عرفت ساترة مفرح الحريصي، (50 عاماً)، حرفة صناعة الجلود التي امتهنها فيما بعد، على يد والدتها وهي في السابعة من عمرها. كانت تستخدم فضلات الجلود وتشكل منها قطعاً صغيرة، تدرجت في التعلم حتى بلوغها الرابعة عشرة، وصنعت أول قطعة تصلح للبيع، كانت في تلك الفترة مهيأة للخروج مع الوالدة إلى السوق والتردد على محال الدباغة وتجار الجلود، ثم اكتشفت قدرتها على صناعة الإكسسوارات النسائية من الجلود والأحزمة.
كثيراً ما تتلف المشغولات المصنوعة من الجلد، إلا أن ساترة تعيد تدوير القطع التي أفسدتها الشمس وتصنع منها قطعة جديدة تكون صالحة للبيع من جديد أو للاستخدام الشخصي، وتضيف خلال حديثها لرصيف22: "آخذ الجزء الذي تغير لونه بفعل الحرارة وأعيد تصنيعه، ويمكن أن أدخله في صناعة منتجات الخوص لكن لا أرميه".
يتسبب ارتفاع درجة الحرارة الذي يسيطر على الكثير من المناطق السعودية، ومنها منطقة جيزان في محافظة الداير حيث تعيش ساترة، في صلابة القطع الجلدية وعدم مرونتها ما يجعلها غير قابلة للتصنيع بشكل جيد، وكذلك في نمو العدوى البكتيرية في الجلد، وهي تعتبر العدو اللدود له والمتسببة في تلفه، لكن ساترة تحاول تليين الجلد عن طريق نقعه في حمام مائي فاتر، وهو أمر ليس بهذه السهولة دوماً، إذ تقول: "إذا وضعت الجلد في مياه باردة لتليينه وتطريته لا يستجيب على الدوام، ويكون صعباً في استخدامه ولا أستطيع فرده بالشكل المطلوب، لأنه لا يمتص المياه الباردة".
وبحسب دراسة صدرت عن مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية "كابسارك" عام 2019، فإن درجة الحرارة ارتفعت بشكل واضح في 11 مدينة سعودية على مدار عشر سنوات، إذ ارتفع متوسط درجات الحرارة في المدن التي شملتها الدراسة نحو 0.4 درجة مئوية، ووصلت عام 2018 إلى 26.9 درجة مئوية فيما كانت في الماضي 26.5 درجة مئوية، بينما ارتفع متوسط درجة الحرارة في فصل الصيف بمعدل 0.16 درجة مئوية ووصل عام 2018 إلى 33.4 درجة مئوية. ولفتت الدراسة إلى ارتفاع متوسط درجة حرارة مدينة جازان.
وأوضحت الدراسة أن فصل الشتاء بلغ متوسط درجة الحرارة به نحو 19.3 مئوية فيما يعني أن الزيادة بلغت 0.41 درجة مئوية، وكانت درجة الحرارة في 2018 قد وصلت إلى 30 و40 درجة مئوية لساعات طويلة، وهو أمر لم يحدث في العام 2008.
وعموماً، يسود المملكة طقس شبه جاف، مع انخفاض واضح في هطول الأمطار السنوية، وتصل درجة الحرارة العظمى في جميع أنحاء السعودية إلى 20 - 30 درجة مئوية شتاء، فيما تتراوح في فصل الربيع بين 30 - 40 درجة مئوية، وتصل في فصل الصيف إلى 45 درجة.
حرفة السدو تواجه الاندثار
كثيراً ما تتلف المشغولات المصنوعة من الجلد، إلا أن ساترة تعيد تدوير القطع التي أفسدتها الشمس وتصنع منها قطعة جديدة.
تكيفت المرأة السعودية قديماً مع ظروف الصحراء، وتمكنت من تشكيل وبر الإبل وصوف الأغنام وشعر الماعز، كمواد خام تصنع منها منسوجات تفترشها على الأرض كالسجاد، وتغطي بها الأثاث والخيام، عرفت فيما بعد باسم فن السدو، وكان بمثابة منتج فني واقتصادي يشتريه الأغنياء في شبه الجزيرة العربية، ليستخدموه سروجاً للخيول وأغطية للإبل، وتقول رفعة السبيعي (50 عاماً)، وهي صانعة سدو، لرصيف22: "أحس نفسي في مهمة خاصة وأنا استكمل تراث جدتي وأمي والنساء القديمات".
كرست السبيعي عمرها من أجل الحفاظ على بقاء السدو، الحرفة الشعبية التي ورثتها عن أمها في منطقة نجد، إذ تغزل من فرو الخراف وشعر الماعز الملابس وحقائب السوق وأغطية الرأس، لكن تلف منتجاتها بفعل الحرارة التي تؤثر على لونها في البداية ثم تسبب تآكل القطع يدعوها للتوقف، في ظل انخفاض نسبة المبيعات، وتضيف: "بعد أن أنتهي من تصنيع القطعة أتركها تنتظر الزبائن في المتجر، ومع الطقس الحار يبدأ لون القطعة يتغير وينتهي الأمر بها إلى التمزق مع أقل لمسة، القطع التي تتآكل مصيرها صناديق القمامة".
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2020، سجلت حرفة السدو في منظمة اليونسكو، ضمن التراث الثقافي غير المادي الممثل للإنسانية، بالشراكة مع دولة الكويت، ليصبح العنصر الثامن السعودي المسجل لدى منظمة حفظ التراث، وجاء ذلك ضمن جهود محلية برعاية وزارة الثقافة للحفاظ على بقاء هذه الحرفة وضمان ما يعزز استمراريتها.
منتجات نسائية تتحدى المناخ
تشتهر منطقة الجوف السعودية بمنتجات زيت الزيتون، ويقام فيها مهرجان الزيتون الدولي ومهرجان خيرات الجوف وغيرهما، لذلك حرصت هيام العنزي وهي صانعة مستحضرات تجميل ومالكة العلامة التجارية "لوليتا" لمنتجات العطور والصابون ومستحضرات التجميل، على ختم منتجاتها بعبارة "مصنوع بزيت زيتون الجوف" كعبارة تسويقية لمسقط رأسها.
إلا أن ارتفاع درجة الحرارة في السعودية يزيد من فرصة تلف المنتجات، إذ تتسبب في تلف سطح الصابون وفشل التفاعلات الكيمائية لمواد مستحضرات التجميل، وتضيف السيدة الأربعينية لرصيف22: "يتسبب ارتفاع درجة الحرارة عند التصنيع في ظهور مادة الجلسرين التي تجذب الرطوبة من الجو إلى قطعة الصابون وتظهر على شكل عرق أو قطرات على سطحها، أو يفسد التركيبة بالكامل ويؤدي إلى خسارتها"، ويدفع ذلك بالعنزي إلى أن تحاول تهيئة مناخ مناسب لإنتاج الصابون، فتضعه في الثلاجة بعد الصب حتى لا يتعرض للتشقق أو يصبح مثل الكعكة الإسفنجية، أو يؤدي إلى فورانه وينسكب خارج القالب.
من جهة أخرى، ترى أن ارتفاع درجة الحرارة وعدم التجهيز الدقيق المسبق لعملية تصنيع المنظفات على اختلاف أنواعها، يؤدي إلى فصل الخامات المكونة للمنتج عن بعضها بعد التصنيع وتالياً تلف المنتج، إضافة إلى خروج رائحة كريهة من المادة المصنوعة ما يشير إلى تلفها بفعل الحرارة، وتضيف: "تظهر على قطعة الصابون بسبب الحرارة بقع واضحة من الزيت تشوه مظهرها ولا تعود صالحة للبيع، من جهة أخرى فإن الخليط الجاهز للصب لا يتجمد، فيظل الصابون سائلاً ومعناه أن الخليط فشل، لذلك أحرص على وضع منتجاتي في مخازن بدرجة حرارة باردة حتى لا تتعرض للتلف".
يتسبب ارتفاع درجة الحرارة عند التصنيع في ظهور مادة الجلسرين التي تجذب الرطوبة من الجو إلى قطعة الصابون وتظهر على شكل عرق أو قطرات على سطحها، أو يفسد التركيبة بالكامل ويؤدي إلى خسارتها
البرد يتلف صناعة الفخار
تطلب صناعة الفخار مناخاً مناسباً من أجل تشكيله عند التصنيع، فيحتاج إلى درجة حرارة تبدأ من 600 درجة مئوية، وتقول نور المطاوعة وهي حرفية متخصصة في صناعة الفخار، لرصيف22، بأن الطقس البارد، يعد عائقاً كبيراً أمام نجاح تجاربها في إنتاج قطعة الفخار، التي كانت تنجح في السابق قبل أن تضرب السعودية أعاصير باردة وممطرة لم تكن مألوفة من قبل.
وبحسب نور، فإن البرودة لا تناسب صناعة الفخار، فهي تتسبب في صعوبة التحكم في الطين، وتكسير المنتجات في الفرن أو وقت التجفيف وذلك لعدم استخراج الهواء من الطين بشكل جيد، إضافة إلى احتياج إنتاج القطع للمزيد من الوقت الإضافي لإنجاز المراحل الأولية في التصنيع، فأصبحت القطعة تستغرق وقتاً أطول مما كانت تحتاج إليه في السنوات السابقة، ويدفعها ذلك إلى تجفيف قطع الفخار بالمدفئة، للتأكد من خروج الهواء بشكل كامل منها، وتضيف: "كنت أنفذ تجاربي في منطقة الأحساء ودرجة البرودة شتاء تصل إلى 10 درجة مئوية بينما الطين يتطلب درجة حرارة عالية ليجف من المياه، والبرودة بدورها تتلف منتجاتي".
تهتم القرى التراثية السعودية بالإنتاج النسائي من الحرف والمشغولات اليدوية، ويقول حمد علي محسن دقدقي، المشرف العام في قرية جازان التراثية لرصيف22، بأن الحرف اليدوية الشعبية النسائية تشكل أسلوب جذب هام في القرية التراثية، وأن منتجات الحرفيات المشاركات في القرية متنوعة، تشمل صناعة الخوص والإكسسوارات الشعبية والمنتوجات العطرية المحلية والأزياء والمفارش والأواني الخشبية وأدوات الزينة، مؤكداً أن القرية تحاول جاهدة الحفاظ على القطع المعروضة من التلف بسبب العوامل المناخية وإعطاء النصائح للحرفيات لتلاشي العوامل البيئية الضارة.
البرودة تتسبب في صعوبة التحكم في الطين، وتكسير المنتجات في الفرن أو وقت التجفيف وذلك لعدم استخراج الهواء من الطين بشكل جيد، إضافة إلى احتياج إنتاج القطع للمزيد من الوقت الإضافي لإنجاز المراحل الأولية في التصنيع، فأصبحت القطعة تستغرق وقتاً أطول من السنوات السابقة
ورش للتوعية حول التغير المناخي
يقول لرصيف22 عبدالله صالح الحضيف، مدير ومؤسس مركز أرباب الحرف إنه منذ انطلاق المركز عام 2016، يقدم دورات تدريبية وورش عمل للنساء، بهدف تعليمهن مهارات صناعة الحرف اليدوية المختلفة، بالإضافة إلى توفير المواد اللازمة والأدوات المطلوبة للتدريب، وتقديم المشورة والإرشاد من قبل خبراء في مختلف أنواع الحرف اليدوية المستدامة والمحافظة على استدامتها، بما في ذلك التطريز والخياطة والنسج وصنع المجوهرات والأثاث.
ويشير الحضيف إلى أن مركز أرباب الحرف اتخذ عدداً من الإجراءات في ظل التغير المناخي، أبرزها توفير التدريب والتثقيف البيئي، إذ يقدم دورات تدريبية وورش عمل للحرفيات حول كيفية التعامل مع التغير المناخي وتأثيره على منتجاتهن، يشمل ذلك استخدام مواد صديقة للبيئة وتقنيات إنتاج مستدامة.
ويضيف: "نعمل على دعم الحرفيات في تطوير منتجات جديدة تستجيب لاحتياجات سوق العمل المستدام والصديق للبيئة، كاستخدام مواد قابلة لإعادة التدوير أو إضافة عناصر تحسن من كفاءة استخدام الموارد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.