أعطِها ما شئت من الأسماء والأوصاف، فهي المدينة التي تنام على صخرة كلسية صلبة، تربطها بالعالم الخارجي سبعة جسور عملاقة، كل جسر منها يحمل ثقلاً تاريخياً وقصةً تُروى. سكنها الفينيقيون فسمّوها "سيرتا"، والقرطاجيون فسمّوها "ساريم باطيم". أما اليوم، فتُعرف بمدينة قسنطينة، وهو الاسم الذي أطلقه عليها بعد أن أعاد بناءها، الإمبراطور قسطنطين سنة 313م، ولا تزال تحتفظ به. تغنّى بها الشعراء والأدباء، إذ خلّدها نزار قباني بقصيدة وقال عنها: "إنها المدينة التي يشعر فيها الإنسان بالرّعب، عندما يمرّ فوق جسورها. ولكنها في ذات الوقت المدينة التي لها قدرة إرغام الإنسان على حبها والتعلق بها"، وتفنن في وصفها مفدي زكريا، ونسجت تفاصيلها ونقلت توابل أزقتها وروائحها الروائية أحلام مستغانمي في ثلاثيّتها الشهيرة، وكانت منطلقاً لشعاع العلامة عبد الحميد بن باديس، فكانت على حق عاصمةً للعلم والعلماء والتراث والحرف.
رائحة النحاس أول النبض
من جهة أخرى، تُصنَّف المدينة كوجهة للصناعات التقليدية والحرفية النادرة، وعلى رأسها تلك التي من النحاس الذي ليّنته أيادي حرفييها وجعلته بمثابة العجينة الطرية التي يسهل التحكم في تفاصيلها الصغيرة، وهي الأجزاء التي تصنع الشكل النهائي، فتكون التحفة جاهزةً لتروي قصتها وعلاقتها مع الجمال والنبض.
تُصنَّف قسنطينة كوجهة للصناعات التقليدية والحرفية النادرة، وعلى رأسها تلك التي من النحاس الذي ليّنته أيادي حرفييها وجعلته بمثابة العجينة الطرية التي يسهل التحكم في تفاصيلها الصغيرة
المارّ بشارع النحاسين الواقع في قلب المدينة، لا بد له أن يشمّ ما لا رائحة له، أي النحاس الذي يلمع كلما داعبه خيط من خيوط الشمس، فيشابه الذهب ويحاكيه. وإن كان الأخير معدناً نفيساً، لكنه لا يحكي ولا يُخزّن إلا الحاضر المعيش. أما النحاس فهو المعدن الذي يؤرّخ للماضي والحاضر، ويرسم للمستقبل طريقاً محفوفةً بالحب والحكايات والبطولات والأحجيات.
أعود وأقول إن كل من يمر بدكاكين سوق النحاسين لا بد أن يسمع ذاك الضجيج المشتهى، حيث أيادي الحرفيين تمسك بالدقماق الخشبي أو المطاطي وأدوات النقش، كل واحد فيهم يركّز في إنائه، ينقش بإزميله تفاصيله بكل حب، ويضع على ركبته الصفيحة أو فوق "المزبرة" أو "الزبرة" كما يسميها البعض، وينكبّ عليها ويسارع الزمن لتكتمل وترى النور، حتى يعلقها على جدران المحل بعد أن تصبح لوحةً مكتملةً، ويلتقطها زبون ويسافر بها إلى مدينته، لتصبح ذات قيمة جمالية أكبر وأوسع، وتؤدي ما لها وما عليها من رسالة محملة بخبايا المدينة وسحرها.
وقبل الحديث عن التحفة والتذكار النحاسي الجاهز، لا بد لنا أن نرحل في أعماق هذه الحرفة، ونكتشف كنهها وعالمها الخفي، من خلال العودة إلى الوراء، لنكتشف صناعة النحاس والمراحل الدقيقة والمهمة والمعقدة التي مر بها، وأولها عملية اقتناء المادّة الخام، التي تعكس نوعية النحاس الذي ينقسم إلى نوعين؛ الأصفر والبرونزي، وكل نوع له من الخصائص والمكونات ما يناسب عيّنات وأشكالاً معينةً ويتلاءم معها، تليها مراحل أخرى، من بينها عملية الرسم ثم النقش بآلات مختلفة ومتعددة، بعدها تأتي مرحلة الترميل، والأخيرة يعتمد من خلالها الصانع على إزميل منقّط، يقوم من خلاله بتنقيط الصفيحة، خاصةً إذا كانت المادة المراد نقشها دقيقةً، وهي من المراحل التي تكون اختياريةً، تليها مراحل أخرى لا تقل أهميةً، وهي عمليات الحرق والتنظيف وأخيراً الصقل والتلميع، ليصبح بعدها العمل مكتملاً بعد أن مرّ بالمراحل المذكورة.
في البدء كان النحاس
تعاقبت على صناعة النحاس في مدينة قسنطينة أجيال وأجيال، كل جيل يتوارثها عن الآخر، وكل والد يُورثها لابنه، إذ يعود تاريخ هذه الحرفة إلى القرون الوسطى، إبان تواجد الأتراك في مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر، إذ كانت وقتها قسنطينة عاصمةً لـ"بايلك" الشرق، يحكمها "باي" يتبع "داي" العاصمة، والباب العالي في إسطنبول، وقد تكامل وقتها الأتراك مع الجزائريين، وتقريباً أصبحوا أمةً واحدةً لولا بعض النعرات التي تثار هنا وهناك.
وقد حكم "بايلك" الشرق الممثلة في قسنطينة وما جاورها من المدن، العديد من البايات، أبرزهم صالح باي بن مصطفى الذي حكمها من سنة 1771 إلى غاية 1792، وحوّلها إبان حكمه إلى قطب تجاري وصناعي وفلاحي وحتى سياسي مهم، بعد أن شقّ الطرقات وبنى الهياكل وأنشأ الموانئ، لتصير في فترة حكمه قسنطينة أقوى المدن، ومنارةً جذب للعديد من القوافل التجارية التي تأتيها من كل حدب وصوب، تأخذ من سلعها وتسافر بها، وتبتاع أخرى.
وعليه، قرر صالح باي محاكاة هذه الحركة التجارية النشطة، وتنظيم أسواق المدينة وبناءها، ومن بينها سوق النحاسين الذي يُعدّ من أبرز الأسواق المتخصصة التي خلقها صالح باي، ومن هذا المنطلق ازدهرت هذه الصناعة كثيراً، بعد أن تمازجت أنامل العرب بأنامل الأتراك والأمازيغ، فخلق هذا الاحتكاك ثقافةً متنوعةً في أشكال النحاس.
الأواني وحرفية صانعيها
يقوم حرفيو النحاس بإنتاج الأواني وأشكال الزينة التي تحاكي العديد من المجالات الحياتية المختلفة، ومن بينها ذات الاستعمال اليومي، على غرار الأواني التي تُستعمل في غسل الأيدي والأرجل، وأواني الطبخ والشرب، ومن بينها "الطبسي عشاوات" وهو إناء واسع ذو قبة كبيرة توضع عليه، ويُستعمل هذا الإناء في الأفراح والولائم، لأكل طبق الكسكسي الذي تشترك فيه جماعة من الأفراد، و"البقراج" الذي يُستعمل لتقديم الشاي، و"البابور" ويُستعمل لإعداده.
وفي قسنطينة بالذات يُصدر هذا الإناء صوتاً معيناً عندما يصبح الشاي جاهزاً، على عكس ما هو عليه في المدن الأخرى، كما تتم صناعة مختلف الصينيات التي تُستعمل لحمل أواني الشاي والسكر وحمالات الملاعق، ناهيك عن أباريق المياه، وأدوات الحمام كـ"الطست" و"المحبس" و"المرش" وخلافه من الأدوات الأخرى، وهي كلها مصنوعة ببراعة كبيرة.
حرفة النحاس في مدينة قسنطينة قد أعطت هويةً فنيةً وحرفيةً وتراثيةً مهمةً للمدينة والجزائر بشكل كبير، كونها كانت ولا تزال خزانةً تراثيةً مهمةً يجب على الحكومة الجزائرية ممثلةً في وزارة السياحة والحرف والصناعات التقليدية إعطاءها عنايةً أكبر
أما الأواني التي تُستعمل للزينة فقد أصبحت ذات أهمية كبيرة لدى الحرفيين خلال السنوات الماضية، بعد أن تخلت العديد من العائلات القسنطينية والسياح عن اقتناء الأواني التي تُستعمل في المطبخ، وتوجهوا إلى أواني الزينة التي برع فيها الحرفيون أيّما براعة، ومن بينها الثريات النحاسية والمصابيح الأرضية وحواشي المرايا، والمزهريات، وكلها لوحات فنية مصممة بدقة وعناية كبيرتين، وقد كانت العروس القسنطينية والتي من المدن المجاورة، تشترط على العريس الذي يتقدم لخطبتها جهازاً من جملة ما فيه الأواني النحاسية، لكن هذه العادة وهذا التقليد يتلاشيان مع مرور الزمن، وأصبحت هذه الأواني من الأشياء الاختيارية.
أنواع الزخارف وأشكالها
يُشبع حرفي النحاس في قسنطينة إناءه بالعديد من الزخارف المختلفة، ولا يبخل عليه أبداً، إذ يعطيه كل وقته ليظهر بشكله الفني المميز، وكل إناء يختلف شكله ونوع الزخرف الذي فيه، باختلاف نوعه، إذ تتوزع الأواني بين الزخارف التي تعتمد على الخط العربي المغاربي، أو الزخارف التي تتخذ من أشكال النباتات التي تعكسها أوراق الأشجار أو الأزهار أو الورود، ويسمى هذا بفن التوريق لاعتماده على شكل الورق، أو الزخارف المشبعة بالأشكال الطبيعية، كالنجوم والأجرام السماوية وتسمى بالزخارف الهندسية، لاعتمادها على الأدوات الهندسية وقياساتها الدقيقة، وتتراوح بين ما هو عربي وفارسي.
كما أن هناك الزخرفة الحية التي تعتمد في طريقتها على تداخل الخطوط بكل حرية، ورسم الدوائر بكل تلقائية مراعيةً في ذلك الشكل الحر والانسيابي لها، لتكون العين والذائقة الفنية صاحبتي الاختيار، وأخيراً هناك ما يُسمى بالوحدات الزخرفية الكونية التي تعتمد في أشكالها على ما تجود به أشكال الرياح وحركتها وتشكل السحاب والجبال والبحار.
وعليه فإننا نستنتج أن حرفة النحاس في مدينة قسنطينة قد أعطت هويةً فنيةً وحرفيةً وتراثيةً مهمةً للمدينة والجزائر بشكل كبير، كونها كانت ولا تزال خزانةً تراثيةً مهمةً يجب على الحكومة الجزائرية ممثلةً في وزارة السياحة والحرف والصناعات التقليدية إعطاءها عنايةً أكبر، إذ بدأ التخلي عن هذه الحرفة تدريجياً، في ظل تخبطها في الكثير من المشكلات التي تحول دون تقدّمها وتطورها، برغم أنها تملك من المقومات الفنية والتجارية ما يؤهلها لتصل إلى العديد من محال التحف والتذكارات، لكن هذا ما لم يكن وبقيت هذه الأشكال محصورةً في المدن الجزائرية دون غيرها، وهي بحاجة إلى نافذة يمكن من خلالها توسيع آفاقها لتصبح خير سفير للصناعة الحرفية والتقليدية العربية والإسلامية، وتُحفَظ من التلاشي والاندثار كغيرها من الحرف التراثية الأخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...