الناتجة عن سفر المشجّعين في دوري أبطال أوروبا موسم 2022/23، تُقدر بـ 368 طناً تقريباً ناتجة عن 32 فريقاً، أما في الموسم القادم فمن المتوقع أن تصل إلى 480 طناً، لزيادة عدد الفرق إلى 36 فريقاً، وهنا سيظهر سؤال هام: هل فكر الاتحاد الدولي في خطورة تلك التغييرات على البيئة؟
بالطبع لا، فهو غير معني بتلك المسألة أصلاً، وحتى عندما حاول الإجابة عن التكهنات بشأن عن إقامة كأس العالم 2026 في أكثر من دولة، وما سينتج عن سفر الجماهير لآلاف الكيلومترات بين شمال كندا وجنوب المكسيك، ارتكزت إجابته على المكاسب المالية الناتجة عن زيادة الشريحة الجماهيرية فقط، ودون أن يضع أي اعتبارٍ للانبعاثات الكربونية الناتجة عن هذا الأمر، ما يجعل من دعوات الفيفا البائسة لمجتمع أخضر ونظيف، محض أفكارٍ لذرّ الرماد في العيون فقط.
بينما يحترق العالم بفعل "الاحتباس الحراري"، يجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم، ليضع أنظمة جديدة تسير اللعبة، وتصبّ في مصلحة رأس المال والحسابات البنكية، دون النظر إلى المعاناة التي يتكبّدها فقراء العالم جرّاء هذا الدمار الشامل
قاع الحضيض
هل لازلت مندهشاً من هذا العبث؟ لا تقلق؛ وفتّش عن رأس المال لتجد السبب، وتبدأ في الوصول إلى المعضلة الكبرى؛ أن اللعبة برمتها تعتمد في رعايتها على شركات النفط والغاز بشكل أساسي، حيث ترعى شركة "غازبروم" الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، وتدعم شركة "طيران الإمارات" نادي ليون الفرنسي، أضف إلى ذلك مصانع المياه الغازية، الداعم الأول لأكبر الأندية الأفريقية مثل "الأهلي" المصري، والراعي الرسمي لبطولة كأس العالم منذ عام 1978، وإلى عام 2030، وربما إلى أجل غير مسمّى.
تلك الشركات تستهلك وحدها أطناناً من الوقود الأحفوري، كما أنها السبب الأول في إنتاج الملايين من العبوات البلاستيكية الملوّثة للمياه والمدمّرة للثروة السمكية، كما أن بعضاً منها، وعلى رأسهم كوكاكولا، تدعم وتموّل الجيش الإسرائيلي رسمياً، في رحلته لإبادة الشعب الفلسطيني بأطنان من المتفجّرات الملوثة للبيئة -إسرائيل تدمر كل شيء حرفياً، البشر والحجر والنبات والبيئة، لذلك فمصطلح "الإبادة الجماعية" معبر للغاية، نظراً لأنها تبيد مقدرات المنطقة بالكامل- على أن تغازل مشاعر جماهير كرة القدم بأوهام الانتماء للكيان وروح القميص، لتمرير أفعالها المدمرة للطبيعة لكن المدرّة للدخل.
ورغم ذلك؛ فلا يريد أحد منَّا تشييع جنازة اللعبة للأبد، خاصة وأن كمية الانبعاثات الناتجة عنها، قليلة نسبياً إذا ما قورنت بالانبعاثات الناتجة عن الصناعات الحربية مثلاً، كما أن العالم لم يزل بحاجة إلى كرة القدم، كمنتج ثقافي وكحالة جميلة تخلق في قلوبنا مشاعر مختلطة من الفرح والحزن والفخر والشفقة، مشاعر إنسانية خالصة لن نجدها إلا بين جنبات المستطيل الأخضر.
ولكن أيضاً لا أحد يريد أن تتلطخ يديه بدماء الكوكب، أو أن نوصم في التاريخ أننا الجيل الذي فضل عيش حياة قصيرة مليئة بالدوبامين والإثارة، على حساب بقاء الجنس البشري كلية؛ ولذلك يتعين علينا أن نقرّر مدى أهمية كرة القدم حقاً، وأن نتبنى تغييراً جذرياً، تغيير يبدأ بإنهاء سيطرة تلك الشركات الجشعة على مقدرات اللعبة، ثم إعادتها إلى يد محبيها فعلاً. أحلام بعيدة المنال؟ حسناً، لا يهم؛ يمكننا أن نستكملها على أي حال: كما يجب إقرار نظام واضح يجعل اللعبة خضراء بالكامل، ثم بعدها نبدأ في حوار مجتمعي يفتح مناقشة جادة حول كرة القدم التي نريدها، ونحتاجها، ويمكن للعالم تحملها.
كما يمكننا أيضاً طرح بعض الأسئلة من قبيل: هل كأس العالم بمشاركة 16 فريقاً فقط، بدلاً من 48، أمر سيء؟ هل يمكننا أن نعيش بمباراة أو اثنتين في اليوم الواحد، على أن نتابعهم بشغف، بدلاً من 10 مباريات لا نشاهد منهم شيئاً بشكل فعلي؟ هل يمكننا تبني فلسفة "less is more"؟ والأهم؛ هل يمكننا التوقف عن عبادة الدوبامين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...