لطالما كانت الفلافل الخيار الأسرع والأوفر للتلذذ بلقمة طيبة تُشبعنا وسريعة التحضير. في سفراتنا بين الدول العربية، السؤال الأول الذي يُطرح بعد السؤال عن الشاورما هو: "ذقت الفلافل عندن؟ يلي عنا أطيب صح؟"، في إشارة إلى فخرنا بمطبخنا اللبناني واعتزازنا بأننا "ربّ مين عمل فلافل" على الطريقة اللبنانية.
اعتاد الشعب اللبناني الافتخار بمطبخه، إذ أصبحت التبولة والحمص والكبّة والفتوش جزءاً لا يتجزأ من هويته. واليوم يدخل في منافسة مع الدول المجاورة حول ملكية طبق الفلافل الذي يجمع كلّاً من الأردن، العراق، سوريا، مصر وفلسطين. وقد ذاع صيته ليصل إلى أقاصي الأرض، بعد موجات هجرة العرب إلى دول أوروبا وأمريكا ناقلين معهم وصفات الفلافل، إذ تبنّاها الغرب وأدخلها في مطبخه، لتنتقل الفلافل من السندويش إلى السلطة، وأصبح لها يوم عالمي يحتفي به غوغل في الثاني عشر من حزيران/ يونيو من كل عام.
وفي هذه المنافسة الشرسة على الفلافل، دخلت الأردن موسوعة غينيس بأكبر قرص فلافل يزن 74،750 كيلوغراماً، وبقطر يبلغ 132 سنتيمتراً وارتفاع عشرة سنتيمترات، في محاولة منها لكسب لقب "بلد الفلافل".
تضارب المعلومات حول نشأة الفلافل
في رحلة بحثنا عن أصل تسمية الفلافل، تضاربت المعلومات وكثرت النظريات، فمنها التي تقول إن المسيحيين الأقباط ابتدعوها قبل نحو 1000 عام، ومنها التي تقول إنها تعود إلى زمن الفراعنة ومنه انتشرت إلى بلاد الشام، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان، بعد أن استعاد الأقباط، في القرون الأولى لدخول المسيحية مصر، أقراص الفراعنة، نظراً إلى أنها مليئة بالبروتين النباتي وهي بديل جيّد عن اللحوم في أيام الصيام وأُطلق عليها اسم "فا-لا-فل" وهي كلمة قبطية تعني "ذات الفول الكثير".
"إذا جدودنا سمعونا اليوم نتحدث عن الفلافل لكانوا استغربوا السرّ الذي يجعلنا نعطي طعاماً رخيصاً قيمةً كبيرةً"
في المقابل، رجّح البعض أن وجبة الفلافل ظهرت أولاً في بلاد الشام وأول من عرفها السوريون في القرون الوسطى، بينما يؤكد آخرون أن الفلافل ظهرت لأول مرة في فلسطين وانتشرت بعد ذلك في البلاد العربية كافة، إلا أنّ لا أدلّة تؤكّد أياً من هذه النظريات لا في الكتب الفرعونية ولا في أصل كلمة فلافل القبطية.
ولكن في العام 2018، أُجريت دراسة حسمت هذا الجدل، وأكدت أن أصل الفلافل مصري، وذلك خلال مهرجان الفلافل في لندن، حيث شهد الاتحاد الدولي للبقوليات Global Pulse Federation حينها تدشين احتفالية الفلافل في لندن، كجزء من عام البقوليات الدولي 2016، الذي أقرّته الأمم المتحدة.
طبق ليس له تاريخ ولا قصة
ما السرّ القائم وراء أكلة الفلافل؟ وما سبب انتشارها بهذه السرعة؟ وكيف تمكنت من جمع كل هذه البلدان التي تفصلها حدود جغرافية وثقافات وأذواق وعادات وتقاليد وأنماط حياة مختلفة؟
في حديثه إلى رصيف22، يستغرب المؤرخ اللبناني شارل حايك، لماذا نعطي كلّ هذه الأهمية لطبق ليس له تاريخ ولا قصة، إذ لم يُذكر في أي من الوصفات، وما من كتب تؤكّد تاريخ ظهوره، ولم تكن له أهمية في المطبخ اللبناني أو المصري أو الفلسطيني وحتى السوري. وحتى التسمية غير معروف سببها إلا أنها قد تعود إلى حجم الفلافل وشكلها المستدير كـ"دوّيرات" صغيرة.
ويرى حايك أن الفلافل "اكتسب أهميةً كبيرةً بسبب الحركة السياحية، حيث كان يلجأ السياح ذوو الدخل المحدود إلى هذه الأكلة خلال فترة سياحتهم في لبنان وغيره من الدول"، ويشبّه الفلافل بالـ"الأكل السريع الذي يُعرف بالـfast food، وهو في الحقيقة طعام الفقراء، الذي وبسبب التسويق الخطأ للفوود بلوغر، أو متذوقي الطعام واهتمامهم الزائد بأكل الشوارع، أصبح يمتلك شهرةً واسعةً حول العالم".
وينتقد شارل ما وصفه بالـ fetichize povertأي الولع بأكل الفقراء وتصويره على أنه أكل صحي ولذيذ وفريد فيما هو في الحقيقة طعام غير صحي، وتجب مساعدة الفقراء على الاستغناء عنه واستبداله بأطعمة صحية أكثر"، متهماً الـ food bloggersبأنهم "يساهمون في تضليل الناس ويخترعون بعداً تراثياً لعنصر ليست له أهمية".
ويضيف: "إذا جدودنا سمعونا اليوم نتحدث عن الفلافل لكانوا استغربوا السرّ الذي يجعلنا نعطي طعاماً رخيصاً قيمةً كبيرةً".
خطورة تسويق الفلافل كتراث
يشرح شارل حايك، أن "ظهور الفلافل قد يعود إلى أواخر القرن الـ19، ووجوده كان محصوراً بين فلسطين وسوريا ولبنان ومصر، وشكلها الحالي كان يشبه الفول الذي ظهر في مصر، وقد تكون مرتبطةً بأكل الصيام التابع للأقباط (أي مسيحيي مصر)، وجيل اليوم يسعى إلى تسويق الفلافل على أنها تراث وطني، فيما الحقيقة عكس ذلك. فبدلاً من أن تركز مصر على التسويق للفلافل، من الأجدى أن تسوّق للملوخية، والأجدى بلبنان أن يسوّق للكبّة وغيرها من المأكولات التراثية. ومما لا شكّ فيه أن التراث يتبدل مع مرور الزمن، وما نعظّم من قيمته اليوم لم تكن له أهمية قبل 20 عاماً، حيث لم يكن هناك وجود للفلافل في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، فهي من الطعام الذي نأكله لضيق الوقت، وضيق المال، وحين لا يكون لدينا الكثير من الخيارات".
وعن الصراع القائم حول هوية الفلافل، وما إذا كانت مصريةً أو فلسطينيةً أو لبنانيةً، وسبب الاختلاف في المذاق وطريقة التحضير، يجيب حايك: "من غير المطلوب أن يكون لسندويش الفلافل المذاق نفسه في كلّ دولة، فالعالم الحديث مهووس بالتسميات والتصنيفات وكأنه يجب أن يكون لكلّ غرض اسم وأسس، فيما الواقع أن الجيران في البلد نفسه والحي ذاته يطبخون الأكلة عينها بطريقة مختلفة، فما حال دولتين منفصلتين، لكل ّمنهما مطبخها ومكوناتها ومطيباتها. فكل تراث مطبخي له خصوصيته ويتماشى مع حدود الدولة، ويستخدم ما هو متوافر في البلد".
ويلفت إلى أن "الطعام ليست له هوية، ومبدأ الطبق القومي أمر خطير، خصوصاً بالنسبة إلى بلدان لا يتخطى وجودها الـ100 سنة. وأن يمتلك شعب معيّن الحق الحصري بأكلة ما، فهذه فكرة فاشية. وبسبب نقص الإنتاج الفكري تتمسك الشعوب بمطبخها كهوية تستند إليها للتعبير عن نفسها، فضلاً عن معايير الجمال وسردية الضحية، فبلداننا مأزومة، تعيش في أنماط اجتماعية متخلفة وسط دور عنيف للدين".
هلوسة العالم الجديد
وبحسب شارل حايك، فإنّ "فكرة البحث عن قصة فريدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأكلة ومكوناتها، ليست سوى هلوسة من هلوسات العالم الجديد. فهناك عدد قليل ومحدود من الأطباق نعرف سبب تسميتها، وكيف وُجدت، والعناصر التي أضيفت إليها، والأكثرية الساحقة من الأطباق بقي سبب وجودها مجهولاً. وقد تكتسب بعض الأطعمة أهميةً حسب أنماط الاستهلاك، وهو ما قد يكون السبب وراء انتشار أكلة الفلافل، لكونها سهلة التحضير ولا تحتاج إلى الكثير من المكونات ورخيصة".
في مصر تُعرف بالطعمية، وتُصنع من الفول، أما في لبنان، فهي عبارة عن سندويش تُقدَّم بخبز عربي أبيض، ويضاف إليها الطرطور والخضروات وكبيس الحر، وتُصنع من الحمص والفول معاً. أمّا السوريون فيعدّون الفلافل أكلةً شاميةً أصيلةً وأساسها الحمص والخضروات، وليس الفول. كما يرى الفلسطينيون أن الفلافل فلسطينية وتُقلى بزيت الزيتون
ويستبعد حايك أن تكون أكلة الفلافل لبنانيةً أو فلسطينيةً، حيث لا وجود لها في أي من نصوص هذه الدول، أو في وصفات الطبخ القديمة: "ابن بشرّي سنة 1970، كان يقصد طرابلس لتناول الفلافل، فهذه الأكلة لم تكن موجودةً في القرى، وحتى اليوم من النادر أن نجد مطعم فلافل في الجبل، إذ ارتبطت الفلافل بالمدن. وهذا دليل آخر على أنها ليست لبنانيةً. وقد تكون مصرية الأصل وحملها المصريون معهم إلى سوريا وفلسطين ولبنان. وقام أهل هذه الدول بإدخال بعض التعديلات على الوصفة لتتلاءم مع الذوق العام فيها وما في حوزتهم من مطيبات فتصبح بذلك الفلافل التي نعرفها اليوم".
تعددت التسميات والمضمون "ليس واحداً"
إلى ذلك، تختلف تسمية الفلافل وطريقة تحضيرها، ففي مصر تُعرف بالطعمية، وهي تصغير لكلمة طعام، وتُصنع من الفول، وهي مشهورة لدى المصريين/ ات خصوصاً في وجبة إفطارهم/ نّ. أما في لبنان، فهي عبارة عن سندويش ضمن وجبة الغذاء تُقدَّم بخبز عربي أبيض، ويضاف إليها الطرطور والخضروات وكبيس الحر، وتُصنع من الحمص والفول معاً. أمّا السوريون فيعدّون الفلافل أكلةً شاميةً أصيلةً عمرها أكثر من 4 آلاف سنة، وأساسها الحمص والخضروات، وليس الفول. كما يرى الفلسطينيون أن الفلافل فلسطينية وتُقلى بزيت الزيتون. أما في اليمن والعراق فيؤكدون أن الفلافل نشأت في بلاد ما بين النهرين، وتُسمّى "الباجية" في اليمن.
وهذه الأكلة التي اشتدّ الصراع على هويتها، لم يقف النزاع على ملكيتها عند حدود الدول العربية، إذ زعم الإسرائيليون بأن الفلافل تعود لهم، مبررين حجتهم بأن اليهود الأوائل في مصر هم من كانوا يعدّوها قبل ذهابهم إلى "أرض الميعاد"، ولم يكتفوا بذلك بل أصدروا طابع بريد عليه صورة الفلافل والعلم الإسرائيلي.
مهما اختلفت التسميات وتعددت الوصفات، ومهما اشتدّ النقاش حول أصل الفلافل، تبقى هذه الأكلة من أشهر الأكلات الشعبية المنتشرة في سوريا والعراق وفلسطين وتركيا ولبنان ومصر والأردن وإيران والدول العربية كلها، وقد حملها أهل هذه الدول معهم في سفراتهم إلى دول الخليج وحتى إلى دول الغرب وباتت الفلافل أكلة الفقراء
وما لا يعرفه كثيرون، أن الفلافل أكلة منتشرة في إيران أيضاً، وأغلب الإيرانيين يأكلون الفلافل في الرغيف الفرنسي باستثناء المناطق التي يسكنها العرب والقريبة من العراق حيث يأكلون الفلافل مع "الصمون". وقبل أن تصبح الفلافل من أهم الأطعمة في طهران، وصلت أولاً عبر العراق إلى جنوب إيران، حيث مدن عبادان والأهواز وبندر عباس. وأدخل الإيرانيون تعديلات غريبةً على سندويش الفلافل، فأوجدوا الفلافل مع النقانق المعروفة بالـ"فلاسيس"، والفلافل مع البرغر، المشهورة بتسمية الفلابرغر، والفلافل مع النقائق الحارّة المشهورة بالـ"فلاميكس".
في المحصلّة، ومهما اختلفت التسميات وتعددت الوصفات، ومهما اشتدّ النقاش حول أصل الفلافل، تبقى هذه الأكلة من أشهر الأكلات الشعبية المنتشرة في سوريا والعراق وفلسطين وتركيا ولبنان ومصر والأردن وإيران والدول العربية كلها، وقد حملها أهل هذه الدول معهم في سفراتهم إلى دول الخليج وحتى إلى دول الغرب وباتت الفلافل أكلة الفقراء ومصدر النزاعات بين الشعوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 34 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...