من داخل محبسه في السجون الإسرائيلية، يواصل الأسير الفلسطيني باسم خندقجي تحدي آسريه، إذ تواصل روايته "قناع بلون السماء" التي كتبها وتمكن من تهريبها ونشرها خارج السجن التقدم في قوائم جائزة البوكر العربية، التي أعلنت قائمتها القصيرة قبل أيام متضمنة اسم رواية خندقجي.
يأتي تقدم رواية "قناع بلون السماء" نحو الفوز في وقت عادت قضية فلسطين وما يلقاه شعبها على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية لتكون في قلب خطاب التحرر حول العالم، وفي وقت يرتفع الاهتمام العالمي بكتابات الفلسطينيين لا سيما الكتابات الأدبية.
لفت اسم باسم خندقجي الانتباه مع إعلان ترشح روايته لجائزة البوكر في قائمتها الطويلة التي أعلنت في ديسمبر/ كانون الاول الماضي، في البداية ظن متابعو الجائزة وقراء الادب العربي أن الرواية لأحد كتاب فلسطين في الشتات، لذا كانت البيانات التي أشارت إلى كونه أسيراً في السجون الإسرائيلية مفاجئة للكثيرين، خاصة أن روايته تحمل في قلبها أفكار الهوية والمسافة بين الذات والآخر التي كثيراً ما ينشغل بها الكتاب المغتربون عن أوطانهم، لكن المفاجأة كانت أن الرواية لفلسطيني أسير منذ العام 2004.
من اللافت أن رواية خندقجي "قناع بلون السماء" ليست الرواية الفلسطينية الوحيدة في القائمة القصيرة للبوكر العربي، إذ ترشح لها ايضاً رواية "سماء القدس السابعة " للصحافي والكاتب الفلسطيني أسامة العيسة.
من داخل محبسه في السجون الإسرائيلية، يواصل الأسير الفلسطيني باسم خندقجي تحدي آسريه، إذ تواصل روايته "قناع بلون السماء" التي كتبها وتمكن من تهريبها ونشرها خارج السجن التقدم في قوائم جائزة البوكر العربية، التي أعلنت قائمتها القصيرة قبل أيام متضمنة اسم رواية خندقجي
بعيداً عن السجن وفي قلب التاريخ
عشرون عاماً مرت على خندقجي في الأسر، ولا يزال الأديب الفلسطيني في السجون الإسرائيلية مع تواصل نجاح روايته؛ إلا أن روايته تبتعد تماماً عن عالم السجن والأسر كما قد يتوقع من يلتقطها عالماً بهوية كاتبها، ويمكن أن يستنتج القارئ منها كم ينشغل كاتبها بالتاريخ وبعلاقته وعلاقة كل فلسطيني بالأرض وهويتها وتاريخها، لا بأوضاع الاعتقال والسجن.
في روايته الأولى "مسك الكفاية" التي صدرت في العام 2014 بعد تهريبها من سجون الاحتلال، عاد الصحافي والشاعر الأسير الفلسطيني باسم خندقجي بقارئه إلى زمن بعيد، يعود للنصف الأول من القرن الثاني الهجري، ويتنقل بين أزمنة عدة وصولاً للنصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، وتحديداً مع بداية نشأة بغداد كعاصمة للدولة العباسية في صبيحة اليوم الرابع عشر من رجب من سنة 145 هجرية الموافقة لسنة 762 ميلادية على يد الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي.
المدهش في روايات باسم خندقجي، هو أنه لا يكتب عن السجن رغم أن نصف عمره تقريباً مر وهو بداخلهفي روايته الأولى بعد ديوانين وعدة مقالات، غاص باسم خندقجي في كتب التاريخ ليُخرج لنا نصاً روائياً فخماً، مكتوباً بلغة الشعر العربي الفصيح والحر، مُستنداً إلى العديد من كتب التاريخ العربي، ومُتكئاً على مصادر متعددة جعلته يُدرك عمق تاريخنا العربي الحافل بالمصائب والهفوات والحروب: "كومضة برق ما حدث ويحدث، ينطفىء مصير لي، ويشتغل مصيرٌ آخر هو لي أيضاً".
في روايته الأولى رسم خندقجي في عشرين فصلاً، سيرة بطلته "المقاء بنت عطاء بن سبأ" التي تنقلب حياتها بسبب نبوءة عرافة في الصحراء. يمد باسم بصره من شباك الأسر لينسج حكاية فتاة فقيرة من مدينة "شبوة" التي كانت في زمن قديم عاصمة "حضرموت" ليضعنا في ميدان فضائه السردي شاسع الاتساع كصحراء حكاياته، ليأخذنا الكاتب الصحفي والباحث التاريخي في فُسحة لعالم منسوج بإحكام.
المدهش في روايات باسم خندقجي، هو أنه لا يكتب عن السجن رغم أن نصف عمره تقريباً مر وهو بداخله، (مولود في عام 1983 ومُعتقل منذ 2004 لنشاطه السياسي خلال انتفاضة الأقصى)، بالإضافة لتطرقه في الكتابة لعالم أكثر رحابة من عالمنا الضيق ليحكي حكاية في صميم التاريخ العربي مُضيفاً قائمة بأكثر من 12 كتاباً تاريخياً كانت مراجعه لكتابة تلك الرواية.
التاريخ ومعه الطبوغرافيا هما همه في روايته الثانية والأحدث أيضاً، في روايته التي كتبها بين أسوار سجن جلبوع، يُحيل الكاتب الفلسطيني باسم خندقجي قضيته الأبرز كلها من أمر واقع إلى مجرد رمز، ومن خلال بطاقة هوية يعثر عليها بالصدفة بطله "نور الشهدي" المغرم بالتاريخ وحفرياته، الفلسطيني ابن المخيمات الذي يعيش في الظل بسبب الاحتلال الذي سرق هويته ووطنه، بل وصنع فارقاً بينه وبين مواطنه الفلسطيني الحامل للهوية الإسرائيلية؛ وبالطبع في درجة أقل بكثير من الإسرائيلي المدعوم بديانته اليهودية. ومن خلال تلك البطاقة، يتلبس هوية جديدة مصطنعة تتيح له الغوص في تاريخ فلسطين وطبقاته كما لا يتاح له من خلال هويته الفلسطينية الأصيلة.
كان يعتقد أنَّه وُلد من الزقاق، من رحمٍ خفيَّةٍ فيه لا يُدركها سوى المنكوب منذ الصرخة الأولى، رحم يُولد منها ليتقن اليُتم على أصوله، هو المفجوع والمكلوم والكاتم والمكتوم والتائه والمغترب الذي وُلد جاهزاً مُجهَّزاً بكلِّ عتاد البؤس المتاح وغير المتاح في هذه الأزقَّة، فما الحاجة إلى الأسماء إِذن؟
في روايته المرشحة للبوكر العربية يتحدث خندقجي عن التمزق الذي قد يسببه غياب الأوراق الثبوتية الإسرائيلية ما يخلق عجزاً عن السير في بلاد أصلها أنها للفلسطيني، طولها وعرضها، لكن الفلسطيني محروم منها بسبب سطوة الاحتلال والاستيطان وسياساته في الفصل العنصري على الأرض الفلسطينية المحتلة.
ليس ثمَّة معنى لاسم المخيَّم الفلسطينيّ إلَّا عندما تُرتكب فيه المجزرة، ليصبح اسماً من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانيَّة، يصبح اسمه مخيَّم تلّ الزعتر أو صبرا أو شاتيلا أو جنين أو الشاطئ.
في الرواية يحاول البطل نور الشهدي إحياء سيرة "مريم المجدلية" عن طريق التناص مع النص الروائي لرواية "شيفرة دافنشي" للروائي الأمريكي "دان براون" واستغلال بطاقة هوية لمستوطن إسرائيلي عثر عليها عن طريق الصدفة ليستطيع أن يتجول في المستوطنات بحرية ويستكشف المزيد عن التاريخ الأثري والجغرافي والسياسي لفلسطين المنكوبة.
لماذا ينتزع كاتبٌ أجنبيٌّ المجدليَّة من سياقها التاريخيّ الجغرافيّ الفلسطينيّ ليُلقي بها في مهاوي الغرب؟ لماذا؟!
مع امتداد الصفحات، يكشف باسم من خلال بطله الحالم بإنجاز رواية تاريخية عن شخصية غير مثبتة بشكلٍ كافٍ داخل متون النصوص الدينية التوراتية والإنجيلية، عن جرائم الاحتلال الذي مسح مدن كاملة من النطاق الجغرافي واستعان بأحزمة الأشجار الغريبة عن الأرض وبإنشاء المستوطنات، أداتين لمحو جريمته.
يستخدم باسم الرمزية في كتابته لإحالة الأمور الكبرى لنص أدبي بإطار فني قابل للتشكيك والتأويل، لا يستخدم أفكاراً زاعقة أو علامات مقحمة، يكتفي فقط بالسند التاريخي وخبرات زملائه الذين يلتقيهم داخل الأسر ويتشارك معهم نفس الهم عن التاريخ المكتوب بأكثر من صيغة وعن الوطن الذي تبتلعه إسرائيل أمام عيون العالم.
قصيدة ليلية بعيداً عن الحرب
على رواياته التي يستعين فيها براحلة التاريخ ليروى عن الهم الفلسطيني والعربي، نجد في شعره حضوراً لواقعه في الأسر الذي يتحاشاه تماماً في كتاباته الأدبية.ففي ديوانه الشعري المنشور في عام 2013، نرى صورة شاعرية فنية شديدة الفرادة، كثيفة المشاهد، ومتشابكة مع أمنياته الحالمة كمواطن فلسطيني كان قد مر عليه وقتها ثماني سنوات فقط داخل سجون الاحتلال: "إما نلدُ الوطن أو يلدنا، أو نموت معاً والسلام".
بتقديم من زاهي وهبي وإهداء شديد البساطة من باسم الذي دون في 122 صفحة حكاية عاشق ومحب للوطن، وفدائي مقاوم، ووزّع إهداءات عديدة لشهداء رحلوا برصاص الاحتلال الصهيوني، ومن عتبة النص نعرف أننا أمام شاعر يعرف قيمة الكلمة: "إلى أحبتي الذين انتظروا… وأولئك الذين هجروا الانتظار".
من خلال العناوين، افتتاحيات النص الشعري الملتبس بين الحقيقي والمُتخيل بشكلٍ فانتازي، والمتشبث بالأمل رغم جدران السجن التي لم تتعرض لها الكلمات ولو بشكلٍ عرضي، يحاول باسم أن يضع كل ما يمكن أن تحفل به الحياة من زخرف داخل ربعاياته الشعرية شديدة التكثيف والممتلئة بالمشهدية:
الموتُ مُغْرٍ
إذا كان خالٍ من الرصاصة والقذيفة…
نعم
لن أكبر في أزقة المخيم
وأنفاق الهوية
ولم أحلم…
يكتب كل إهداء بعناية كمن يمنح العطايا، يُرسل كلماته لمن رحلوا برصاصات الغدر أو لمن هم خارج السور الذي يصلب أمنياتهم بالتئام الشمل بعناقات بلا عدد أو لقاءات طويلة لا تنتهي:
"الأمل
ما الأمل
سوى
البقاء
على
قيد
وطن!"
يحضر الوطن في أشعار باسم كأمنية، كحلمٍ لا يشترط وجود عناصر قابلة للتحقق الكُلي، ينشغل باسم في ديوانه بالحبيبة الغائبة والوطن المجروح منذ قيام دولة الاحتلال الصهيوني في عام 1948، ويسعى لتوكيد وترسيخ الصورة الذهنية والشعرية الأجدر بالبقاء عن وطن مازال يقاوم تدنيس العدو لكل أراضيه.
في حوار مع شقيقه، حوارات تُجريها إدارة الجائزة مع كُتّاب القائمة الطويلة، يتحدث الأخ الذي ينوب عن باسم في المحافل الرسمية والتصريحات وحفلات توقيع أعماله في المعارض العربية، عن رحلة البحث التي استغرقت سنوات طويلة جداً لإتمام هذا العمل، يقول: "باسم مُلهم بالتاريخ الفلسطيني القديم والمعاصر، واعتمد على قراءاته للأبحاث والدراسات عن التاريخ الفلسطيني واستند لشهادات بعض الأسرى داخل السجون ومن خارجها وبالأخص فلسطينيي الداخل المُحتل وهنا أذكر المؤرخ الفلسطيني الدكتور جوني منصور الذي مدَّ باسم بالمعلومات عن قرية اللجون، وكيبوتس مشعار هعيمق، والفيلق الروماني السادس".
مدة الزيارة 45 دقيقة فقط بين الأخوين، وتحدث مرة واحدة في الشهر، وقد لا تتم لأي سبب كما يحدث الآن مع منع السلطات الإسرائيلية للزيارات عن الأسرى منذ عملية طوفان الأقصى وما تلاها من اعتداءات إسرائيلية متواصلة على قطاع غزة ومدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية، فلم باسم شقيقه منذ 4 أشهر.
يُصرح الأخ عن طقس باسم في الكتابة والذي لا يتعدى ساعتي كتابة في الصباح من الخامسة حتى السابعة، قد لا يكتب فيهما أكثر من صفحتين. أحياناً تتلف الأوراق بسبب النقل التعسفي من سجنٍ إلى آخر أو عن طريق السجان، أي سجان قد يُتلف أي أوراق، الأمر ينطبق على كل السجناء مما يؤدي بالطبع لقتل وحبس المزيد من الأفكار والكلمات داخل سجون احتلال لا يكتفي بالإبادة ولكنه يسعى لمحو كامل بلا أدنى أثر للوجود الفلسطيني داخل البلاد، التي - رغم مباركة كل الدول الاستعمارية- مازال شعبها يسعى لإقامتها كما كانت من النهر إلى البحر.
--------------------------
المقاطع بالخط العريض المائل منقولة من روايات وأشعار باسم خندقجي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت