اشترت حنان سترةً إيطالية الصنع من محل لا يتجاوز طوله خمسة أمتار بما يعادل 3 دولارات من محل في حي الجراف الشرقي في العاصمة صنعاء، بينما لم تستطع زيارة طبيب الأسنان لوضع حشوة بديلة لتلك التي سقطت قبل نحو عام. تقول لرصيف22: "لديه بضاعة لم تصل إليها يد زبون. للتو دفعت 14 دولاراً مقابل عجينة الحشوة، بينما اشتريت هذا الجاكت الأنيق بـ 3 دولارات، لو أنني فاصلته لخفّض الثمن".
في اليمن، يمكن للبعض أن يحصلوا على متطلبات الحياة المعيشية من سلع وبضائع في حدها الأدنى رغم ارتفاع الأسعار ومحدودية - وأحياناً انعدام - الدخل بفضل وجود محلات "التخفيضات" بعد سنوات من الركود الاقتصادي كسدت فيها السلع بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت 2014 ولم تخمد حتى الآن.
يقول البائع في هذا المحل، الذي لا تعلوه لافتة، لرصيف22: "أبيع القطعة من دولار إلى 5 دولارات، وكل قطعة متفرّدة (سمبل). تأتينا حاويات ملابس تباع بالطن. أستطيع أن أبيع قطعة الملابس بربع دولار، كل سبت أفتتح (برندة)".
تتكدس البضائع في محل توفيق للتخفيضات حد تحوله إلى مخزن، يقول البائع: "هذه بضاعة واردة من دبي، لدينا ملابس براند (من ماركات عالمية) ومقاسات تناسب الجميع، مدون سعرها في (الليبل)، نوحد السعر ونبيعها بخسارة لأن الوضع المعيشي للناس صعب، ولم يعد لدينا مكان للتخزين".
يبحث المترددون على المحالّ التجارية والبسطات - في ما يُعرف بـ"تجارة الرصيف" - عن كل ما رخص ثمنه وإن خصماً من ثمن الطعام. تقول أم عبد الرحمن: "في سوق الحصبة الشعبي أي قطعة مهما كان نوعها بـ100 ريال (الدولار الواحد يزيد عن خمسة أضعاف المبلغ)... بالمائة ريال لا أستطيع شراء علبة زبادي لا تكفيني وحدي بينما اشتريت ولاعة ستدوم طويلاً".
برغم أن اليمن بلد نامٍ لكنه لا يدعم منتجاً غذائياً أو دوائياً واحداً، بما في ذلك حليب الرضع رغم تفشي هشاشة العظام والهزال وسوء التغذية الحاد والوخيم… البعض يُفضّل أن يشتري سلعة تُستخدم وقتاً أطول على طعام لن يُشبعهم سعره أغلى
تباع مستحضرات التجميل بسعر موحد، ألف ريال (أقل من دولارين)، في محالّ "التخفيضات"، في حين أن طبق البيض يصل أحياناً إلى 2200 ريال (نحو أربعة دولارات). وتغزو السلع الصينية الأسواق لرخص ثمنها دونما التفات لجودة التصنيع، ومدى ملائمتها صحياً وبيئياً. المنتجات التركية واليابانية والكورية والتايلاندية والبنغلاديشية متاحة أيضاً لمن يفتشون عن السلع وسط أكوام البضائع فيما لا يمكن الحصول على منتج غذائي أو دوائي بسعرٍ مخفض، بل تنافس الأغذية والأدوية المحلية المنتج الأوروبي في السعر رغم فارق الجودة.
المثير أنه حتّى انتهاء صلاحية السلعة الغذائية أو الدوائية لا يخفض من ثمنها بل فسدت الفواكه والخضروات أمام أعين المزارعين والبائعين في انتظار من يشتريها، ربما هذا ما دفع السلطات في العاصمة إلى إصدار قرار منع تصدير لمدة شهر لمناسبة شهر رمضان المنقضي، مع استثناء الموز والبصل. مع ذلك، فإن سعر أربعة كيلو موز بـ1000 ريال (أقل من دولارين).
في حين أن البلد زراعي، ويتجه للاكتفاء الذاتي بزراعة محاصيل لم تكن تُزرع مثل اللوز والكيوي، يظل ثمن كيلو الزبيب مثلاً ثمانية آلاف ريال (15 دولاراً)، ما يدعو للتساؤل عما لو كان بإمكان جميع اليمنيين تذوّق زبيب "عنب اليمن" وكثر منهم تعذر عليهم شراء "بلح الشام" في رمضان؟
تشير التقديرات الأممية إلى أن ثلثي اليمنيين لا يستطيعون شراء ما يحتاجون من الأطعمة، وبالكمية التي تُشبعهم وتُشبع عائلاتهم، وذلك على مدار السنة، وهو ما دفع الكثير من البائعين إلى يبيع "كيلو مشكل خضار". وارتبط شراء الكيوي والإجاص بشريحة مرتفعي الدخل والأثرياء رغم أنها فاكهة محلية ومتوفرة بكميات لا بأس بها. كما ارتبط شراء الأناناس المعلب بالفوائد الصحية لبعض المرضى مع أن ثمنه أقل من دولار ونصف. علماً أن متوسط الدخل اليومي للفرد كان أقل من دولارين في زمن الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي النسبي قبل 2011.
وبات مألوفاً أن يُشاهد طفل يشتري لنفسه حبة خيارٍ أو بطاطاً مسلوقاً أو خبزاً بسبب الجوع الذي يدفعه لشراء الطعام لا الحلوى. وفق منظمة الصحة العالمية، "يعاني ما يقرب من نصف أطفال اليمن دون سن الخامسة من التقزُّم المعتدل إلى الشديد، أي ما يقرب من 2.4 مليون طفل".
وعن فائض الإنتاج الزراعي وارتفاع الأسعار، يقول البائع مهدي عايض: "لقد فسد البرتقال واليوسفي في موسم الشتاء رغم ازدحام المدينة. بعدما كان الناس يأتون لانتقاء أفضل ما في الصندوق، أصبحت أجيب عن سؤال 'بكم الكيلو' أكثر من ما أبيع".
حتّى شاحنات الفواكه والخضروات التي تجوب الأحياء مناديةً بالأسعار التفصيلية لكل صنف، مرفقة بعبارة "يا بلاش" لم تفلح في جذب المشترين. يرى مواطن عبد الإله أن السعر رخيص لكن أولويات المعيشة تحكم الناس، فجميع المشتريات تخضع لعملية حسابية. يقول لرصيف22: "بأعجوبة نستطيع دفع الإيجار والمياه والكهرباء بكلفة 80 ألفاً (150 دولاراً) شهرياً. لكنني أشتري الفاكهة عندما يطلب أحفادي".
"في صدارة مخاوف اليمنيين"
"في مواجهة الفقر المتصاعد وانعدام الأمن الغذائي المتزايد، تلجأ العديد من الأسر اليمنية حاليًا إلى بعض التدابير القاسية، بعد أن استنفدت شبكات الأمان التقليدية. ومنذ بداية الصراع، أدى الارتفاع الكبير في أسعار السلع الأساسية، لا سيما المواد الغذائية، إلى دفع انعدام الأمن الغذائي إلى صدارة المخاوف في اليمن" وفق أحدث بيانات مجموعة البنك الدولي في اليمن.
في اليمن، تُباع مستحضرات التجميل بسعر موحد، ألف ريال (أقل من دولارين)، في محلات "التخفيضات"، في حين أن طبق البيض يصل أحياناً إلى 2200 ريال (نحو أربعة دولارات). وتغزو السلع الصينية الأسواق لرخص ثمنها دونما التفات لجودة التصنيع، ومدى ملائمتها صحياً وبيئياً فيما لا يمكن الحصول على منتج غذائي أو دوائي بسعرٍ مخفّض
ويصف برنامج الأغذية العالمي أزمة الغذاء في اليمن بأنها "أشد الأزمات خطورة" حيث يعاني 17 مليون يمني من انعدام الأمن الغذائي. في كانون الأول/ ديسمبر 2023 أوقف البرنامج دعمه بسبب نقص التمويل من الجهات المانحة.
اللافت أن سعر الدواء يبقى أقل ثمناً من الغذاء. وفي معرض رده على سؤال: لماذا يكون الغذاء أغلى من كل متطلبات المعيشة في بلد زراعي تتوفر فيه الخضر والفاكهة وغيرها؟، يقول الخبير في مجال الاقتصاد الزراعي من جامعة صنعاء، عدنان الصنوي، لرصيف22: "بقدر ما تكون الأرض مملوكة للدولة تنخفض أسعار الفواكه والخضروات أكثر. لكن لم يتبق للدولة إلا القليل من الأراضي الصحراوية، لذلك قد يتحكم في السعر المزارع الذي سيضع ثمناً مربحاً له بالأساس. مع ذلك، فإن ثمنها في اليمن منخفض قياساً إلى دول العالم رغم جودتها، والتحدي هو في زراعة الحبوب كالقمح والشعير؛. ينسب الصنوي حجم الإقبال المنخفض على شراء الخضروات والفاكهة إلى ضعف وهشاشة دخل المواطنين.
برغم أن اليمن بلد نامي لكنه لا يدعم منتجاً غذائياً أو دوائياً واحداً، بما في ذلك حليب الرضع رغم تفشي هشاشة العظام والهزال وسوء التغذية الحاد والوخيم، وفقاً لمنظمات أممية إغاثية ومنها اليونيسيف.
واكتفى بعض المسؤولين، في حكومة الحوثيين في صنعاء، بالقول إن الرقابة لا تخفض ثمن الغذاء والدواء إن كان سعرهما مرتفعاً من المصنع أو المورد حيث مدخلات وخطوط الإنتاج هي التي تحكم المسألة، معتبرين أن المشكلة في انعدام الدخل وتوقّف الرواتب والحصار.
لا تنخفض أسعار المنتجات الغذائية المصنعة والدوائية حتى عندما تنتهي صلاحيتها. عن ذلك يقول خالد المحيا، أحد الصيادلة في التحرير، لرصيف22: "تعود الأدوية للوكلاء ولتاجر الجملة". حصلنا على رد مشابه من أحد العمال في مول "سيتي مارت" للسلع الغذائية، مفسراً "مهما انخفض ثمنها سنعيدها للمورد كونها كماليات، ربما تتم إعادة تصنيعها بخلاف الملابس والبلاستيك فإن صناعتها غير مكلفة، وتخضع للموضة".
في الأثناء، يوضح الخبير المالي والاقتصادي، أحمد سعيد شماخ، رئيس مؤسسة الإعلام المالي والاقتصادي للدراسات والاستشارات، لرصيف22، عن حقيقة السعر المرتفع للغذاء والدواء قياساً إلى متطلبات المعيشة الأخرى، "الوضع في اليمن مختلف، المنتجات المحلية الغذائية منخفضة السعر إلى أبعد حد لكن انعدام وانخفاض القدرة الشرائية يحول دون شرائها، فالمنتجات الغذائية أو الدوائية لا يشتريها المستهلك في اليمن إلا بقدر ما يجعله يحافظ على البقاء. تصل فاتورة الاستيراد أحياناً إلى 13 و14 مليار ريال يمني سنوياً، وتُضاف الرسوم الضريبية والجمركية والإتاوات إلى ثمن السلعة. لكن يمكن تخفيض سعر المنتجات الكمالية، فالسوق عرض وطلب، وما يستورد ما بين مغشوش، ومقلد، ومحكوم بمدة زمنية للتلف".
ويضيف شماخ: "لم تستطع السياسات الحكومية السيطرة اقتصادياً حيث ما يزيد عن 80% من النقد يدور ويستثمر خارج القطاع المصرفي والدورة الاقتصادية، فمن يحكم السوق هم تجار الحرب، وأيادٍ خارجية تقود الاقتصاد غير الأخلاقي، السوق الموازية (السوق السوداء) في ظل اقتصاد الحرب. ويمارس القطاع الخاص الذي يملك المخزون الغذائي الجشع والاحتكار في ظل غياب الأجهزة الرقابية، وهيئة المقاييس والجودة، وتدني ثقافة المستهلك، وتراجع قيمة العملة المحلية إلى أدنى المستويات، ولكون اليمن بلداً نامياً لم يعد لدينا احتياطي نقدي، وتوقف التصدير للخارج خصوصاً تصدير النفط والغاز الذي كان يشكل أكثر من 75% في موازنة الدولة".
في صنعاء، "لم تستطع السياسات الحكومية السيطرة اقتصادياً… فمن يحكم السوق هم تجار الحرب، وأيادٍ خارجية تقود الاقتصاد غير الأخلاقي في ظل اقتصاد الحرب. ويمارس القطاع الخاص الذي يملك المخزون الغذائي الجشع والاحتكار في ظل غياب الأجهزة الرقابية، وهيئة المقاييس والجودة، وتدني ثقافة المستهلك، وتراجع قيمة العملة المحلية إلى أدنى المستويات"
نتيجة لذلك، أصبح اقتصاد اليمن ومعيشة الناس معتمدان على تحويلات المغتربين والمساعدات الإنسانية للمنظمات بدرجة أساسية. وهو ما يتطلب لعلاجه "وقف الحرب، وإعادة خطوط الإنتاج وبجودة تنافس السلع الأجنبية، وإيقاف التدهور في الجانب الاقتصادي والنقدي، وإعادة تكوين احتياطيات نقدية، وتوحيد مؤسسة البنك المركزي، واستئناف التصدير للخارج، والتوقف عن استيراد مخلفات الصناعات"، وفق المصدر نفسه.
حتّى نهاية عام 2021، خسر اليمن 126 مليار دولار أمريكي من الناتج المحلي، وفقد أكثر من 600 ألف شخص وظائفهم في سنوات الأزمات منذ عام 2011، وتحديداً بعد اندلاع الحرب الأهلية اليمن في عام 2014. ووفق مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أكثر من 20 مليون يمني يعيشون في فقر مدقع، ويعتمدون كلياً على المساعدات الآخذة في التناقص. في حين أن قرابة ثلثي اليمنيين (21.6 مليون يمني) لا يمكنهم الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية أو الحد الأدنى من الغذاء أو المأوى.
ختاماً، وبدون صرف منتظم للرواتب، وحلول جذرية لمكافحة البطالة المتفشّية، سيظل اليمنيون مضطرين لشراء البضائع المستوردة الرديئة أو المستعملة، كما سيبقون غير قادرين على تأمين منتجات الغذاء والدواء الضرورية لحياتهم ولصحتهم، هم وأسرهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون