كونها أول امرأة تعتلي مقعد نقيب/ة التشكيليين في مصر، فإن صفية القباني، على موعد دائم ومتجدد مع دوائر الضوء المتوهجة بأدائها الفني الإبداعي من جهة، وعلى موعد آخر، من جهة ثانية، مع دوائر الجدل المثيرة، بأدائها الإداري والوظيفي كأول نقيبة للتشكيليين منذ ثلاث سنوات مضت، وأول عميدة أيضاً لكلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان في مصر، في الفترة ما بين عامي 2015 و2018.
صفية القباني تشكيلية متحققة في المقام الأول، من خلال سلسلة معارضها المتلاحقة، وتجربتها الفنية الثرية، كمبدعة لها بصمتها الخاصة في معالجة حالات التصوّف، والتعاطي مع الثيمات التراثية الإسلامية، برؤية معاصرة تجريبية، ذات طابع روحاني.
ولكن هذه القراءة الجمالية المجردة الهادئة، لفنانة التعاشيق والتوليفات وعاشقة الفسيفساء والمنمنمات وصاحبة التجليات والإشراقات والفيوضات الروحية والأعمال التصويرية المركّبة متعددة الخامات، ربما لا تُكمل وحدها رسم بورتريه صفية القباني، من دون تلك الانعطافات الخاطفة والإطلالات السريعة على مساراتها الإدارية، التي تخوضها عادةً بطاقة متّقدة، وبحسابات دقيقة، وبمواقف مدروسة جيداً في علاقاتها، لا سيما بالسلطة والتوجهات الرسمية والحكومية على الخريطة من حولها.
النافذة الفنية الجمالية
ولتكن النافذة الأولى، الأساسية، في ترصّد رحلة صفية القباني (57 عاماً)، هي النافذة الفنية الجمالية، فهي النافذة الأهم والأخصب والأبقى في أي حال من النافذة الأخرى، الإدارية الوظيفية، التي سيتطرق إليها الحديث العابر ثانياً، لاستكمال توصيف تجربة القباني، النقيبة بدرجة فنانة، وأستاذة التصوير الجداري، والحاصلة على الماجستير والدكتوراه في التصوير الجداري من كلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان.
كونها أول امرأة تعتلي مقعد نقيب/ة التشكيليين في مصر، فإن صفية القباني، على موعد دائم ومتجدد مع دوائر الضوء المتوهجة بأدائها الفني الإبداعي من جهة، وعلى موعد آخر، من جهة ثانية، مع دوائر الجدل المثيرة
ولقد شهد غاليري "سماح" للفنون في حي الزمالك في القاهرة، أحدث معارض صفية القباني (2023)، بعنوان "البداية"، مشتملاً على مجموعة من إبداعاتها في الرسم والتصوير إلى جانب إسكتشاتها التلقائية المتعددة، التي تتماهى فيها تموجات الطبقات الشعورية الداخلية العميقة، والمرائي الخارجية من بيوت وحقول ومناظر طبيعية متنوعة، الأمر الذي يعكس التدفقات الانفعالية لديها، وما يستقر في الوجدان والذاكرة، وتحفظه الخبرة الذاتية المباشرة، والحصيلة المعرفية، وتفجره التجليات التخييلية والقفزات اللا واعية، المشحونة بالجرأة والحيوية.
وفي سلسلة معارضها السابقة، ومنها "المدد" و"جداريات مصرية" و"الرسوم الشعبية" و"من وحي الأشجار" وغيرها، تقترح الفنانة صفية القباني عادةً أعمالاً مركبةً، متعددة الخامات، بتقنيات حداثية متفوقة، ولكنها غير منقطعة الصلة بالموروث. وتبدو "الفسيفساء" لديها من أقدر الفنون على تمثّل القيم الدينية والحضارية بأسلوب تعبيري مؤثر، في حين لا يبدو الشكل غايةً بحد ذاته، وإنما الطاقة التي تتلبسه، والجوهر الذي يشرق من تحت سطحه الظاهري.
وتُكسب الإشراقات والتجليات تكوينات صفية القباني والوحدات المتجاورة في أعمالها البصرية طبيعةً دراميةً وحركيةً، وتتعدد الشحنات التأويلية والدلالية بتعدد مستويات البنية المركبة للأسطح المتداخلة. وتترجم الومضات المتتالية في لوحاتها تلك الرغبة في تكثيف لحظات حاشدة، تختزل ما هو حقيقي أصيل في الوجود، وكأنما تشكل ألحاناً سماويةً تعيد بها اكتشاف الكائن الآدمي الصلصالي، وتقيم بها عالماً نورانيّاً من الألوان والورود والموزاييك.
وتجدد صفية القباني رهانها دائماً على ذلك المزج الحميم بين الماضي والحاضر، لتصهرهما معاً بواسطة لغة بصرية مبتكرة، تعيد بها صياغة العالم كعجينة طيّعة، فيتحقق كونها الخاص السحري الموازي، بوحداته وعلاماته التي لا تشبه أي عناصر ومفردات أخرى. وتخلق القباني كتلاً متصببةً من الزخم الإنساني، الذي تستوحيه من الينابيع النورانية في المعتقدات الدينية، ومن الموروثات الحضارية والشعبية، ومن السير والملاحم البطولية، إلى جانب القيم الأخلاقية ونقاء الضمير البشري غير الملوث ولا الملوّن، ضاربةً في جذور الفنون القديمة الأصيلة من فرعونية وإغريقية ورومانية وإسلامية، حيث نشأت وتطورت المنمنمات والفسيفساء وغيرها، ومستفيدةً في بلورة هذه المعطيات كلها، من اتجاهات الفن الحديثة، وتياراته العصرية والطليعية.
وتتسع أعمال صفية القباني للكثير من الوسائط والخامات، منها السجاد والخشب والخيش والبلاط والخيوط والورق والشباك والأقمشة وغيرها. وتنطلق جدارياتها وأعمالها المركبة خارج وضعيتها السكونية في فضاءات حركية، مشتملةً على علاقات وتفاعلات نابضة. فالزهور الزجاجية مثلاً تبدو كأنها تنشر عطورها في حدائقها الافتراضية. وكذلك، تتحرر الأشكال الهندسية كالدائرة والمربع والمستطيل والمثلث من أبعادها وقياساتها الحسابية، لتأخذ معالم وملامح جديدةً في تشكيلات مرنة انسيابية، لا تخضع للمعايير والضوابط المسطرية، الأمر الذي يفتح المعاني والدلالات والإيحاءات على وجوه غير منتهية.
النافذة الإدارية الوظيفية
ومن الخطوط العريضة لوجه صفية القباني، المحسوبة على تيار التجديد في الحركة التشكيلية المصرية والعربية المعاصرة، إلى بعض الكادرات الأخرى الملتقطة من نافذة أدائها الإداري والوظيفي، الذي ربما يواجه أحياناً تحفظات وانتقادات من جانب عدد من الفنانين من أعضاء نقابة الفنانين التشكيليين في مصر (جملة غير مكتملة).
ومن هذه اللقطات مثلاً ما وصفه منتقدوها من الفنانين بالخلط بين الشخصي والعام، إذ تدلي النقيبة (التي حصدت 385 صوتاً في انتخابات النقابة عام 2020، مقابل 337 صوتاً لمنافسها الفنان التشكيلي طه القرني)، بالكثير من آرائها وقناعاتها الخاصة على لسان نقابة التشكيليين وأعضائها من الفنانين المصريين، وهذا أمر لا يخوّله لها وضعها كنقيبة، إذ لا يكون الحديث متعلقاً بقضايا نقابية متفق عليها أو مشكلات وقضايا مهنية. فإذا كان للفنانة كل الحق في تأييد مرشح بعينه مثلاً في الانتخابات الرئاسية أو تأييد قرارات سياسية أو معارضتها، وما إلى ذلك، فإن أعضاء النقابة يرون أنه من حقهم أيضاً أن تكون لهم حريتهم المكفولة في التعبير عن آرائهم الشخصية في كل هذه المواقف، من دون أن تعلن النقيبة بأسمائهم جميعاً رأياً بعينه، وكأنه رأيهم جميعاً.
وأمر آخر أثار الجدل في محطات صفية القباني الإدارية، هو ما وصفه منتقدوها بأنه استثمار منها لكونها أول سيدة في مصر تتولى هذا المنصب أي نقيبة للتشكيليين، ومحاولتها الاستفادة من هذا الأمر بأكثر من صيغة بعد توليها النقابة. فعلى الرغم من أن مقعد نقيب التشكيليين هو استحقاق انتخابي وليس هبةً أو مَنْحاً بالتعيين، فإن تصريحات القباني بعد فوزها جاءت أقرب إلى المغازلة الصريحة الفجة للقيادة السياسية، إذ عدّت أن فوزها هو أحد وجوه "تمكين المرأة" في مصر، قاصدةً ذلك التوازي بين تولّيها النقابة وتعيين وزيرات سيدات في الحكومة، وتصعيد مسؤولات أخريات من النساء في قطاعات وزارة الثقافة وإداراتها وهيئاتها المتعددة.
وعندما تلقّت القباني تهنئةً منطقيةً ومتوقعةً من "المجلس القومي للمرأة" بفوزها المستحق بمقعد نقيبة التشكيليين بعد انتخابات حرة نزيهة، لم ترد النقيبة على التهنئة بالشكر الطبيعي كما يقتضي الأمر، وإنما راحت تخلط في تصريحاتها بين نتائج الانتخابات، وبين خريطة تمكين المرأة والدعم الذي تتلقاه المرأة في مصر وفق مخططات القيادة السياسية. وبدا ذلك لمنتقديها أمراً غريباً، حيث كان أحرى أن تتناول في حديثها مثلاً جهود المرأة واستحقاقاتها التي توّجت بإعلان فوزها، حيث أن فوزها في الانتخابات لم يكن ناتجاً عن قرارات مؤسسية يجري اتخاذها لتمكين المرأة.
وأخيراً، وفق محطات أسبق في رحلتها، فإن تجربة صفية القباني الأولى مع الإدارة لم تكن ناجحةً أيضاً بالقدر الكافي، أو لم تكن على مستوى الطموحات، على الأقل قياساً بنهايتها الدراماتيكية. فبعد قرابة ثلاث سنوات من تولّيها منصب أول عميدة لكلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان، انتهت رحلة سيدة الخامات الزجاجية الهشة بما يشبه التحطم المعنوي فوق صخور قاسية، حيث جرت إقالتها عام 2018 بقرار مفاجئ من ماجد نجم رئيس الجامعة.
صفية القباني تشكيلية متحققة في المقام الأول، من خلال سلسلة معارضها المتلاحقة، وتجربتها الفنية الثرية، كمبدعة لها بصمتها الخاصة في معالجة حالات التصوّف، والتعاطي مع الثيمات التراثية الإسلامية، برؤية معاصرة تجريبية، ذات طابع روحاني
ولم تتمكن عميدة أقدم مؤسسة فنية في الشرق الأوسط، من النهوض بكلية الفنون الجميلة خلال تلك الفترة الوجيزة، مثلما كانت تحلم صاحبة الرؤية التقدمية في الجمال البصري وإبراز شخصية المدن من خلال العمارة والفنون، وتعزيز الهوية الوطنية من خلال ربطها المباشر بالهوية المعمارية وخصائصها الفنية. كما أن سيدة الرسائل الإبداعية الداعية إلى التسامح وتقبُّل الآخر لم تتمكن من درء التهمة عن نفسها وتبرئة ذاتها من حيثيات إقالتها سوى بعبارة "حسبي الله ونعم الوكيل"، وبمناشدة رئيس الجمهورية لـ"رفع الظلم عنها".
وقد أحيطت تفاصيل الإقالة وقتها بقدر من التعتيم، ومسحة دبلوماسية من الغموض لإكمال السطور، وجاءت الإقالة استناداً إلى قرار مجلس التأديب في جامعة حلوان، المتبوع بأنه "من حقها اللجوء إلى محكمة القضاء الإداري للطعن إذا ارتأت ظلماً". أما الذي تردد من خطوط عامة حول أسباب استبعاد أول سيدة تشغل ذلك المنصب منذ إنشاء كلية الفنون الجميلة عام 1908، فمن بينه أن صفية القباني أدينت بتعديل نتيجة اختبارات القدرات لأحد الطلاب المتقدمين للالتحاق بالكلية، إذ راجعت أوراق اختباراته "منفردة"، بين آلاف الأوراق، من دون لجنة مراجعة النتائج بالكلية، بما يُعدّ "مخالفةً قانونيةً"، وصفها البعض بأنها "تزوير"، فيما تحفظ رئيس الجامعة عن ذكر أسباب الإقالة بشكل واضح.
وبغض النظر عن كواليس ما جرى، وخبايا ما دار في أروقة كلية الفنون وعلى مائدة مجلس التأديب، فإن ظلال هذه الواقعة كان لها دور بالتأكيد في مسيرة القباني الإدارية اللاحقة كنقيبة للتشكيليين، وأثّرت بعض الشيء على نظرة الفنانين من أعضاء نقابة التشكيليين المصريين إلى أدائها الإداري، الذي لطالما دعت الفنانة إلى ضرورة أن يكون أداءً ابتكاريّاً خارج الصندوق النمطي، وأن يكون جماعيّاً بروح الفريق المتجانس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه