شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يومَ صاحبني

يومَ صاحبني "الكلب الأسود"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 29 سبتمبر 202312:48 م

وإني أُحبُّ نوال السعداوي لأنها جعلتني أحب حقيقتي، ودفعتني لإظهار هذه الحقيقة والتباهي بها بدلاً من إخفائها، تماماً كما أعلنت هي يوماً أنها تحبّ حقيقتها، وأن حقيقتها هي الشيء الوحيد الذي تُحبّه وتثق به ولا يمكن لها أن تُخفيه.

لقاءات نوال وكتبها وحياتها شجعتني على الاعتراف، ولأنني كنت وحيدةً بالمُطلق، فقد اعترفت لنفسي أولاً بأنني مريضة، ثم قررت أنني بحاجة إلى مساعدة طبيب نفسي ثانياً برغم رفضي الداخلي.

حدث هذا في عام 2016، عندما وصلت إلى مرحلة فقدت فيها رغبتي في الاستيقاظ. لا أريد أن أستيقظ بعد الآن. أدركت في تلك اللحظة أن "كلباً أسود" بات يرافقني. خمّنت أنني أعاني من الاكتئاب الذي لم أستطع تحديد درجته لكني رأيت آثاره على وجهي ووجه وسادتي.

بدت الحياة صعبةً وغير ممكنة وليس من السهل أبداً تغيير الوجهة. بتُّ أخاف النظر إلى المرآة، وأتجنّبها كي لا ألمح وجهي الميت وعيوني التي غارت في حفرتها، بعد أن انطفأ بريقها، وجسدي الهزيل بوزنٍ هبط إلى 47 كيلو غراماً. مَنْ هذه الفتاة؟ أنا لا أعرفها. ربما كان وصفُ إحدى السيدات لي حقيقياً جداً عندما التقينا لأول مرة في تلك الفترة. قالت لي: "أنتِ صبيّة لكنك ختيارة"، مضيفةً: "أحاولُ أن أجدَ المبرر لهذه الحال لفتاةٍ في مثل سِنّك".

 بات همّي كلّه منصّباً على البوح. أريد أن أُزيل هذا الثقل الموجود في رأسي. أنا أموت ببطء، ساعدوني، أريد أن أخرج من زنزانة الماضي. أريد أن أستعيد شغفي المسروق...

كنت أنظر إلى شخصٍ ما من خلف زجاج الباص، وهو يمشي على الرصيف ويبتسم، فأجد نفسي عاجزةً عن مقاومة طرح السؤال: من أين يأتي بقدرته على الابتسام؟ أرى آخر برفقة صديقته، فأتمتم: هنيئاً لهما، ما زالا قادرين على تحريك أقدامهما خطوةً إلى الأمام والبحث عن شيء ما في هذه الحياة. عرفتُ أني لا أستحق هذا لكنه حدث. فقدت اهتمامي بكل شيء، ولم أعد أريد أن أبني منزلاً بحديقة كبيرة أغرس فيها شجر الكينا واللوز والكرز، ولا أن أزرع بذور اليقطين الذي تُحبه أمي كثيراً، ولا أن أربّي كلباً وقطةً وأرنباً والكثير من البط والدجاج القزم. لم أعد أرغب في رؤية الدخان يتصاعد من فرن المطبخ المسقوف بالقرميد الأحمر تحضيراً لوليمة الغداء، وقد استلهمت طقوسها من رواية "ذهب مع الريح". بات همّي كلّه منصّباً على البوح. أريد أن أُزيل هذا الثقل الموجود في رأسي. أنا أموت ببطء، ساعدوني، أريد أن أخرج من زنزانة الماضي. أريد أن أستعيد شغفي المسروق...

كنت قد سمعت من إحدى صديقاتي بأن هناك طبيباً نفسياً تمت استضافته مؤخراً على إحدى الإذاعات المحلية وهو طبيب جيد كما فهمت هي من حديثه، ويمكن الاستعانة به. كنت أستمعُ فقط دون أن أتصرف بما يوحي بأني مهتمة بالموضوع أو أنني سأقوم بزيارته. قصدتُ مستشفى الرشيد عند دوار باب مصلى حيث يعمل الطبيب الذي لم أعد أذكر اسمه الآن، وهذا دليل آخر على أنه "جيّد" بالفعل. دخلت المستشفى ونزلت عبر الدرج طابقين إلى الأسفل. جلست على المقعد أنتظر دوري الذي سيحين بعد نصف ساعة. بقية الأقسام كانت تعجّ بالمرضى حيث الحرب في الخارج ما زالت مستمرةً في تزويد المشافي بالمصابين والجرحى والعاطلين عن الحياة.

وبينما كنت أنتظر في الخارج، كنت أتخيل كيف سيبدو المشهد في الداخل، وكيف سأجلس على الكنبة المريحة أمام الطبيب وأتمدد وأُرجع رأسي إلى الخلف في مواجهة زجاج نافذةٍ مطلّة على فضاءٍ فسيح، وأشرد بعدها وأبدأ بالحديث. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. "إنه دورك، تفضّلي"؛ قالت لي مساعدة الطبيب، فتوقفت عن التخيّل ونهضت.

طرقت على الباب طرقات خفيفةً ودخلت. لم أجد كنبةً. وجدت كرسياً عادياً وخلفه طاولة وخلف الطاولة جلس الطبيب المُداوي، وإلى اليمين منه سرير لمعاينة المرضى. هنا عاد إلى ذهني أني أعيش في سوريا لا سويسرا. لم أعد أذكر تماماً كيف بدأ الحديث ولا السؤال الأول الذي وجهه الطبيب إليّ. أذكر أنني لم أكد أبدأ بالكلام حتى اجتاحني سيلٌ من البكاء الجارف؛ بكاء وبكاء وبكاء، وكلام مُتقطّع استطاع الطبيب الخشبي الجالس قبالتي أن يفهم منه شيئاً عما أعانيه. وكإجراءٍ استغربته كثيراً، طلب أن يُجري لي فحصاً وكأنني أعاني من مرض عضوي. تمددت على السرير، ثم قام بقياس الضغط ونبضات القلب.

نصحني الطبيب النفسي بممارسة رياضة المشي يومياً برفقة شخص أحبّه فكان جوابي له: لو أنني امتلكت هذا الشخص لما أتيتُ للقائك. ثم طلب مني أن أتابع فيلماً قصيراً عن الاكتئاب اسمه "الكلب الأسود"، فأخبرته بأنني شاهدته. أخيراً وصف لي الدواء.

عدت بعدها لأجلس على الكرسي. أخبرني بأنني أعاني من الاكتئاب وأنني أعبر الآن الدرجة المتوسطة للمرض وأسير في اتجاه المرحلة المُتقدمة دون أن ينسى الإشارة إلى أنني لو لم أكن قويةً كفايةً، لكنتُ في وضع آخر أكثر سوءاً مما أنا عليه الآن. نصحني بممارسة رياضة المشي يومياً برفقة شخص أحبّه فكان جوابي له: لو أنني امتلكت هذا الشخص لما أتيتُ للقائك. شعرت بأنني أوجّه له ضربةً. الضربة الثانية كانت عندما طلب مني أن أتابع فيلماً قصيراً عن الاكتئاب اسمه "الكلب الأسود"، فأخبرته بأنني شاهدته. أخيراً وصف لي دواءً.

خرجت وأنا أشعر بأنني لم أكن أقصد هذا كله. ليس هذا ما أردت. كل ما حدثني عنه في الداخل أعرفه. لم تكن تلك الزيارة مدهشةً أبداً. قصدت صيدليةً في منطقة الروضة في جرمانا، وناولت الصيدلاني وصفة الطبيب. نظر إليها وسألني: لمن هذا الدواء؟ لي أنا، أجبته. هزّ رأسه ثم خاطبني: هل تريدين نصيحتي؟ لا تأخذيه. هذا النوع من الأدوية يسبب الإدمان. فيه نوع من المخدر (الحشيش)، وأنتِ ما زلت صغيرةً كي تتناوليه، بالإضافة إلى أنه دواء أجنبي وسعره مرتفع، ولن يكون بإمكانك تأمينه على الدوام. نصيحتي أن تكتفي بمضاد الاكتئاب والأمر في النهاية يعود لك.

سمعت كلام الصيدلاني، وأخذت مضاد الاكتئاب فقط، وذهبت إلى المنزل. تناولت حبةً ثم دفنت وجهي في الوسادة ونمت. استيقظت وأنا أفكر في عجزي: هل سأنتظر من حبة دواء صغيرة أن تُعيد لي شَغَفي؟ مرّ نهار ذلك اليوم وحلّ المساء. أذكر أنني استيقظت في صباح اليوم التالي، وكان عليّ أن أذهب إلى معرونة في منطقة التل. كنا قد اجتزنا المرحلة التحضيرية لدراسة الماجستير، وبدأنا الدراسة الفعلية الممتدة لسنتَين. أذكر أني أخذت علبة مضاد الاكتئاب وألقيتها في الحاوية. لم أكن أعلم ما كان ينتظرني. كانت تنتظرني عيون جميلة. لم تكن جميلةً لأنها كانت ملونةً. كانت جميلةً لأنها كانت ذكيةً. حقيقةً، لقد خطفتني، وما أن تيقّنت أن قلبي عاد ليدّق من جديد، أدركت أنها البداية لخروجي من الاكتئاب.

ليس سهلاً على الإطلاق أن تُحب حقيقتك. وإذا حدث وأحببتها بعيوبها وأخطائها كلها، فليس سهلاً على الإطلاق أن تكتب هذه الحقيقة علناً ليقرأها الآخرون. هذا يتطلب شجاعةً كبيرةً واستعداداً لا يمتلكه الجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image