كنتُ صغيراً حينما كانتْ جدتي توقظني منذ التماعات الفجر الأولى، كي أرافقها في رحلةٍ تشمل زيارة مراقد الأئمة والأولياء الصالحين في العراق. في الليل كانت تعدّ كلَّ شيء، من أكلٍ وشرابٍ تتطلبهما الرحلةُ الطويلةُ. وقتذاك كان الحملدار (المسؤول عن الرحلة) يتكفّل بنقل الزوّار.
كنا نعبر، أنا وجدتي، الشارعَ الطيني الذي تحيط به أشجارُ النخيل، فيتدفّق الهواء الرطبُ إلى وجوهنا. نسمع أصوات الديك أوّل الفجر، وعواء الكلاب من بعيدٍ، فنرى ضوء الحافلة الكبيرة التي ستطوف بنا حول المراقد المقدسة.
كان لجدّتي طلب واحد، غالباً ما تكرره أمام الشبّاك الحديدي لقبور الأئمة، وهو أن يرجع ولدُها الذي شارك في الحرب العراقية-الإيرانية، وأصبح مجهول المصير حتى كتابة هذه السطور. أرهقها الانتظارُ طويلاً ولم يعد يهمها إن عاد حياً أو ميتاً، كما كنتُ أسمعها وهي تبثّ مناجاتها إلى السماء. وصلنا إلى كربلاء، حيث مرقد الحسين وأخيه العباس وأصحابه الذين قُتلوا معه في معركة الطفّ سنة 61 هجرية. يتكوّن قبرُ الحسين من صحنٍ واسعٍ على مدّ البصر، تعلوه قبةٌ كبيرةٌ من الذهب ينعكس عليها شعاعُ الشمس وتعطي لمعاناً مبهراً، وهي نزهة للعيون.
وتحفُّ بالقبة مئذنتان مطليّتان بالذهب. أما في الداخل، حيث قبر الإمام وابنه عليّ الأكبر، فإن جسديهما، كما يقال، تحت صندوق خشبي مرصّع بالعاج والأحجار الكريمة. وثمة صندوق آخر من الزجاج يحيط به، ويعلو هذا الصندوق شباكٌ مطليّ بالذهب والفضة، ويحتوي على كتابات لأحاديث الإمام الحسين، وآيات قرآنية بالخط الفارسي المعروف بـ"الشكستة". هذه التفاصيل موجودة عند كل قبور الأئمة تقريباً، وغالباً ما تكون قرب هذه الأضرحة قبورٌ أخرى؛ لاعتقاد الناس بأن من يموت ويُدفن في تلك الأمكنة يحظى ببركة الإمام وشفاعته في العالم الآخر.
أدخلتني جدّتي إلى داخل الضريح مع مجموعةٍ من النساء، فقد كنت طفلاً لم أبلغ الحلمَ بعد، وكل ما يتملكني هي الدهشة بالأشياء فحسب؛ كانت تسيل من عينيها دمعةٌ خجولةٌ تنزل على خدّها المتغضّن، وهي تناجي الحسين بحقه عند الله أن يرجع إليها ولدها. يرتفع صوت البكاء والأنين داخل الضريح من قبل النسوة وطلباتهن التي تتوزع بين الإفراج عن السجناء والأسرى، وعلاج المرضى والرزق والذرية، وبعضهن يكتبن حاجاتهن على ورقة ويسقطنها داخل شباك القبر، كأنهن يوجهن طلباتهن إلى أعلى مسؤولٍ في الدولة، مما يوقد في داخلهن جذوة الأمل وامتصاص الحزن الذي أكل صدورهن.
ماتت جدتي بعد عام 2003، ومات معها شوقها المستعر إلى ملاقاة ابنها الذي تمنّت لو أنها فقط شمَّت رفاته. أما القباب الذهبية التي تعكس صفائحها أشعة الشمس في وجوه الناس، الذين يعلقون عليها حبال الأمنيات، فأخذت تزداد وتكبر؛ بسبب العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وأما أنا فلم تكبر في داخلي غير علامات الاستفهام والبحث عن جذور الأشياء.
أول قبّة شُيّدت على ضريح في العراق، كانت على قبر المنتصر بالله بن المتوكل العباسي، في سامراء بناءً على رغبة والدته المسيحية ثم توالى بناء الأضرحة والقبب والمنائر المذهبة في العراق، ونُسجت قصص وأساطير وكرامات كثيرة حول هذه الأضرحة، وتداخل العامل السياسي والاقتصادي والمذهبي في تشييدها وحمايتها
بداية القصة...
لم يكن في عصر النبي محمد، ولا في عصر الخلافة أو الحكومات التي تلت ذلك العصر ما يُعرف بالبناء على القبور، من قباب ومنائر وتذهيب وزخرفة، ولم تكن تقام لها طقوس خاصة. من المعروف أنَّ أول قبّة شُيّدت على ضريح في العراق، كانت على قبر المنتصر بالله بن المتوكل العباسي، في سامراء، الذي توفي في سنة 248هـ، أي في القرن الثالث الهجري، حيث حرصت والدة الخليفة المنتصر -وهي مسيحية تُدعى حبشية الرومية- على بناء ضريح له، بعيداً عن القصر الذي يسكنه، عُرف باسم "قبّة الصّليبية" كما تذكر سعاد ماهر في كتابها "مشهد الإمام علي في النجف". ويقع ضريح القبة الصليبية على الضفة الغربية لنهر دجلة شمال مدينة سامراء التي تبعد نحو 125 كم شمال العاصمة العراقية بغداد. وهكذا كان المنتصر بالله أول خليفة في تاريخ الإسلام يُبرَز قبرُه.
(ضريح المنتصر بالله)
وتأخذ القبةُ أبعاداً فكريةً وفلسفيةً كما يرجِّح بعض الباحثين، حيث أنها تمثّل العمارة الرمزية، فالقبّة تمثّل السماء وأزلية الخير والاتصال بالخالق والكون اللامحدود. أما المكعب الذي تقوم عليه، فيمثّل الأرض باتجاهاتها وفصولها الأربعة والفساد والفناء. ورُمِّزتِ العلاقةُ بين القبة وما ترتكز عليه، بثنائية الخير والشر، وهذه الفلسفة تعود إلى أصول يونانية ومصرية و"رافدينية" سُمّيت (بعمارة المدافن)، وقد أعجب الأمراء والسلاطين بهذه الفلسفة وتبنّوها في بلدانهم.
أما ثاني أقدم الأضرحة ذات القبة في التاريخ الإسلامي، فهو ضريح إسماعيل الساماني، والذي يقع في مدينة بخارى في أوزباكستان. ويُعدّ الساماني المؤسس الفعلي لدولة الساميين في بلاد ما وراء النهر، وكان محط إعجاب الخليفة العباسي المعتضد بالله، إذ اعترف به حاكماً شرعياً لبلاد ما وراء النهر وخراسان. ويرجع تاريخ ضريح الساماني إلى سنة 296 هجرية، وقد بناه في حياته تخليداً لذكرى والده ولكي يُدفن بجواره. وصار هذا الضريح محطَّ تقديس بسطاء الناس الذين يعتقدون أنه وليّ من أولياء الله وراحوا يطوفون حول قبره ثلاث مراتٍ؛ ظناً منهم بأن أمنياتهم ستتحقق جراء ذلك.
(ضريح الساماني)
ويلي هذين الضريحين من حيث القِدم، ضريح الإمام علي في النجف، وكانت طريقة اكتشاف قبر الإمام علي في النجف مثيرةً للسخرية، مما جعل عدداً من رجال الدين والباحثين يشكِّكون في أصل وجود قبر للإمام في النجف، إذ كان قد أوصى بضرورة إخفاء قبره، وتنقل الرواية أن "الخليفة العباسي هارون الرشيد كان يصطاد الغزلان في هضبة النجف عندما شاهد قطيع غزلان يحتمي في ظل ربوة مرتفعة، وقد رفضت كلاب الصيد المرافِقة له الاقتراب من الغزلان في ذلك المكان. وعندما تحقق الرشيد من الموقع عرف أنه قبر الإمام علي، فأمر بالاهتمام به وزيارته".
كما أن الحمدانيين اهتموا بالقبر، وشيّدوه وساهموا في إعماره سنة 317هـ. وبعد انتهاء عهد السلطة الصفوية وتولّي السلطان نادر شاه الأفشاري الحكم في إيران، أَمَرَ بقلع القاشاني عن القبّة والمنارتين والإيوان الشرقي الكبير واستبداله بالصفائح النحاسية المطلية بالذهب الخالص. وبحسب ما يُنقل، فإن نادر شاه الملقّب بأبي الفتوح نذر إنْ أمكنه الله من بلاد الهند، أن يفعل ذلك، فأمكنه الله وفتح الهند وبلاداً كثيرةً، وهكذا توالى بناء الأضرحة والقبب والمنائر المذهبة في العراق، ونُسجت قصص وأساطير وكرامات كثيرة حول هذه الأضرحة، وتداخل العامل السياسي والاقتصادي والمذهبي في تشييدها وحمايتها.
التوظيف السياسي من الدولة العباسية إلى الدولة الصفوية
منذ أحداث السقيفة، التي وقع فيها أول خلاف بين المسلمين، فُتح باب النقاش الذي لم يُغلق حتى يومنا هذا، ونتج عن ذلك ظهور تيارين سياسيين يتصارعان من أجل قيادة المسلمين. ووجد العلويون أنفسهم في موقع المعارضة للحكّام، وهذه المعارضة لجأت إلى العامل العسكري بعد تحول الخلافة إلى ملك على أساس قبلي وسياسي، وهنا يخوض الإمام الحسين معركةً تنتهي بمقتله سنة 61 هجرية.
وفي ظل هذه الأجواء، تشكّلت أرضية خصبة لنمو الجماعة الشيعية وصناعة ذاكرتها، وهنا ستكون دماء الحسين وأصحابه مؤثرةً أكثر في صناعة الأحداث. وقد اتخذ التوظيفُ الشيعي لدماء الحسين عاملَين، كما يذكر الباحث صلاح الدين العامري، في كتابه "صناعة الذاكرة في التراث الشيعي الاثني عشري (زيارة المراقد أنموذجاً)”، الأول: سعي أصحابه إلى المطالبة بالعدالة الاجتماعية والسلطة السياسية، والثاني: توظيف ذكر الحسين في المحافظة على السلطة وتوسيع رقعتها. وهذا ما حصل في ثورة المختار والتوّابين. وكان قبر الحسين وقتذاك منطلقاً لأحداث الثورة وقطع العهود، وتوظيف شعارات الحسين ضد الدولة الأموية التي شُيّدت أركانها بالولاء القبلي والإيثار المالي للطامعين. وهكذا تحرّك الشيعة ومن معهم تحت عنوان الثأر لشهداء كربلاء.
ويذكر الطبري هذه التحرّكات ضمن أحداث سنتَي 64 و65 هـ، التي شهدت ظهور حركة التوّابين بقيادة سلمان بن صرد الخزاعي، الذي تمت الاستجابة لدعوته بسبب البعد الاجتماعي وذلك لما عاناه أهل الكوفة من التهميش والقتل فأرادوا لمّ الصفوف قبل أن تصل السيوف إلى أعنقاهم، والبعد السياسي من خلال الدعوة إلى إقامة سلطة العدل، كما يذكر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك".
هذا التوظيف قابلته السلطة الأموية ببناء حصون حول كربلاء، ووظفت فيها حراساً مكلفين بمنع الزوّار من زيارة قبر الحسين، حيث أن هذه الطقوس والزيارات تدفع الناس إلى التشكيك في شرعية سلطانهم. وكان الإعدام عقوبة من تسوِّل لهم أنفسهم زيارة تلك المنطقة. ومن هذا المنطلق استثمر العباسيون التوظيف السياسي لقبر الحسين، وجعلوا منه وسيلةً لتأليب الناس ضد الدولة الأموية، فضلاً عن استثمار مظلومية البيت الهاشمي ودماء أبنائه التي سُفكت في كربلاء، فركبوا الموجة وصاروا يتحركون بين الناس تحت شعار "الدعوة إلى الرضا من آل محمد". وهكذا تمكنوا من الإطاحة بالأمويين، من خلال تعاون العلويين معهم، وهنا رُفع الحظر عن قبر الحسين وعُيّن سادة حسينيون لحراسة القبر، وأصبحت للعلويين القدرة على التواصل مع رموزهم.
لكن ما أن استتبّ حكم الدولة العباسية حتى تنكروا لكل شعاراتهم، وتنكروا حتى للرابطة الدموية الهاشمية بين بني العمومة، وذلك بعد أن شعروا بخطرهم في توظيف شعار المظلومية وأخذ الثأر.
استثمر العباسيون التوظيف السياسي لقبر الحسين، وجعلوا منه وسيلةً لتأليب الناس ضد الدولة الأموية، فضلاً عن استثمار مظلومية البيت الهاشمي ودماء أبنائه التي سُفكت في كربلاء، فركبوا الموجة وصاروا يتحركون بين الناس تحت شعار "الدعوة إلى الرضا من آل محمد". وهكذا تمكنوا من الإطاحة بالأمويين، من خلال تعاون العلويين معهم، وهنا رُفع الحظر عن قبر الحسين
وما أن استشعر بنو العباس أن العلويين في صدد تحجيم دورهم، ومن ثم حجبهم، سارع المتوكل إلى هدم قبر الحسين، وتسويته بالأرض سنة 236هـ، كما يذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ"، وينقل محمد تقي سهبر في كتابه "ناسخ التواريخ حياة الإمام سيد الشهداء الحسين المؤرخ"، تفصيل هذا الهدم: "بلغ المتوكل مرةً أخرى أن الناس من مختلف الطوائف والأقطار يتوافدون إلى أرض نينوى فصارت لهم مطافاً كبيت الله الحرام وأسسوا لهم أسواقاً عظيمةً بالقرب من القبر المطهّر فأثار ذلك غضبه فأرسل جيشاً إلى كربلاء لهدم القبر ومخره وحرثه وقتل من يجدون به من آل أبي طالب وشيعتهم، ولكن الله دفع شرّه فقُتل على يد ابنه المنتصر".
ولا عجب والحال هذه أن قبر الحسين تعرّض للهدم في المرة الأولى، في زمن هارون الرشيد في عام 193هـ، وكانت هناك سدرة عند القبر فأمر بقلعها وحرث موضع القبر ومحا أثره، ثم هُدِم مرةً أخرى على يد المتوكل، كما مرّ ذكره، ثم أعيد بناؤه في عهد الخليفة المنتصر بالله ما أن تولّى الخلافة بعد أبيه المتوكل عام 247هـ، وبقي بناء المنتصر حتى عام 283هـ، وقد وُصفت فترة حكم المنتصر بالله بعصر الحرية والرخاء وازدهرت فيها المراقد المقدسة، إذ تنقل نصوص بعض المؤرخين: "ولما بلغ خبر استخلاف المنتصر إلى العلامة محمد بن الحسين الأشتياني، توجّه من ساعته إلى كربلاء ومعه جماعة من الطالبيين والشيعة، فلما وصلوا قبر الإمام الحسين أخرجوا تلك العلامات وأعادوا للقبر معالمه القديمة، فعند ذلك أمر المنتصر العباسي ببناء قبر الإمام الحسين ووضع على القبر ساريةً لإرشاد زوّار القبر وعاد إلى كربلاء عهد الطمأنينة والسلام"، بحسب محمد حسن مصطفى الكليدار آل طهمة، في "مدينة الحسين- مختصر تاريخ كربلاء".
عدم الاتعاظ
على الرغم من أن الشيعة تعرضوا للخيانة من الدولة العباسية، إلا أن رموزهم لم يتّعظوا، فسرعان ما نراهم يتعاملون بالموقف نفسه مع الدولة البويهية والدولة الصفوية وبقية الدول التي اتخذت من قبور أئمتهم منطلقاً للتقرب منهم وتوظيفهم في الحروب. فما أن بدأ نجم الدولة العباسية بالأفول والتفكك والوقوع بين يديّ أحمد البويهي، وهو من جبال الديلم في فارس، وكان يدّعي أنه من سلالة الملوك كما أنه ادّعى التشيع، رأينا كيف أن الدولة البويهية راحت تدق أساسها من خلال تنظيمها للاحتفالات الرسمية بذكرى عاشوراء وزيارة أضرحة الأئمة. ينقل المؤرخ ابن الأثير أنه في عهد معزّ الدولة، جرى في بغداد تنظيم الاحتفالات الرسمية بذكرى عاشوراء سنة 965م، كما أمر معزّ الدولة بإغلاق الحوانيت فيها، وإقامة مجالس تعزية عامة، وإقامة سرادق بقطع قماش ضخمة، وكانت تعبر الشوارع نساء محلولات الشّعر، مشحرات الوجوه وهنّ يندبن ويضربن على وجوههن، تدليلاً على حدادهن وحزنهن على الحسين بن علي، بحسب ابن الأثير في الكتاب نفسه.
هذه الشعائر في ظل الدولة البويهية أخذت تتكرر كل عام، فسرعان ما تفطّن البويهيون إلى أهمية هذه الطقوس في تحقيق المكاسب السياسية بالقدر الذي يسمح به تماسك سلطتهم واستمرارها. ففي ظل هذه الدولة تمأسست الشعائر وبُنيت قبور الأئمة وواظب الناس على زيارتها، وصارت ذكرى يوم الغدير عطلةً رسميةً للراحة والاحتفال. ينقل جعفر الخليلي، في كتابه "موسوعة العتبات المقدسة" (ج1): "إن عضد الدولة البويهي قد بذل عنايةً فائقةً في تشييد بناء على قبر الحسين، وأخذت الحياة تدبّ إلى هذه المدينة وتزدهر ثقافياً واقتصادياً". كما أن عضد الدولة أمر بتشييد قبّة للضريح وخصّه بخزينةٍ ثابتةٍ لإدامة المرقد.
كذلك، لعبت الدولة البويهية على الوتر الطائفي، إذ أخذت تسبّ رموز أهل السنّة على المنابر وتنشر كتاباتٍ مسيئةً على أبواب المساجد. ولم يكن في إمكان أهل السنّة أن يمنعوا تلك المظاهر، لأن الشيعة كثيرون وكانت السلطة إلى جانبهم، الأمر الذي انتهى بخلق اضطرابات واسعة بينهم.
ومع وفاة معز الدولة سنة 983م، وبدء انحلال الدولة البويهية وصعود الأنظمة السنّية، لم تُلغَ الطقوس العاشورائية وزيارة المراقد، إذ شهدت بغداد وقتذاك مواكبَ طوافةً وقرعَ طبولٍ في يوم العاشر من المحرّم.
"من الناس طائفة قد جعلت التشيّع مكسباً لها، مثل النياحة والقصص... لا يعرفون من التشيّع إلا البكاء، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور كالنساء الثواكل، يبكون على فقدان أجسادنا وهم بالبكاء على أنفسهم أولى"
ويلاحَظ ذلك في ظل الدولة السلجوقية، حيث أمر السلطان السلجوقي ملك شاه، ووزيره نظام الملك، سنة 1080م، بتجديد سور مشهد الحسين على الرغم من التحافه بعباءة الحاكم السنّي.
وهذا الأمر الذي يفسِّر لنا كيف أن منعَ هذه الطقوس يؤدي إلى تأليب الناس ضد الحكام والسلاطين، إذ أثبتت التجربة السياسية صعوبة إلغائها من الذاكرة الدينية، لكن يمكن توظيفها في ترويض العامة وتحييدهم عن الصراعات المشتعلة بين الأسر السياسية المتعاقبة. يقول الشيخ محمد جواد مغنية، عن العلاقة بين هذه الطقوس وبين العامل السياسي: "من الناس طائفة قد جعلت التشيّع مكسباً لها، مثل النياحة والقصص... لا يعرفون من التشيّع إلا البكاء، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور كالنساء الثواكل، يبكون على فقدان أجسادنا وهم بالبكاء على أنفسهم أولى"، بحسب محمد جواد مغنية، في كتابه "مع علماء النجف".
مراحل التذهيب
بناءً على ما سبق، يتضح أن هذه الطقوس والمراقد ساهمت بشكل كبير في صياغة الوعي الجماعي، وأثّرت في الدينامية الاجتماعية والسيرورة التاريخية بالشكل الذي يصبّ في صالح السلطان أياً كان، فالمهم أن يسمح بممارستها تعبيراً عن حنكةٍ سياسيةٍ كشفت دور هذه الطقوس في الهيمنة وإشغال الناس عن مساوئ الحكم، فهي ذات بعدين بحسب ما يعتقد الدكتور فالح عبد الجبار، في كتابه "العمامة والأفندي سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني": "فضاءات ثقافية للهوية المذهبية، وأدوات ممكنة للتعبئة والتحريض الجماهيريين"،
نرى هذا التوظيف يستمر ولا ينقطع مع مرور كل الأنظمة على اختلاف هويتها وعقيدتها، مع المغول الذين ظهرت على عهدهم الحسينيات وأماكن العزاء الرسمية إبان احتلالهم بغداد 656هـ، بما يسهم في إذابة الغليان الشيعي، إذا لا فرق عند المغول من ناحية نوعية المذهب، والمهم عندهم أن يكون الناس المُسيطَر عليهم منشغلين بمثل هذه الأجواء والطقوس العقائدية التي حُرموا منها زمناً طويلاً، دون التدخل في قضايا الحكم والسياسة، ومع الدولة الصفوية التي ظهرت في مطلع القرن السادس عشر ميلادي والتي تبنّت المذهب الشيعي وجعلته مذهباً رسمياً في إيران. وساهمت الدولة الصفوية مساهمةً منقطعة النظير في بناء المراقد وتذهيبها وتوظيف الطقوس الدينية كإستراتيجية للصراع مع الأتراك وتسخير الناس البسطاء في هذا الصراع.
وهكذا نجد أن أول "عملية تذهيب قد قام بها السلطان إسماعيل الصفوي (1524م)، حيث وضع اثني عشر قنديلاً من الذهب، ووضع شبكةً من الفضة على قبر الإمام الحسين. كما أمر الشاه طهماسب (1576م) بتجديد صفائح الذهب على القبة، وهكذا فعل مع بقية قبور الأئمة في العراق"، كما يذكر جعفر الخليلي في "المدخل إلى موسوعة العتبات المقدسة".
ومع الدولة الصفوية، نشهد استحداث منصب وزاري جديد يشبه منصب رئيس الأوقاف الدينية في وقتنا الحاضر، وهذا المنصب هو منصب "وزير الشعائر الحسينية". سافر هذا الوزير إلى أوروبا الشرقية، واقتبس الكثير من المراسيم والطقوس التي تتعلق بالمراسيم المسيحية ووظّفها في العزاء الحسيني، مثل النعش الرمزي والأقفال والضرب بالزنجيل والتطبير، كما ينقل ذلك الدكتور عالم الاجتماع علي شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي".
يذكر شريعتي أنه في عهد الدولة الصفوية، تحوّل علماء الشيعة الذي كانوا في معارضةٍ دائمةٍ مع الحكّام على مر التاريخ إلى جوار الحكومة الصفوية وأصبحوا يجالسون حكّامها ويبرِّرون تصرّفاتهم.
لكن بحسب ما مرّ سابقاً، نرى أن الشيعة وعلماءهم اصطفوا مع الحكّام قبل وصول الدولة الصفوية، كما رأينا ذلك مع العباسيين والبويهيين. وكان مفتاح الدخول إلى قلوب الشيعة من لدن الحكّام هو السماح لهم بإقامة طقوس العزاء وزيارة مراقد الأئمة وإعمارها. ونلاحظ أنه حتى بعد نهاية الدولة الصفوية استمر هذا التوظيفُ من قبل الدولة القاجارية التي أمر سلاطينها بتذهيب قبة الإمام الحسين والمنائر وبقية قبور الأئمة سنة 1831م.
وهذا هو ما يكسر قوّةَ معارضتهم ويحوِّلهم إلى حلفاء يضحّون بالنفس من أجل بقاء حكومة ترعى ما يعتقدون به، وتفسح لهم حرية الممارسات الطقوسية التي يحتمون بها نفسياً من التمزّق والتصدّع، فهذا يؤسس لهم ذاكرةً جمعيةً مقدسةً، ترصّ صفوفَ الجماعة، وتضمن وحدتها، وتسوّغ وجودها، وتؤسِّس لهم كياناً خاصاً واستقلالاً روحياً وفكرياً متمايزاً عن الذاكرة المهيمنة (نحن مقابل الآخرين)، تكون في ما بعد عمودها الفقري في الهيمنة والدعاية المذهبية التي تكون ذات طابع يقيني من خلال تعظيم الرموز ومأسسة خلودهم. وربما من هنا جاءت فكرة الطواف حول قبور الأئمة بشكل مماثل للطواف حول الكعبة، والاعتقاد بأنها تشفي الأمراض، وأن الله ينظر إليهم قبل أن ينظر إلى أهل عرفات، ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم. كذلك المغالاة في شخصيات الأئمة وتكفير من لا يدين لهم بالمحبة والولاء، وأنهم سينتشلون شيعتهم من جهنم إلى جنّات النعيم ما دام هناك حبٌّ في قلوب مواليهم، وأنّ جهنّم سوف تطفئها دمعة سقطت في البكاء على الحسين، وأن الزيارة بحدِّ ذاتها تمثِّل مشروعَ خلاصٍ كما تنقل الروايات. وكان للمبالغة في إثر هذه الشعائر بوصفها عاملاً مهماً في نشر التشيع وتغلغل العقيدة الدينية في أعماق النفس والضرب على أوتارها الكامنة كما يرى الدكتور علي الوردي، في "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه