شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فاجرات نبيع أجسادنا

فاجرات نبيع أجسادنا"... قصص مؤثرة لبائعات الخبز في دمشق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الاثنين 29 أبريل 202402:06 م

في طرقات العاصمة دمشق، وخاصة حول أماكن انتشار الأفران سنجد "بائعات خبز"، وهن صاحبات مهنة جديدة قديمة، زادت أعدادهن نتيجة لأزمات الخبز المتعاقبة في سوريا.

تبدأ البائعات العمل من ساعات الصباح الباكر، وقد يمتد يومهن إلى ساعات المساء بحسب "الغلّة"، لكن اللافت أن هذه المهنة كانت دائماّ من نصيب النساء.

في جولة قصيرة في محيط "أفران ابن العميد" الشهيرة في العاصمة دمشق، يمكن أن نلاحظ عدداً كبيراً منهن، هناك التي تضع الخبز على رأسها، وهناك من تستند على طرف إحدى السيارات المركونة في المنطقة، وهناك من تفترش الطريق بربطات الخبز. وما إن تقف سيارة واحدة على الطريق حتى يتجمعن حولها، "بدك خبز؟".

"فاجرات، نبيع أجسادنا خلف الخبز"

"نحن واقفات بهالشارع، فكرك إجا مين يسألنا إذا في حزن ومأساة؟ ونحن كلنا حزن ومأساة". لم تتردد أم أحمد لثانية بأن تقترب مني وتحدثني عن عملها في بيع الخبز، تقول لرصيف22: "فاجرات، نَوَر، نعمل بأجسادنا، ونبيع جسدنا خلف بيع الخبز، هكذا ينظر لنا الشارع اليوم، ولكني لم أعد أكترث لكل هذا الكلام، فهناك أطفالي الثلاثة في المنزل ينتظرون عودتي، قد أبيع الخبز وليس لدينا لقمة خبز واحدة في البيت".

وتضيف: "أكثر مهنة تفضلها الأم هي أن تربي أولادها ولكن بوضعنا الحالي هذا مستحيل". 

أم أحمد: "لدي أطفالي الثلاثة في المنزل لأطعمهم، وهم ينتظرون عودتي يومياً بالغلة، قد أكون أبيع الخبز للناس وليس لدينا لقمة واحدة منه في البيت". 

تعيش أم أحمد في منزل مؤجر في عشوائيات دمشق، بعد أن هُجرت من المنطقة الشرقية أثناء الحرب، أكبر أطفالها في الصف السادس أي أن عمره يقارب الـ11 عاماً، أما زوجها فهو موظف راتبه الشهري لا يتجاوز الـ200 ألف ليرة أي حوالي (15.4 دولار).

تقول الناشطة والباحثة في الشأن السوري وحقوق المرأة سلوى زكزك لرصيف22 إن هذه المهنة تندرج ضمن المهن الهامشية غير المحمية للنساء، والسبب الأساسي لنشوء هذه المهن عموماً هو الفساد وصعوبة الحصول على الخبز والبطاقة الذكية والطوابير، مضيفةً: "لا أعتقد أن المبالغ المادية التي يحصلن عليها كافية لإعالة العائلة، هذه المهنة غير ملائمة للنساء لأنهن يتعرضن للتحرش والتمييز".

وعن استمرارية هذه المهنة تؤكد زكزك أنه من الممكن أن تختفي إن أصبح تأمين الخبز سهلاً وليس بحاجة لوساطة، لأن عمل بائعات الخبز بين البائع والمستهلك ومثل هذه الأعمال فيها امتهان للكرامة، وهدر للوقت، ولا تنتهي إلا لدى حل أزمة الخبز. 

رحلة الشتاء والصيف 

تقول لين، وهو اسم مستعار لإحدى البائعات: "في الصيف تصبح الشمس حارقة جداً، وقد تركت علاماتها على وجهي لتذكرني كل يوم بأنني أعمل في بيع الخبز، أما شتاء، فقد تنخفض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر أحياناً، أذكر أنني في أحد الأيام الباردة لم أعد أشعر بأطرافي، وظننت أنها تجمدت، لكنني بقيت حتى بعت ربطتي الأخيرة وغادرت المكان".

وتؤكد لرصيف22 بأنها حاولت العمل في العديد من المهن سابقاً، ولكن مدخولها لم يناسب احتياجاتها في ظل الغلاء التي تشهده البلاد، مشيرةً إلى أن في عهدتها ثلاثة أيتام بحاجة لإطعامهم بعد وفاة زوجها. 

البعض لا يمتلك الوقت الكافي أو أن وضعه الصحي لا يسمح بالوقوف لساعات في طوابير انتظار الخبز خاصة في وقت الذروة، لذا يفضّل هؤلاء شراءه من البائعات توفيراً للوقت والجهد، حتى وإن كان بسعر أعلى من الفرن، أو كان مرصوفاً على الشارع ومشكوكاً بنظافته   

أما مريم وهو اسم مستعار فتقول: "أتنقل من عش الورور إلى ركن الدين يومياً، أقضي يومي من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساءً على قارعة الطريق، هناك من يقول إننا نسرق الخبز، ونخرّب الواقع الاقتصادي، ولكن بيتي ما في ألف ورقة، ما في صوبيا، ولا طبخة لولادي، وطفلتي بحاجة لحفوضات يومياً". 

بدأت مريم العمل في بيع الخبز منذ عام الـ2011 عندما هُجرت كما تروي لرصيف22، وتضيف: "تغيرت الأحوال علينا، بنظر الناس نحن متسولون ولكن أتمنى كل يوم أن أعود إلى الديار، لأن هذه الأرض ليست لنا"، مبينةً أنها قبل الحرب كانت تعيش في إحدى مناطق ريف دمشق، وهجرت مع عائلتها من منزلها.

لسنا متسوّلات  

تقول أم محمد التي تداوم في محيط أفران "ابن العميد" في دمشق، إن لديها 6 أبناء والدهم مختف، وبينما يتحكم التجار الكبار بالبيع تعمل هي وبقية البائعات من أجل كسب المصروف اليومي. ينظر الناس إلى مهنتهن على أنها تسول، إلا أنها تؤكد أن هذه المهنة جعلتهن في غنى عن الحاجة هن وأولادهن.

تعيش أم محمد وأطفالها في غرفة بالإيجار في منطقة "عش الورور" شرق دمشق، يمكن توصيف وضعها الصحي بالجيد، فهي لا تزال قادرة على الوقوف لساعات طويلة لدى الأفران للحصول على الخبز ومن ثم بيعه. وتتابع: "البشر بقولوا هدول ما بيشبعوا مال، ولكن نحن مو مبسوطين بوقفتنا بالشارع، وبدنا نرجع عبيوتنا، هالأرض مو إلنا".

أما فاتن التي تجاوزت الـ15 عاماً، فتقول إنْها تعمل في هذه المهنة مذ كانت في الثامنة هي وعائلتها، وإنها تحبها وإنّ غلتها يومياً نحو الـ100 ألف ليرة (8 دولارات)، إلى جانب أنها تستطيع اختيار ساعات العمل التي تناسبها كما تقول لرصيف22، "حاولت أن أعمل في وظائف أخرى ولكن الراتب أقل، وهناك من يتحكم بأمري، ولا يمكني تحمل هذا". 

 القانون السوري يعاقب ممارس مهنة بيع الخبز بالسجن سنة على الأقل وغرامة مليون ليرة سورية (77 دولاراً)، وذلك للمتاجرة بمواد "البطاقة الذكية".

تعيش فاتن مع عائلتها في أعلى "ركن الدين" في دمشق في العشوائيات حيث تعمل العائلة كلها في هذه المهنة، وتعاني والدتها من وضع صحي يدفعها للعمل المستمر لتأمين مستلزماتها الدوائية. وتكشف أنها تتعرض للكثير من المضايقات يومياً قرب الفرن، وأثناء البيع على الطريق، معلقةً: "لا أعير هذا الأمر انتباهاً، أضع كامل مكياجي، وأخرج للشارع، وإن لحقتني دورية التموين أهرب، وقد اتقنت الأمر مع الوقت، وإن اضطررت أختفي لبضعة أيام، وأعود بعدها إلى البيع".

ويشار إلى أن القانون السوري يعاقب ممارس مهنة بيع الخبز وفقاً للمرسوم 8 بالسجن سنة على الأقل وغرامة مليون ليرة سورية (77 دولاراً)، للمتاجرة بمواد "البطاقة الذكية".

مهن غير محمية للنساء

وترى زكزك أن الأعمال الهامشية تكثر أثناء الأزمات وبوجود الفساد، وفي ظل عدم امتلاك النساء لفرص عمل كريمة، أو حصولهن على التعليم، ولا تتوقف أبداً، على العكس يمكن أن تزداد وتكون الحصة الأكبر منها للنساء، ما يضعهن دوماً في الأماكن الأكثر خطراً وبؤساً.

وعن مشاهداتها اليومية للبائعات لفتت زكزك إلى أنها اجتمعت أكثر من مرة بهن، إذ تبدو ملامح التعب واضحة على وجوههن، لأنهن يخرجن منذ ساعات الصباح الباكر، أما الصغيرات منهن فيبدأن رحلة الشقاء باكراً، إلى جانب أن بعضهن يعدن إلى المنزل ويأكلن الخبز القديم. 

تقول: "الناس ينظرون إلى بائعات الخبز بطريقة سلبية ودونية، والتعاطف قليل جداً، وبعض الناس يصفونهن بالوقاحة، ولكن من وجهة نظري من الطبيعي أن يكنّ كذلك، فطبيعة عملهن تفرض عليهن هذه الشخصية، ولكن غير مطلوب تحسين وجهة نظر المجتمع لبائعات الخبز ولكن تحسين واقعهن، بتأمين أسواق لهن أو عمل آخر، فعملهن الحالي يهدر الوقت والجهد والصحة للحصول على مقابل بسيط، وهو لا يعتبر عملاً بالمعنى المهني".

وعلى خلاف ذلك أشارت زكزك إلى أن بعض الناس يشيدون بعمل البائعات لأنهن لم يلجأن للتسول، ولكن يظل من الصعب تغيير النظرة السائدة عنهن.

ورأت أن تأثير هذه الظاهرة على المجتمع يبرر وجود نساء على قارعة الطريق في ساعات الليل المتأخرة، والصباح الباكر، والعيش على هامش الفساد، ويبرر أن يصبح الخبز أغلى ثمناً وأقل نظافة، فهو ينشر على الأرصفة وفي الشوارع، لافتة إلى أنه لا ينبغي أن يكون هناك حبس على هذه المهنة، لأنه يفتح باب الفساد عن طريق تقاضي مبالغ مالية مقابل السماح لهن بالبيع. 

"فاجرات، نَوَر، نعمل بأجسادنا، نبيع جسدنا خلف الخبز"... هكذا تصف بعض البائعات نظرة الشارع لهن، وتعرضهن للتحرش والمضايقات من قِبل البعض نتيجة الوصمة التي لحقت بهن من هذه المهنة، والتي تقتضي الوقوف في الشارع لساعات طويلة 

يختلف سلوك المستهلكين في الأسواق بين من يشتري الخبز من البائعات، وبين من يفضل جلبه من الفرن مباشرةً. رصيف22 التقى بعض الأشخاص الذين انقسمت آراؤهم، فهناك بعضهم ممن يتعذر عليه الشراء من الفرن لصعوبة التوقف على الدور والانتظار لساعات، بالتالي يجد أمر الشراء من البائعات مريحاً، خاصة في ساعات الذروة.

بينما تقول أخريات إنهن لا يفضلن الشراء من البائعات لأنه ينتشر على أطراف الشوارع، ويتعرض للكثير من الأوساخ والتلوث. في حين يلفت البعض إلى وجود تواطؤ بين العاملين في الأفران والبائعات، إذ يقومون بإيقاف البيع على الدور النظامي للسماح للبائعات بالشراء، ويخصصون كميات كبيرة من ربطات الخبز لهن.

يباع الخبز في الأفران بسعر 400 ليرة للربطة الواحدة للعائلات المدعومة (0.03 دولار)، أما لغير المدعومة فقد يصل سعره إلى 3000 ليرة (0.23 دولار). وتشتري البائعات الخبز على البطاقة الذكية بعد جمعها من أصحابها، أو يمكن أن تتفق البائعة مع بائع الخبز وتشتري الربطة بـ 600 ليرة (0.05 دولار)، وتبيعها بين 4000 و 5000 ليرة أي (0.35 دولار) بالمتوسط، ما يجعل لديها نسبة ربح عالية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard